الجمعة 21 تشرين ثاني , 2025 11:31

الطائرات المسيرة تحدٍ مستمر: كيف اصطدمت واشنطن ولندن بسرعة تطور الميدان الأوكراني؟

لم تعد الحرب في أوكرانيا مجرد مواجهة عسكرية تقليدية بين جيشين، بل تحولت خلال العامين الأخيرين إلى مختبر مفتوح تُصاغ داخله ملامح الجيل التالي من الحروب. وفي خضم هذا التحول السريع، وجدت الصناعات العسكرية الغربية نفسها مضطرة إلى الركض للحاق بواقع ميداني يتغير يوماً بعد يوم، بينما يبتكر المقاتلون -على الجانبين- حلولاً أكثر مرونة وسرعة مما تستطيع ميزانيات الدفاع الضخمة إنتاجه عبر برامجها البيروقراطية. ويبرز مشروع "فانهايم" (Vanaheim)، الذي أطلقته الولايات المتحدة وبريطانيا في مطلع 2025، مثالاً واضحاً على هذا التناقض بين سرعة الجبهة وبطء المؤسسات الدفاعية.

أعلنت لندن وواشنطن عن مشروع فانهايم خلال معرض الطيران الدولي في بريطانيا، بوصفه مبادرة تستهدف التعامل مع أخطر تحديات ساحة القتال الأوكرانية: الطائرات المسيّرة الصغيرة، خاصة تلك التي تستخدم في مهام الاستطلاع والهجمات الانتحارية الدقيقة من مسافات قصيرة. لم يُصمم المشروع ليكون خط إنتاج سلاح بعينه، بل منصة اختبار ميداني تجمع شركات مختلفة لاختيار أكثر الحلول جاهزية وفاعلية، يهدف إلى تمكين الجندي الفرد من مواجهة الدرونات دون الاعتماد على وحدات الحرب الإلكترونية.

ضم المشروع في مرحلته الثالثة 30 شركة متخصصة، تبارت خلال صيف 2025 في اختبارات ميدانية مكثفة، قبل أن يتقلص العدد إلى 8 حلول فقط اعتُبرت الأنسب. وتركز الاختبارات على تهديدات محددة: الدرونات من الفئتين وعلى رأسها درونات FPV التي أثبتت أنها السلاح الأكثر تأثيراً في الجبهة.

يعتمد فانهايم على دمج رادارات نشطة وسلبية، مستشعرات متعددة، وأنظمة تشويش، لتكوين ما يشبه شبكة حواس إلكترونية هدفها منح القوات الميدانية "وعيا لحظياً" بالبيئة الجوية. الرادارات النشطة توفر قياسات دقيقة للمسافة والاتجاه، أما السلبية فتلتقط الانبعاثات الصادرة من الدرون ذاته دون كشف موقعها. هذا الدمج يُفترض أن يتيح كشف الدرونات الصامتة أو منخفضة البصمة الإلكترونية.

بعد أقل من أربعة أشهر على إطلاق فانهايم، ظهرت في الجبهة الأوكرانية موجة جديدة من الدرونات الروسية المتصلة عبر كابلات ألياف ضوئية، تنقل بياناتها مباشرة بين الدرون والمشغّل دون استخدام أي موجة لاسلكية. هذا التطور شكّل تحولاً جذريا اذ أنه لا يمكن التشويش عليها لأنها لا تستخدم بثاً راديوياً ، تحصل على طاقة مستمرة عبر الكابل، ما يطيل مدة تحليقها، تتمتع بدقة عالية، وتستهدف غالباً مراكز التشغيل الأوكرانية نفسها ومحصّنة ضد ما يسمى القتل الناعم الذي يعتمد على التشويش والإرباك.

بهذه الخطوة، تجاوز الروس الأسس التي بُني عليها مشروع فانهايم. فكل الفلسفة التقنية للمشروع استندت إلى افتراض أن الدرون يعتمد على قناة لاسلكية يمكن تعقبها وتعطيلها. المسؤولون في الشركات المشاركة اعترفوا بأن الاختبارات لم تتضمن أي سيناريو مشابه، وأن نوعية هذا التهديد لم تكن ضمن الحسابات أصلاً.

كان من المتوقع أن يوفر فانهايم حلولاً بسيطة تعتمد على التشويش لتعطيل الدرون وإجباره على الهبوط أو الانحراف. لكن مع درونات الألياف الضوئية، لم يعد هذا النوع من الدفاع مجدياً. وبدأت الجيوش الغربية تتحدث مجدداً عن ضرورة اللجوء إلى القتل الصلب: إسقاط الدرون مادياً عبر الأسلحة النارية الدقيقة، أو عبر الليزر، أو باستخدام طائرات صغيرة تعترضها.

هذا الأمر يحد تحولاً ملحوظاً ويشكل تحدياً في آن معاً. فبينما سعى فانهايم إلى جعل المواجهة سهلة ومتاحة للجندي الفرد، تدفع التطورات الروسية الغرب نحو أنظمة أكثر تعقيداً وكلفة.

يكشف فانهايم هشاشة الفجوة بين برامج التسليح الغربية وسرعة الابتكار الميداني. ففيما كانت واشنطن ولندن تعملان على تطوير منظومة تبدو متقدمة على الورق، كانت الجبهة الأوكرانية تشهد انقلاباً تقنياً قلب فرضيات المشروع رأساً على عقب، وأفقده كثيراً من جدواه قبل أن يدخل الخدمة فعلياً.

لقد حطمت روسيا المشروع قبل ولادته ليس لأنها طوّرت سلاحاً معقداً، بل لأنها اخترعت طريقة مختلفة تماماً في التفكير حول الدرون، طريقة لم يستعد لها أحد في الغرب. وهذا الدرس، الذي جاء من ساحة معركة حقيقية، سيظل يلقي بظلاله على كل برامج الدفاع الغربية في السنوات المقبلة.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور