الأربعاء 19 تشرين ثاني , 2025 03:07

بين البراغماتية والهوية الإسلامية: لماذا تعثّر التطبيع السعودي - الإسرائيلي؟

بن سلمان ونتنياهو وترامب والحرب في غزة

تواجه السعودية اليوم لحظة شبيهة بلحظات التحوّل الكبرى في تاريخ سياستها الخارجية، حيث تتقاطع زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن مع إعادة تشكّل موازين القوى الإقليمية بعد حرب غزة وما قبلها وما تلاها من واقع جديد فرضته عملية طوفان الأقصى. وأوضح ولي العهد خلال ظهوره مع ترامب في المكتب البيضاوي أن السعودية ترى أن بناء علاقات جيدة مع دول الشرق الأوسط أمر إيجابي، لكنها تشدد على ضرورة ضمان تقدم فعلي نحو حل الدولتين قبل الانضمام الكامل لجهود التطبيع.

تجد المملكة نفسها أمام مفترق بين مسارين متوازيين ظاهرياً ومتصادمين عملياً: مسار قائم على البراغماتية الأمنية والتعاون مع الولايات المتحدة ومحاولة استثمار الانفتاح الاقتصادي والسياسي، ومسار آخر يفرضه ثقلها الإسلامي وموقعها السياسي واشتراطات الشرعية الداخلية التي تجعل من القضية الفلسطينية حجر الزاوية في أي قرار استراتيجي.

لقد بدأت ملامح هذا التحوّل قبل سنوات مع اتساع دائرة اتفاقيات أبراهام التي جمعت إسرائيل ببعض الدول العربية برعاية أمريكية، في سياق مشروع موجه لإعادة تشكيل النظام الإقليمي على أسس أمنية تخدم المصالح الإسرائيلية وتحتوي نفوذ محور المقاومة. غير أنّ المملكة العربية السعودية لم تدخل هذا المسار بشكل مباشر، بل اعتمدت نهجاً تدريجياً يقوم على "التطبيع الزاحف"، وهو تكييفٌ محسوب للتقارب غير المعلن مع تل أبيب يسمح بفتح قنوات ضمن حدود مدروسة من دون الانخراط الرسمي الذي قد يخلق شرخاً اجتماعياً ودينياً داخلياً. وفي هذا السياق، رعت الرياض تغييرات تدريجية في الخطاب الإعلامي، وسمحت بعبور الطيران الإسرائيلي في أجوائها، وفتحت باب الحوار غير المباشر بشأن مشاريع دفاعية مشتركة مع واشنطن كان التطبيع جزءاً من ثمنها.

لكنّ عملية طوفان الأقصى وما تلاها من حرب على غزة أعادتا صياغة المشهد بالكامل. فالمملكة التي كانت تُجري مفاوضات سرّية مع واشنطن بشأن اتفاق دفاعي يشمل ترتيبات أمنية مع إسرائيل وجدت نفسها أمام واقع سياسي وأخلاقي جديد. إذ فجّرت الحرب موجة غضب عربية وإسلامية غير مسبوقة أعادت القضية الفلسطينية إلى مركز السياسات الإقليمية بعد سنوات من التراجع النسبي، ووضعت الرياض في مواجهة استحقاق يُذكّرها بثقلها الرمزي باعتبارها "خادمة الحرمين الشريفين". وهو ما دفعها إلى القيام بفرملة شاملة لمسار التطبيع، وإعادة التشديد علناً على شرط إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، وهو شرط كانت الرياض تضعه سابقاً في إطار المواقف الرمزية، لكنه اكتسب بعد الحرب قوة عملية وحاسمة.

الولايات المتحدة من جهتها لم تتخلّ عن سعيها لتوسيع اتفاقيات أبراهام، خصوصاً نحو السعودية التي ترى فيها "الجائزة الكبرى" لممارسة ضغط استراتيجي على إيران ومحور المقاومة. ولهذا ركّزت إدارة واشنطن على تقديم حوافز دفاعية للرياض ضمن صيغة "الاتفاقية الدفاعية المحدودة" التي تمنح المملكة نوعاً من الضمانات الأمنية شبيهاً بنموذج العلاقة الأمريكية مع قطر أو اليابان. لكنّ هذه الصيغة تطرح تحديات جدّية لسيادة دول المنطقة، إذ تعني عملياً تعميق الارتهان للبنية الأمنية الأمريكية، وإعادة إنتاج منظومة التحالفات القديمة التي أثبتت أنّها لم تمنح الخليج استقراراً بقدر ما جعلته ساحة دائمة للصراع.

وتتعامل إيران مع هذه التطورات بوصفها امتداداً لمحاولات محاصرتها عبر بناء شبكة من التحالفات العسكرية العربية - الإسرائيلية. لذا تنظر طهران إلى التطبيع ليس كخيار سياسي عربي فحسب، بل كجزء من معركة استراتيجية تهدف الولايات المتحدة من خلالها إلى الحدّ من عمقها الجيوسياسي وعرقلة محاور نفوذها الممتد من طهران إلى بيروت وغزة وصنعاء. ولهذا عزّزت طهران أدوات ردعها الإقليمي عبر شبكات المقاومة المتحالفة معها، وأدخلت المنطقة في معادلة جديدة تقوم على الردع المتبادل بدل الاحتواء الأمريكي التقليدي.

من جهة أخرى، ساهم التقارب الإيراني – السعودي الذي رعته الصين عام 2023 في إضعاف إطار اتفاقيات أبراهام بشكل جوهري. إذ كان من الواضح أن نجاح الاتفاق الجديد بين طهران والرياض فتح الباب لمرحلة من خفض التصعيد الإقليمي وتفكيك فكرة "التحالف العربي الإسرائيلي ضد إيران"، وهو ما جعل الخطط الأمريكية تبدو أقل واقعية في ضوء استعداد الدول الخليجية للبحث عن توازنات محلية وإقليمية بعيدة عن الاستقطاب الحاد.

لكن العامل الأكثر تأثيراً في قلب الحسابات السعودية يبقى بلا شك حرب غزة. فالمشاهد اليومية للدمار وارتفاع حصيلة الضحايا المدنيين دفعت المملكة لإعادة التموضع بخطاب واضح يدين "الإبادة الجماعية" ويعيد التشديد على مركزية القضية الفلسطينية في سياستها الخارجية. ومع تفاقم الجرائم الإسرائيلية وتزايد الانحياز الأمريكي لتل أبيب، لم يعد بوسع الرياض، حتى من زاوية البراغماتية، أن تستمر في مسار التقارب السابق. وهكذا وجدت نفسها مضطرة للعودة إلى موقعها العربي التقليدي، وإطلاق مبادرات سياسية ودبلوماسية في الأمم المتحدة لحشد دعم دولي لقيام دولة فلسطينية. هذا التحوّل اعتبرته بعض مراكز الأبحاث محاولة من الرياض لإعادة ترميم شرعيتها الإسلامية التي هزّها مسار التطبيع السابق.

لكن رغم هذا التشدد العلني، تواصل السعودية الإبقاء على قنوات الاتصال مع واشنطن، إدراكاً منها أنّ علاقتها بالولايات المتحدة جزء أساسي من توازنها الأمني والاقتصادي. وهنا يظهر "النهج المزدوج" لسياسة ابن سلمان: خطاب عالٍ دفاعاً عن فلسطين، وتواصل براغماتي مستمر لضمان المصالح الأمنية للمملكة، خصوصاً في ظل التنافس مع إيران في ساحات النفوذ الممتدة من اليمن إلى لبنان والعراق.

إلا أنّ صعوبة موقف السعودية لا تكمن فقط في الضغوط الخارجية، بل في إغلاق إسرائيل الباب أمام أي تسوية سياسية. فحكومة نتنياهو اليمينية أعلنت بشكل صريح رفضها التام لفكرة الدولة الفلسطينية، بل وتتبنى خطاباً يدعو لضمّ الضفة الغربية. هذه المواقف اعتبرتها الرياض "معيقة" لأي تفاوض، ما جعل التطبيع "شبه مستحيل"، كما صرّح باحثون سعوديون بارزون في وسائل إعلام عبرية. إذ إنّ أي تقارب مع إسرائيل في ظل حكومتها الحالية سيعرّض الشرعية السعودية لضربات قاسية قد لا تتحملها المملكة في ظرف إقليمي شديد الحساسية.

ولهذا يبدو مستقبل التطبيع بين الرياض وتل أبيب غامضاً إلى حد بعيد. فالشروط السعودية التي تستند إلى مبادرة السلام العربية لعام 2002 لا تجد أي صدى في إسرائيل، والرأي العام العربي الرافض للتطبيع بلغ ذروة غير مسبوقة، والولايات المتحدة غير قادرة فعلياً على فرض أي اتفاق.

في الخلاصة، يتضح أن القضية الفلسطينية أصبحت اليوم مركز الاستراتيجية الإقليمية مجدداً، وأنّ السعودية تجد في هذا التحول فرصة وعبئاً في آنٍ واحد: فرصة لاستعادة مكانتها القيادية العربية، وعبئاً لأنّ أي خروج عن هذا المسار سيكون مكلفاً داخلياً وإسلامياً. كما أثبتت التجارب الأخيرة أن أي نظام مستقر في المنطقة لا يمكن أن ينشأ دون معالجة جذرية للقضية الفلسطينية. ومن منظور إيران ومحور المقاومة، فإن تعثّر التطبيع يعكس فشل الإستراتيجية الأمريكية في دمج إسرائيل بالنظام الإقليمي، ونجاح معادلة الردع التي فرضتها قوى المقاومة.

وهكذا تتجه المنطقة نحو مرحلة جديدة لم تتضح ملامحها النهائية بعد، لكنها بالتأكيد مرحلة لن يكون فيها التطبيع السعودي - الإسرائيلي خياراً قريب المنال.


الكاتب:

حسين شكرون

- محرر في موقع الخنادق

- طالب دكتوراه في العلاقات الدولية والدبلوماسية




روزنامة المحور