الخميس 24 تموز , 2025 03:28

القبيلة والدولة في غرب آسيا: تحولات الدور وتوازنات النفوذ

الجولاني والشرق الأوسط والقبائل العربية

اتسمت العلاقة بين القبيلة والدولة في منطقة غرب آسيا (العالم العربي) بتعقيدٍ متزايد، لا سيّما بعد عودة القبيلة إلى واجهة الفعل السياسي والاجتماعي في أعقاب موجة الحراك الشعبي التي اجتاحت المنطقة بدءًا من عام 2010. فقد أدّت التحولات الجيوسياسية والصراعات التي تلت هذا الحراك إلى إعادة إحياء دور القبيلة، ليس بوصفها كيانًا اجتماعيًا تقليديًا فحسب، بل كفاعل سياسي وأمني يمتلك القدرة على التأثير في مسارات الدول وتوازناتها الداخلية.

برزت القبائل العربية بوصفها قوة لا يمكن تجاهلها في عدد من الدول. ففي اليمن، تحالفت القبائل مع حركة "أنصار الله" وشكّلت رديفًا شعبيًا وعسكريًا في مواجهة العدوان الخارجي، كما أدّت أدوارًا تنظيمية وأمنية في المجتمعات المحلية. أما في مصر وليبيا، فقد شهدت الساحة انقسامًا قبليًا بين أطراف النزاع، حيث ارتبطت الولاءات بالسياقات المحلية والجهات المسيطرة. وفي الأردن، ظلّت القبائل عمومًا في صف الدولة، لكنها أظهرت تمايزات لافتة خلال الحرب التي أعقبت عملية طوفان الأقصى، خصوصًا موقف عشيرة الحويطات التي قدّمت أحد أبنائها، ماهر الجازي، في عملية استشهادية في قلب الكيان الإسرائيلي.

في فلسطين، تواجه القبائل ضغوطًا شديدة لإرغامها على الاصطفاف ضد مشروع المقاومة، ومع ذلك فإنّ معظمها لا يزال متمسكًا بموقفه الوطني، باستثناء بعض العائلات القبلية التي اختارت، منذ بدايات الاحتلال، التعاون مع الكيان المؤقت والانخراط في بنيته. أما في لبنان وسوريا والعراق، فقد لعبت القبائل أدوارًا متباينة؛ فتارةً تحالفت مع محور المقاومة، وتارةً أخرى كانت جزءًا من المحور المقابل، بما يعكس مرونة الموقف القبلي وتعدد العوامل التي تؤثر فيه. وتشير وقائع السنوات الخمس عشرة الماضية إلى أن نصف القبائل في هذه البلدان ناصبت العداء للمقاومة، فيما بقي النصف الآخر ثابتًا على مواقفه المناهضة للمشروع الصهيوني.

لقد جاءت عودة القبيلة إلى الواجهة نتيجة تحولات تاريخية وجيوسياسية بدأت بعد عام 2010. فمع انحسار الحراك المدني، تزايدت الصراعات المسلحة وتمددت الجماعات المسلحة ذات الطابع القبلي أو العرقي أو الأيديولوجي، مما أفسح المجال لقوى كبرى كي تعيد رسم خريطة المنطقة عبر أدوات محلية الطابع. ويمكن فهم هذا السياق ضمن استراتيجيات استعمارية قديمة أعيد إحياؤها، كما تكشف وثائق مثل مشروع جورج كامبل (1907)، الذي وإن تم تجميده بعد اتفاقية سايكس-بيكو، إلا أنّ أدواته – وعلى رأسها استغلال القبائل والفكر السلفي – عادت إلى الواجهة، لتشكل جزءًا من "الحرب الناعمة" في "المناطق الرمادية"، بما يشمل الفضاءات القبلية.

من الناحية الاستراتيجية، اعتمدت القوى الكبرى مقاربات مختلفة في التعامل مع القبائل. فالولايات المتحدة تأخرت في فهم البنية القبلية مقارنة بالبريطانيين، الذين درسوا القبائل منذ أواخر القرن التاسع عشر عبر شخصيات مثل غيرترود بيل ولورنس العرب. ومع ذلك، لجأت واشنطن إلى استخدام القبائل في فترات الفراغ الأمني أو في مواجهة قوى مقاومة. ففي أفغانستان استخدمت القبائل لمحاربة الاتحاد السوفيتي، ثم تحالفت مع بعض الزعامات القبلية في مرحلة ما بعد 2001. وفي العراق، بعد حل الجيش النظامي عام 2003، لجأت إلى تشكيل "مجالس الصحوات" من بعض عشائر السنة لمواجهة تنظيم القاعدة، رغم ما شاب هذا المشروع من اختراقات وصراعات داخلية.

أما الكيان المؤقت، فقد انتهج سياسة مختلفة، ترتكز على محاولات طمس الهوية القبلية عبر الطرد، والاستيطان، ومحاولات التجنيد القسري. ومع اندلاع حرب طوفان الأقصى، عاد الكيان ليحاول تطويع بعض قبائل البدو في النقب أو الغور – كقبائل الترابين والجهالين – بهدف السيطرة الأمنية على قطاع غزة، كما يشير إلى ذلك بروز مجموعات كـ"أبو الشباب" التي تعدّ تجليًا مبكرًا لهذا المشروع.

من الناحية المفاهيمية، لا يمكن النظر إلى القبيلة بوصفها وحدة اجتماعية ثابتة، بل يجب التعامل معها كفكرة وأيديولوجيا مرنة وقابلة للتشكّل، تمثّل مشروعًا سياديًا قائمًا بذاته، يتقاطع أحيانًا مع مشروع الدولة أو يتعارض معه. فالقبيلة تتكيّف مع الأدوات الحديثة، وتستخدم وسائل التواصل الاجتماعي، والعلامات التجارية، وتُعيد إنتاج هويتها ضمن سياقات جديدة. العلاقة بين الدولة والقبيلة ليست دائمًا علاقة تنافر، إذ لطالما اعتمدت الدول الحديثة على دعم القبائل لاكتساب شرعية سياسية، كما هو الحال في دول الخليج، غير أن القبيلة تتحول إلى مصدر قلق وتهديد عندما تضعف الدولة المركزية، كما جرى في سوريا والعراق.

لقد أسهمت القبائل في بناء الدول العربية الحديثة خلال القرنين السابع عشر والتاسع عشر، حين كانت الدولة المركزية ضعيفة أو غائبة. ومع قيام الدولة الحديثة وتوسّع وظائفها، بدأت القبيلة تفقد استقلالها السياسي والاقتصادي. وفي دول الخليج، جرى خلال السبعينيات والثمانينيات إضعاف مقصود للقبائل لصالح الدولة المركزية، لكن التسعينيات شهدت نوعًا من "الإحياء" القبلي، كرد فعل على ضعف الأيديولوجيا القومية والعجز السياسي. وتظل العلاقة بين الدولة والقبيلة ملتبسة؛ فالقبيلة صديق مفيد للدولة في أوقات الاستقرار، وعدو محتمل في أوقات الأزمة. كما أن محاولات الدولة لتوظيف القبائل أو إخضاعها – كما حصل في سوريا والعراق والكويت – غالبًا ما ولّدت عدم استقرار.

فقدت النخب القبلية في بعض الدول – مثل الأردن – استقلالها، وأصبحت تعتمد على الدولة في الموارد والامتيازات. كما سعت دول مثل السعودية إلى "إدارة" الهوية القبلية، عبر التحكم في الألقاب والأنساب، في محاولة لمنع التعبئة القبلية الجماعية ضد النظام.

رغم هذا التراجع، لم تفقد القبائل أهميتها كعلامة على الهوية الاجتماعية، فهي لا تزال تؤثر في قضايا مثل الزواج، وحل النزاعات، والتعامل مع الدولة. وتتعامل الدول الخليجية والعراق والأردن مع القبائل من خلال معادلة مزدوجة: فهي تعترف بها كمكوّن من مكونات الهوية الوطنية، لكنها في الوقت ذاته تنظر إليها كتهديد محتمل للنسيج الوطني المتماسك.

من جانب آخر، يواجه شباب القبائل واقعًا جديدًا يتمثل في فقدان الامتيازات التي كانت توفرها القبيلة، ما يؤدي إلى شعور بالإحباط وازدياد التذمّر من "زيف" البنى القبلية وعدم قدرتها على تحقيق تطلعاتهم. في هذا السياق، أصبحت القبائل العابرة للحدود، كقبائل شمر والبكارة والجبور والعقيدات، أدوات في لعبة السياسة الإقليمية التي تمارسها دول مثل السعودية وقطر والإمارات، مما زاد من تعقيد النزاعات الأهلية، لا سيما في سوريا والعراق.

وعندما تضعف الدولة، تعود القبائل إلى الواجهة مجددًا، لكن ليس بالضرورة بقيادة النخب التقليدية، بل من خلال تحالفات جديدة تتشكّل في سياق الأزمات. وقد رأينا هذا في تغطية بعض القبائل للجماعات السلفية الجهادية، أو في دعم النظام السعودي لبعض القبائل في المنطقة الشرقية، أو خلال الأزمة الخليجية مع قطر.

ورغم التغيرات البنيوية، تحتفظ القبائل بقدرتها على التأثير السياسي، من خلال حشد الناخبين، وتأمين الموارد، والتأثير على سياسات الدولة. وتظل بنية الولاء الهرمية – من الفرد إلى الأسرة إلى القبيلة فالدولة – إطارًا لفهم العلاقات الاجتماعية والسياسية، رغم تراجع مركزيتها بفعل التحديث.

في الخلاصة، لم تعد القبائل مجرد وحدات اجتماعية تقليدية، بل تحوّلت إلى فواعل سياسية واجتماعية معقدة، تتشابك أدوارها مع الدولة والقوى الإقليمية والدولية. فرغم التحديث وتراجع الاستقلال الذاتي، لا تزال القبائل تؤدي أدوارًا مؤثرة، وتتكيف مع السياقات الجديدة، وتشارك في صناعة السياسات، وتلعب دورًا في تأجيج أو احتواء النزاعات، مما يجعل فهمها ضرورة لفهم المشهد السياسي في العالم العربي.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور