حين ننظر إلى الحرب "الإسرائيلية" على إيران، لا ينبغي لنا أن نقع في فخ التحليل السطحي الذي يقف عند البرنامج النووي الإيراني كذريعة للصراع. فالتاريخ يعلمنا، والشواهد تؤكد، أن من يملك القوة لا يبحث عن مبرر، بل يصنعه. وإذا كان الغزو الأميركي للعراق قد جرى تحت وهم "أسلحة الدمار الشامل"، فإن الحرب "الإسرائيلية" اليوم تُشن تحت وهم "النووي الإيراني"، رغم أن إيران نفسها وقّعت على الاتفاق، وامتثلت لأربعة عشر تقريرًا من الوكالة الدولية للطاقة الذرية يؤكد التزامها. ومع ذلك، قررت الولايات المتحدة، بخبث استراتيجي، الانسحاب من الاتفاق، تمهيدًا لما نشهده الآن.
هذه الحرب ليست على منشآت، ولا على يورانيوم مخصب بنسبة 3.6%. إنها حربٌ على الوجود السيادي، على نمط الاستقلال السياسي خارج الطاعة الغربية. ما يجري هو مشروع قديم، جرى تحضيره على مهل، تشارك فيه غرف العمليات الأمنية في تل أبيب وواشنطن ولندن وباريس. والهدف: ليس فقط تدمير قدرات إيران العسكرية والعلمية، بل تفكيك بنيتها المجتمعية والسياسية والرمزية، كما فعلوا في بغداد وطرابلس.
ذرائع تصنعها القوة لا القانون
من البديهي القول إن القانون الدولي يحرّم شن الحروب الاستباقية، لكن البديهيات تسقط حين تدخل واشنطن على الخط. فكما لم يُحاسب بوش وبلير على خراب العراق، لن يُحاسَب نتنياهو على حربه على إيران، ولن يُسائل أحد ترامب، وإن تورّط بالمطلق في التحريض أو التخطيط أو الدعم. البيان الصادر عن مجموعة السبع، الذي أقر بـ"حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، دون أي ذكر لحق إيران في الرد، يكفي لتبيان حجم الانحياز الأخلاقي والسياسي الذي يتحكم بالمؤسسات الغربية.
لا بل، هذا البيان وغيره يكرس "مذهب الغطرسة الغربية" الذي يجعل من الضحية متهمًا، ومن المعتدي "شريكًا في السلام". هذا تمامًا هو قلب النظام الدولي إلى ما يشبه "قانون الغاب"، حيث القوي يُملي، والضعيف يُعاقب، والمستقل يُسحق.
لماذا إيران؟ ولماذا الآن؟
السؤال الجوهري ليس لماذا تهاجم "إسرائيل" إيران؟ بل لماذا الآن؟ الجواب يتوزع على عدة محاور:
- أولًا، لأن المشروع الصهيوني يعيش ذروة رعبه من صعود قوى إقليمية لا تدور في فلكه، وإيران، تقف حجر عثرة أمام وهم "إسرائيل الكبرى".
- ثانيًا، لأن الانهيارات السياسية في النظام الدولي – من أوكرانيا إلى غزة – خلقت فراغًا جيوسياسيًا تسعى "إسرائيل" لملئه بقوة النار، قبل أن تتمكن روسيا أو الصين أو إيران من استثماره لصالح محور مضاد.
- ثالثًا، لأن إدارة ترامب الثانية تريد "نصرًا خارجيًا" يوازي فشلها في إدارة ملفات غزة وأوروبا، وترى في استخدام "إسرائيل" أداةً لتسجيل مكسب مزدوج: ترويض إيران، واحتواء الداخل الأميركي.
التوازن الإستراتيجي ينقلب
كانت "إسرائيل" تراهن على أن اغتيال القادة سيؤدي إلى الفوضى في الداخل الإيراني. لكن العكس حصل. حتى خصوم النظام التفوا حوله، لأن ما يجري لم يعد نزاعًا داخليًا، بل عدوانًا خارجيًا سافرًا. ولأول مرة، باتت "إسرائيل" تتلقى الصواريخ الإيرانية مباشرة. صحيح أن سلاح الجو "الإسرائيلي" يمتلك تفوقًا تقنيًا، لكن الحرب لا تُحسم بتقنية فقط، بل بالإرادة والسيادة والاستعداد للاشتباك طويل الأمد.
الرواية "الإسرائيلية" عن "السيطرة على الأجواء الإيرانية" كاذبة. الطائرات لم تدخل، والقنابل الخارقة للتحصينات لم تُستخدم، والولايات المتحدة رفضت – حتى اللحظة – تزويد تل أبيب بها. ما يعني أن "إسرائيل" تراهن على حرب استنزاف، وعلى إدخال أميركا تدريجيًا إلى الصراع، عبر توسيع دائرة الاستهداف لتشمل مصالح أميركية، بهدف جرّ البيت الأبيض إلى ساحة الحرب المفتوحة.
مفاوضات بشروط جديدة
الآن، وبعد فشل الضربة الكبرى، وجدت واشنطن نفسها محاصرة. فارتفاع أسعار النفط، وتوتر علاقاتها بالخليج، وتراجع هيبتها في الساحات الأخرى، كلّها عوامل جعلتها تضغط من جديد على إيران لفتح باب التفاوض.
لكن طهران لم تعد الطرف الذي ينتظر شروط الآخرين. بل وضعت هي شروطها: نزع السلاح النووي من المنطقة، إشراك ملف فلسطين في أي مفاوضات، رفع العقوبات، وقف التدخلات، والاعتراف بحقها في الدفاع عن نفسها. وهي شروط قد تبدو مستحيلة في العقل الغربي، لكنها منطقية في ميزان رد الفعل الطبيعي على عدوان عسكري شامل.
العالم العربي والإسلامي في مرآة الغياب
الغريب، أن هذا الصراع الوجودي لا يثير موقفًا عربيًا أو إسلاميًا جامعًا. بل إن بعض العواصم تتعامل مع الحدث كمجرد "أزمة إقليمية بين طرفين". والأنكى، أن بعضها يسارع لإدانة "رد إيران" بينما يغض الطرف عن "عدوان إسرائيل". وهذا يذكرنا بما قاله نعوم تشومسكي مرارًا: الغرب، وبعض حلفائه، لا يقفون مع الديمقراطية أو حقوق الإنسان، بل مع الأنظمة التي تخدم مصالحهم. وكل من يعارضهم، سيُوصف بأنه تهديد، إرهابي، متمرد، خطر وجودي.
نحو شرق أوسط يعيد كتابة قواعد الردع
نحن الآن أمام لحظة مفصلية. ليس فقط لإيران، بل للمنطقة بأسرها. فإن استطاعت طهران الحفاظ على برنامجها النووي المدني، وردع العدوان، وإفشال خطة "تغيير النظام"، تكون قد دشّنت مرحلة جديدة: شرق أوسط لا يُدار فقط من تل أبيب وواشنطن.
أما إذا نجحت "إسرائيل"، ولو جزئيًا، في تفكيك المشروع الإيراني، فستنتقل شهية الحرب إلى ساحات أخرى، لأن هذا المشروع لا يستهدف إيران وحدها، بل كل تجربة سيادية خارج الفلك الغربي.
إعادة تعريف النصر
في ميزان الحرب التقليدي، يبدو النصر مسألة حجم تدمير، وعدد قتلى، ومدى السيطرة على الأرض. لكن في الحروب الحديثة، يُقاس النصر بمدى القدرة على كسر إرادة الخصم، لا إسقاطه فقط. وبحسب هذا المعيار:
- إسرائيل لم تنتصر، لأن إيران لم تُهزم، بل استعادت زمام المبادرة.
- أميركا لم تنتصر، لأن خطتها لتفكيك المحور الإيراني عبر "الضربة الكبرى" تكسّرت على جدار الواقع.
- وإيران لم تُهزم، لأنها ما زالت تمسك بخيوط المبادرة وتضع شروطها على الطاولة.
في النهاية، الحروب لا تُحسم في ساعاتها الأولى، لكنها تُحسم في اللحظات التي يثبت فيها طرفٌ ما أنه غير قابل للكسر. والآن، كل المؤشرات تقول: إيران لم تُكسر. والسؤال الأكبر الذي يجب أن يُطرح في تل أبيب وواشنطن هو: من حقًا سيكتب قواعد الشرق الأوسط القادم؟ وهل بدأ زمن المقاومة الجيوسياسية؟
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]