مقدمة: حضارتان على ضفاف الخصومة
لطالما شكلت مصر وإيران، وهما وريثتا حضارتين من أعرق حضارات التاريخ، قطبين رئيسيين في جغرافيا الشرق الأوسط السياسية والثقافية. ومع ذلك، فإن العلاقة بين القاهرة وطهران منذ الثورة الإسلامية عام 1979 يمكن وصفها بـ "شتاء طويل من القطيعة"، يتخلله أحيانًا هبوب رياح دافئة من المناورات التكتيكية، لكنها سرعان ما تتلاشى أمام ثلوج الخصومة الجيوسياسية المتراكمة. في ظل التحولات الإقليمية المتسارعة، وأبرزها اتفاق التطبيع السعودي الإيراني، والاضطرابات التي أحدثتها عملية "طوفان الأقصى"، يبرز التساؤل مجددًا وبإلحاح: هل يمكن لمصر وإيران طي صفحة الماضي وبدء فصل جديد من التقارب الحقيقي؟ أم أن ما نشهده هو مجرد تحركات براغماتية مؤقتة تمليها ضرورات اللحظة، بينما تظل الحواجز الهيكلية التي تفصل بينهما شامخة وعصية على التجاوز؟
تسعى هذه المقالة إلى تقديم تحليل معمق لمستقبل العلاقات المصرية الإيرانية، مستندة إلى منهجية تجمع بين المراجعة التاريخية والتحليل الجيوسياسي، مع التركيز على العقبات البنيوية والمصالح المتباينة التي تشكل جوهر هذه العلاقة المعقدة، واستشراف السيناريوهات المحتملة لمسارها في المستقبل المنظور.
الجذور التاريخية للقطيعة: من حلف الشاه إلى خصومة الثورة
لا يمكن فهم الحاضر دون العودة إلى اللحظات التأسيسية التي رسمت ملامح العلاقة الحديثة بين البلدين. قبل عام 1979، كانت مصر وإيران (تحت حكم الشاه) ركيزتين أساسيتين في الاستراتيجية الأمريكية بالمنطقة، وحليفتين ضمن ما يعرف بـ "عقيدة التخوم" التي هدفت إلى تطويق المد السوفيتي والقومي العربي. إلا أن انتصار الثورة الإسلامية في إيران وتوقيع مصر على معاهدة كامب ديفيد مع إسرائيل في نفس العام، أحدثا شرخًا زلزاليًا لا تزال ارتداداته مستمرة حتى اليوم.
اعتبرت القيادة الثورية الجديدة في طهران معاهدة السلام خيانة للقضية الفلسطينية وخروجًا على الإجماع العربي والإسلامي، بينما نظرت إليها القاهرة كخيار استراتيجي ضروري لاستعادة أراضيها المحتلة وتأمين مصالحها الوطنية. هذا التباين الجذري في الرؤية أدى إلى قطع العلاقات الدبلوماسية، وتحولت مصر من حليف إلى خصم في الخطاب الإيراني الرسمي. وتعمق هذا الشرخ خلال الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) حيث قدمت مصر دعمًا كبيرًا للعراق، ثم استمرت القطيعة طوال عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، الذي تبنى سياسة "السلام البارد" مع "إسرائيل" والتحالف الكامل مع الولايات المتحدة، وهي سياسة تتناقض جوهريًا مع مبادئ الثورة الإيرانية القائمة على "تصدير الثورة" ومناهضة الهيمنة الأمريكية و"الكيان الصهيوني".
عهد السيسي: ازدواجية الخطاب وعمق الخلاف
مع وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى السلطة في 2013، دخلت العلاقات مرحلة جديدة من التعقيد، يمكن وصفها بأنها "إدارة حذرة للخصومة". ففي حين أن النظام المصري يرى في إيران تهديدًا استراتيجيًا، إلا أنه يستخدم ورقة التقارب معها كأداة للمناورة والضغط على حلفائه وخصومه على حد سواء. وتكشف برقيات دبلوماسية مسربة أن المسؤولين المصريين يتعاملون مع الملف الإيراني بازدواجية لافتة؛ ففي الغرف المغلقة مع المسؤولين الأمريكيين، يظهرون ازدراءً عميقًا للنظام الإيراني ويتفاخرون بوضع شروط تعجيزية لرفع مستوى العلاقات، بينما يرسلون في العلن إشارات إيجابية محسوبة، مثل تسهيل السياحة الإيرانية إلى جنوب سيناء أو الحديث عن أهمية تجديد أضرحة آل البيت في القاهرة.
هذه الازدواجية ليست مجرد تكتيك دبلوماسي، بل هي انعكاس للفجوة الهائلة التي تفصل بين رؤية النظامين لمصر والعالم. ويمكن تفكيك هذه الفجوة إلى عدة حواجز هيكلية رئيسية:
1. المرساة الأمريكية والميثاق الإسرائيلي:
إن الحجر الأساس في السياسة الخارجية المصرية منذ كامب ديفيد هو تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، وهو تحالف يتجاوز المساعدات العسكرية السنوية البالغة 1.3 مليار دولار، ليشمل تنسيقًا أمنيًا واستخباراتيًا عميقًا، وتسهيلات عسكرية حيوية للقوات الأمريكية. ترى واشنطن أن النظام المصري يؤدي أدوارًا وظيفية محددة، أهمها ضمان أمن إسرائيل، وحفظ أمن الملاحة في قناة السويس، واحتواء الفصائل الفلسطينية، ومنع أي تهديد للكيان المؤقت. هذا الدور يجعل أي تقارب استراتيجي مع إيران، التي تعتبرها واشنطن وإسرائيل الخطر الأكبر في المنطقة، أمرًا شبه مستحيل. فالعلاقة مع واشنطن ليست خيارًا سياسيًا يمكن تغييره، بل هي "مرساة" جيوسياسية واقتصادية تمنع السفينة المصرية من الإبحار بعيدًا عن الفلك الأمريكي.
وقد تعززت هذه العلاقة مع إسرائيل لتصل إلى مستوى "السلام الدافئ" في عهد السيسي، حيث شمل التنسيق غارات جوية إسرائيلية في سيناء بموافقة مصرية، وحصارًا خانقًا على قطاع غزة فاق في شدته ما كان عليه في عهد مبارك. هذا التعاون الأمني الوثيق مع عدو إيران اللدود يضع البلدين على طرفي نقيض في أهم ملفات المنطقة.
2. شريان الحياة الخليجي:
يعتمد الاقتصاد المصري الهش بشكل كبير على الدعم المالي والاستثمارات من دول الخليج، وتحديدًا السعودية والإمارات. هذه الدول، التي تعتبر إيران منافسها الجيوسياسي الأول، قدمت دعمًا سخيًا للنظام المصري بعد 2013 لمنع انهياره، وهي تتوقع في المقابل أن تظل القاهرة ضمن المحور المناهض لطهران. وبالتالي، فإن أي محاولة مصرية للتقارب الجاد مع إيران ستواجه حتمًا بفتور خليجي قد لا يتحمله الاقتصاد المصري المأزوم، والذي يعاني بالفعل من ديون خارجية هائلة وتضخم متصاعد.
3. الحرب الأيديولوجية: الإسلام الرسمي ضد الإسلام السياسي:
هناك صدام أيديولوجي عميق بين تصور النظامين لدور الدين في الدولة. فإيران قامت على أساس نظرية "ولاية الفقيه" التي تدمج الدين بالسياسة بشكل كامل، وتتبنى خطابًا ثوريًا يسعى لتغيير الأنظمة في المنطقة. في المقابل، يتبنى النظام المصري استراتيجية تقوم على احتواء "الإسلام السياسي" بكافة أشكاله، سواء كان سنيًا (مثل الإخوان المسلمين) أو شيعيًا. ويرى النظام المصري نفسه حصنًا للعلمانية والقومية في مواجهة ما يعتبره "مشروعًا توسعيًا" إيرانيًا.
ولتحقيق ذلك، يعمل النظام المصري على الترويج لنسخة من "الإسلام الرسمي" أو ما يمكن تسميته "الإسلام غير المسيّس"، ممثلة في مؤسسة الأزهر والتيارات الصوفية. هذا النموذج يركز على الطقوس والروحانيات الفردية ويفصل الدين عن السياسة والمقاومة، وهو النقيض التام للمشروع الإيراني. هذه المعركة على "الوعي" و"شكل الإسلام المقبول" تمثل أحد أعمق خطوط الصدع بين القاهرة وطهران.
4. ساحات الصراع بالوكالة:
تتجلى الخصومة المصرية الإيرانية بشكل واضح في الساحات الإقليمية التي يدعم فيها كل طرف حلفاء مختلفين. ففي سوريا، دعمت مصر المعارضة "المدنية" وسعت للحفاظ على هيكل الدولة، بينما تدخلت إيران عسكريًا لدعم نظام الأسد. وفي اليمن، شاركت مصر (ولو بشكل رمزي) في التحالف الذي قادته السعودية ضد الحوثيين المدعومين من إيران.
لكن ساحة الصراع الأبرز هي فلسطين. فبينما تدعم إيران "محور المقاومة" وتسلح فصائل مثل حماس والجهاد الإسلامي، يلعب النظام المصري دور الوسيط الذي تنيطه به أمريكا وإسرائيل، والذي يهدف بالأساس إلى احتواء هذه الفصائل وتجريدها من أوراق قوتها، وضمان التزامها بالتهدئة. وقد كشفت أحداث "طوفان الأقصى" هذا التناقض بشكل صارخ؛ ففي الوقت الذي كانت فيه فصائل المقاومة تخوض معركة وجودية بدعم إيراني، كان النظام المصري يمارس ضغوطًا هائلة على غزة، ويحكم إغلاق المعابر بالتنسيق مع إسرائيل، بل وسرب معلومات استخباراتية عن استعدادات المقاومة لـ "عمل كبير". هذا الموقف يجعل من مصر طرفًا فاعلًا في المعسكر المضاد لإيران وحلفائها في أهم قضايا المنطقة.
سراب التقارب: مناورات تكتيكية أم تغيير استراتيجي؟
على الرغم من هذه الحواجز الهيكلية، تظهر بين الحين والآخر مؤشرات على تقارب محتمل، مثل المحادثات الأمنية التي تستضيفها بغداد أو مسقط، أو التصريحات الإيجابية المتبادلة. لكن التحليل الدقيق يكشف أن هذه التحركات تندرج في إطار البراغماتية التكتيكية وليس التحول الاستراتيجي.
فمن ناحية، يستخدم النظام المصري ورقة إيران للضغط على حلفائه الخليجيين للحصول على المزيد من الدعم المالي، ولإرسال رسائل إلى واشنطن بأنه يمتلك خيارات أخرى (وإن كانت غير واقعية). ومن ناحية أخرى، تسعى إيران من خلال الحوار مع مصر إلى كسر عزلتها في العالم العربي، وإظهار أن سياساتها أصبحت أكثر قبولًا في المنطقة، خاصة بعد اتفاقها مع السعودية.
ومع ذلك، تظل الفوائد المحتملة من هذا التقارب محدودة جدًا مقارنة بالتكاليف الباهظة. اقتصاديًا، لا يمكن للسياحة الإيرانية المحدودة أو التبادل التجاري الهزيل أن يعوضا مصر عن المليارات التي تتدفق من الخليج أو الامتيازات التي تحصل عليها من الغرب. وسياسيًا، فإن مجرد استعادة العلاقات الدبلوماسية لن يغير من حقيقة أن البلدين يقفان في معسكرين متعاديين في كل قضايا المنطقة تقريبًا.
سيناريوهات المستقبل: بين الجمود والذوبان المحدود
بناءً على ما سبق، يمكن استشراف ثلاثة سيناريوهات رئيسية لمستقبل العلاقات المصرية الإيرانية:
1. سيناريو الجمود (الوضع الراهن): وهو السيناريو الأكثر ترجيحًا على المدى المتوسط. وفيه تستمر حالة "اللا حرب واللا سلم"، مع بقاء العلاقات الدبلوماسية على مستوى منخفض، واستمرار الحوارات الأمنية التكتيكية لإدارة الخلافات ومنع الانفجار، مع بقاء كل طرف في تحالفاته الحالية. ستستمر مصر في دورها الوظيفي ضمن المحور الأمريكي-الإسرائيلي-الخليجي، وستبقى إيران قائدة لمحور المقاومة.
2. سيناريو الذوبان المحدود (التقارب الشكلي): قد تدفع الديناميكيات الإقليمية، مثل رغبة السعودية في التهدئة، القاهرة إلى اتخاذ خطوة رمزية برفع مستوى التمثيل الدبلوماسي مع طهران. قد يشهد هذا السيناريو زيادة طفيفة في التبادل التجاري والسياحي. ومع ذلك، سيظل هذا التقارب شكليًا ومقيدًا بشدة بالخطوط الحمراء التي تضعها واشنطن والرياض وتل أبيب. سيكون أشبه بـ "سلام بارد" جديد، يهدف إلى إدارة الخصومة بدلاً من إنهائها.
3. سيناريو التحالف الاستراتيجي (مستبعد للغاية): يتطلب هذا السيناريو حدوث تغييرات جيوسياسية جذرية، مثل انهيار اقتصادي كامل في مصر يعجز الغرب والخليج عن احتوائه، أو نشوب حرب إقليمية كبرى تعيد رسم خريطة التحالفات بأكملها، أو حدوث تغيير جذري في طبيعة النظام السياسي المصري نفسه. وفي ظل المعطيات الحالية، تبدو احتمالية تحقق هذا السيناريو ضئيلة جدًا، وتدخل في نطاق التكهنات البعيدة.
خاتمة: جداران من الجغرافيا السياسية
في نهاية المطاف، يُظهر التحليل أن مستقبل العلاقات المصرية الإيرانية محكوم بجدارين عظيمين من الجغرافيا السياسية والأيديولوجيا. الجدار الأول هو ارتباط مصر العضوي بالمنظومة الأمنية والاقتصادية الغربية، واعتمادها الوجودي على حلفائها في الولايات المتحدة والخليج وإسرائيل. والجدار الثاني هو التناقض الجوهري بين المشروعين السياسي والأيديولوجي لكلا البلدين، والذي يتجلى في صراع مرير على هوية المنطقة ومستقبلها.
إن أي حديث عن تقارب حقيقي يتجاوز المصافحات الدبلوماسية والمناورات التكتيكية يصطدم بحقيقة أن مصالح البلدين ليست متباينة فحسب، بل هي متعارضة في جوهرها. ولذلك، يبدو أن الشتاء الطويل في العلاقات بين القاهرة وطهران سيستمر، وقد يشهد فترات من الدفء المؤقت، لكن ذوبان الجليد بالكامل يتطلب شمسًا لم تشرق بعد في سماء الشرق الأوسط.
الكاتب: شادي علي