الأحد 23 تشرين أول , 2022 04:05

معاريف: إسرائيل وقعت في فخ إستراتيجي نصبه الشباب الفلسطيني

الشباب الفلسطيني

تدعو العمليات الفدائية الاخيرة، التي تحدث في الداخل المحتل، كيان الاحتلال إلى التفكير مجدداً حول واقعية طرح "حل الدولتين"، وامكانية تطبيقه فعلياً. وتقول صحيفة معاريف بهذا الشأن، ان "ان التوتر المتواصل في المناطق ينطوي على إمكانية كامنة لتطور تهديدات استراتيجية من ناحية إسرائيل وعلى رأسها "نسخ" نماذج نابلس وجنين الى مواقع أخرى، بشكل يضعضع المكانة المتهالكة أصلا للسلطة ويلزم إسرائيل بالدخول الى فراغات حكومية تنشأ لأجل القضاء فيها على تهديدات امنية".

النص المترجم:

موجة التصعيد في منطقة يهودا والسامرة ترفض الانطفاء، وتجسد بان اسرائيل تغرق بالتدريج بفخ استراتيجي. حجم التحديات الناشئة في الساحة الفلسطينية يزداد، عدد البدائل التي امام اسرائيل يقل، وتلك التي تبقت تتراوح – على الاقل حاليا – بين السيئة والاسوأ. موجة التصعيد الحالية تختلف بمزاياها وبطولها عن تلك التي نشبت وانطفأت حتى اليوم، وعلى رأسها "انتفاضة السكاكين" التي وقعت بقوى متغيرة بين نهاية 2015 وبداية 2016. التصعيد الحالي يعكس مشاكل اساسية عديدة تجسد الصعوبة لمواصلة الحفاظ على الاستقرار النسبي الذي قام على مدى نحو عقد ونصف في المناطق من خلال الادوات المعروفة.

ميزتان اساسيتان هما الابرز للتصعيد الحالي تنبعان اساسا من تيارات عميقة في الساحة الفلسطينية لكنها تؤثر مباشرة على اسرائيل. الاولى هي رفع رأس الجيل الفلسطيني الشاب، ذاك الذي اسس رفاقه شبكات الارهاب مثل "عرين الاسود" في نابلس او "عش الدبابير" في المناطق. جيل Zالفلسطيني بعد العام 2000 ووعيه لم تكويه صدمات الماضي. وهو ينفر من كل صلة بالجهات الفلسطينية "المؤطرة" وعلى رأسها السلطة، يوجد في مجال الشبكة، ويدفع قدماً بأعمال عسكرية تعتمد على أساس أيديولوجي متهالك جدا "شعاري" في معظمه.

الميزة الثانية هي الضعف الوظيفي والفكري المتزايد للسلطة الفلسطينية بقيادة أبو مازن. ينبع هذا الضعف فقط في قسمه الصغير من عدم التقدم في المسيرة السياسية او من غياب حوافز اقتصادية وبقدر أكبر من مزايا الحكم في رام الله: فساد، محسوبية، خرق حقوق انسان، تعفن سياسي عميق وغياب الديمقراطية (منذ 16 سنة لم تجرَ انتخابات في السلطة). معظم الجمهور الفلسطيني ينفر من قيادة السلطة، لكنه يرى فيها "شر لا بد منه" للحفاظ على نسيج حياته. هذه هي الفكرة السائدة في أوساط معظم الجمهور، لكن الشبان كما أسلفنا يبدون ابتعاداً متزايداً عنها ويظهرون عداء – سواء تجاه إسرائيل أم اتجاه السلطة.

ان التوتر المتواصل في المناطق ينطوي على إمكانية كامنة لتطور تهديدات استراتيجية من ناحية إسرائيل وعلى رأسها "نسخ" نماذج نابلس وجنين الى مواقع أخرى، بشكل يضعضع المكانة المتهالكة أصلا للسلطة ويلزم إسرائيل بالدخول الى فراغات حكومية تنشأ لأجل القضاء فيها على تهديدات امنية. لكن لاحقا يمكن للانجذاب ان يتسع لدرجة إدارة شؤون مدنية مثلما كان حتى 1994. تهديد آخر يحدق من جهة حماس، التي تضرب عينيها كل الوقت للاستيلاء على قيادة الساحة الفلسطينية، وترى في "اليوم التالي" لابو مازن فرصة جيدة لهذا الغرض، ضمن أمور أخرى من خلال الدفع قدما بالمصالحة الداخلية وبالانتخابات العامة.

في ضوء هذا الواقع توجد إسرائيل في انكسار استراتيجي. من جهة يفهم الكثيرون فيها الخطر الكامن في التدهور المتواصل الى واقع الدولة الواحدة – سيناريو احتمالات تحققه تتعزز كلما ضعف الحكم الفلسطيني وتعاظمت الصلة المدنية والاقتصادية بين إسرائيل والمناطق. من الجهة الأخرى، فان كثيرين في إسرائيل بل وربما معظم الجمهور يعارضون رؤيا الدولتين التي احتمالية تحققها عمليا متدنية على أي حال، ضمن أمور أخرى في ضوء الانقسام العميق في الساحة الفلسطينية التي في أفضل الأحوال كفيلة بان تسمح "بثلاث دول للشعبين". الأفكار المرحلية التي تعتمد عليها إسرائيل في السياق الفلسطيني في العقدين الأخيرين وأتاحت ظاهرا تجميد الوضع دون اتخاذ حسم استراتيجي، تتبين من خلال التصعيد الحالي بانها ذات مدى محدود. إدارة النزاع، السلام الاقتصادي، مثلما هي أيضا فكرة تقليص النزاع، كان يفترض بها أن توفر الهدوء على مدى الزمن في ظل تجاوز المشاكل الأساس. اما عمليا، فان كل مشاكل الماضي التي تتطلب حلا تبرز وعلى رأسها خطر الاندماج المتواصل بين الجماعتين السكانيتين.

ثمة من يصدون مثل هذا التحليل بجملة من التعليلات: انه يوجد منذ الان ظاهرا فصل بين إسرائيل والفلسطينيين (حجة صحيحة بالنسبة لغزة لكنها تتبدد في سياق الضفة)؛ ولا يوجد أي الحاح لاتخاذ الحسم، وبالتأكيد ليس ذاك المتعلق بالجوانب الإقليمية؛ وان الزمن على أي حال يلعب في صالح اليهود الذي ازداد وزنهم الديمغرافي بشكل سيكبح الان وسيكبح في المستقبل أيضا المساواة العددية بين الجماعتين السكانيتين.

بعد 49 سنة من حرب يوم الغفران من الصواب ان نتذكر بان احدى المشاكل الأساس في الجانب الإسرائيلي – الى جانب الاستخفاف بالعرب وغياب فهم ثقافتهم – كانت الفرضية بشأن انعدام الدافع لاتخاذ الحسم والايمان بقوة الوضع الراهن. مثلما في 1973 وبعد ذلك في اعقاب الانتفاضة الأولى والثانية، ستصل إسرائيل في النهاية الى حسم استراتيجي. لكن من مواقع غير مرغوب فيها من المفاجأة، رد الفعل والدونية – وليس انطلاقا من المبادرة.

نقاش وجودي

ما يجري في الجانب الفلسطيني يعمق كما أسلفنا التشاؤم بالنسبة للمستقبل. أبو مازن يتخذ أكثر فأكثر صورة الزعيم الذي لا يمكنه أن يحدث اختراقا تاريخيا للتسوية؛ المستقبل بعده مفعم بالغموض منذ الان وفي مركزه سلسلة زعماء شاحبون وليس محبوبين في معظمهم، مشكوك أن يرغبوا أو يكون بوسعهم الدفع قدما بحسم لم يتخذه جيل المؤسسين الفلسطينيين؛ وقسم كبير من الفلسطينيين يبدي يأسا منذ الان من الواقع ومن قيادته ويظهروا عطفا لفكرة الدولة الواحدة "التي يمكنها زعما أن تمنحه رفاها اقتصاديا في المدى القصير وربما حتى في المدى البعيد.

كبديل لمنطق السلطة تقف حماس، التي تتطلب شحنة كبيرة من التفاؤل والقناعة الذاتية لأجل الايمان بأن عبء الحكم يخفف بشكل ارتقائي حماستها الأيديولوجية التي في مركزها إقامة دولة على كل ارض فلسطين التاريخية في ظل إبادة إسرائيل.

يدور الحديث إذن عن وقفة حيال جملة هزيلة من البدائل السيئة حين تدق من فوقها كل الوقت ساعة التاريخ. في هذا السياق من الصواب النظر الى البديل القديم لخطوة من طرف واحد، اتخذتها غير قليل من المرات الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل، في الغالب بعد اليأس من القدرة على تصميم الواقع في ظل التعاون مع الطرف العربي. لقد صاغ آرثور روفين بشكل أليم الفكرة بكلمات: "ما يمكننا ان نحصل عليه من العرب ليس مطلوبا لنا، وما هو مطلوب لنا لا يمكننا ان نحصل عليه"، وبذات اهون الشرور اتخذ آخرون: ابتداء من وايزمن وبن غوريون وانتهاء بشارون.

ان الجدال الإسرائيلي الداخلي يتطلب إذن إنعاشا وتحديثا. الجدال المتناكف بين مؤيدي رؤيا الدولتين وأولئك الساعين لمنعه بواسطة تقليص النزاع، فما بالك ضم الضفة، هو جدال عدمي بقدر كبير. اما الجدال الحقيقي الذي يجب ان يدار فهو بين أولئك الساعين لان ينصبوا – بشكل واع وعديم الأوهام - فاصلا ماديا بين الجماعتين السكانيتين، وبين أولئك الذين يؤمنون بالقدرة على مواصلة الإبقاء على الوضع الحالي او حتى تطوير كيان مشترك، رؤيا تؤيدها محافل متطرفة في اليمين وفي اليسار، فيما أن في وعي كل واحد منها ينغرس فكر متضارب حول طبيعة تلك الدولة ومن سيحكمها.

إن مجرد طرح فكرة أحادية الجانب يجر تلقائيا هجوما شديد القوة: سواء من جانب أولئك الذين لا يزالون يؤمنون بالقدر على التوصل الى تسوية متفق عليها بين الشعبين، سواء من جانب طارحي ذاكرة الصدمة لفك الارتباط والتهديدات الأمنية التي خلقها، أم من جانب الذين يرفضون رفضاً باتاً تغييرات إقليمية في نطاق بلاد إسرائيل التاريخية او يحذرون (وعن حق) من شرخ داخلي شديد قد ينشأ في المجتمع اليهودي في اعقاب خطوات كهذه.

محظور الاستخفاف بتلك الحجج ثقيلة الوزن، لكن محظور أيضا ان تسكت هذه التفكير النقدي والحاجة الى النظر مباشرة الى الواقع وتخيل المستقبل وبخاصة ذاك الذي ينعدم خطا فاصلا بين الجماعتين السكانيتين. فاصل كهذا لا يعني بالضرورة دولة مستقلة، بل ربما حكم ذاتي ذو حدود مثلما اعتقد في الماضي الون ورابين. خطاب إسرائيلي داخلي عن الفاصل سيكون بالتأكيد عاصفا، والمستقبل الكامن فيه ليس مثاليا: معقول أن تتواصل التهديدات من جهة الساحة الفلسطينية وسيكون تعلق اقتصادي بذاك الكيان بإسرائيل؛ ليس سهلا هذا إذا كان ممكنا أصلا أن يوجد شريك فلسطيني، وسيتعين على إسرائيل ان تحافظ على ذخائر امنية (وبخاصة التواجد في الغور).

ولا يزال، واقع كهذا سيكون أفضل من السير نحو مستقبل من شأنه أن يكون مليئا بتهديدات داخلية وخارجية خطيرة أكثر بكثير. هذا نقاش وجودي من الضروري للحكومة المستقبلية – إذا ما وعندما تقوم – ان تضعه على رأس جدول اعمالها، وجدير بان يطالبها الجمهور في إسرائيل بذلك.

 


المصدر: معاريف

الكاتب: د. ميخائيل ميلشتاين




روزنامة المحور