الأربعاء 12 آذار , 2025 01:54

التحول الاستراتيجي في الشرق الأوسط: محادثات واشنطن مع حماس وتراجع الهيمنة "الإسرائيلية"

علم فلسطين و علم أميركا

تُعدّ السياسة الخارجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط مشهدًا دائم التغير، لكن الانعطافات الحادة غالبًا ما تُعكس من خلال قرارات تكتيكية تخفي وراءها استراتيجيات طويلة الأمد. عندما قررت إدارة ترامب التفاوض مباشرة مع حركة حماس، لم يكن ذلك تصرفًا دبلوماسية لحظيًا، بل كان اعترافًا ضمنيًا بفشل "إسرائيل" في إدارة ملف الرهائن، وأيضًا بإخفاقها في فرض هيمنتها المطلقة على القضية الفلسطينية. هذا التحول يكشف أزمة متراكمة في العلاقات الأميركية-"الإسرائيلية"، ويؤشر على واقع سياسي جديد قد يعيد تشكيل ميزان القوى في المنطقة.

فشل "إسرائيل" في إدارة الأزمة

يُشكل قرار واشنطن التفاوض مع حماس صفعة سياسية لحكومة نتنياهو التي طالما قدّمت نفسها كحليف لا غنى عنه للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. هذا القرار لم ينبثق من فراغ، بل جاء نتيجة مباشرة لسلسلة أخطاء استراتيجية ارتكبها نتنياهو، أبرزها تعنته في رفض استئناف المحادثات مع حماس رغم الحاجة الملحة لحل أزمة الرهائن الأميركيين و"الإسرائيليين" المحتجزين في غزة.

منذ سنوات، تبنت "إسرائيل" سياسة المماطلة وكسب الوقت على حساب إيجاد حلول جذرية، متجاهلة أن كل لحظة تمر دون اتفاق تضعف موقفها الدولي وتعزز نفوذ خصومها. هذه الاستراتيجية قصيرة النظر جعلت الإدارة الأميركية تجد نفسها مضطرة للتدخل المباشر، متجاوزة الوسيط "الإسرائيلي" التقليدي. إن هذا التجاوز يعكس تآكل الثقة في قدرة حكومة نتنياهو على تقديم حلول عملية بعيدًا عن حساباتها الحزبية والسياسية الضيقة.

الدلالات السياسية لانفتاح واشنطن على حماس

يشكل قرار التفاوض المباشر بين إدارة ترامب وحماس نقطة تحول فارقة في السياسات الأميركية تجاه القضية الفلسطينية. فعلى مدى عقود، التزمت الولايات المتحدة بموقف صارم يرفض أي اتصال مباشر مع حركات مصنفة "إرهابية" وفق تصنيفها، وكانت تصرّ على حصر التمثيل الفلسطيني في السلطة الفلسطينية. إلا أن الواقع على الأرض، وتحديدًا في غزة، فرض معادلات جديدة لم يعد بالإمكان تجاهلها.

 

هذا القرار يحمل في طياته ثلاث رسائل استراتيجية:

  1. سحب التفويض "الإسرائيلي": يعكس انخراط واشنطن المباشر مع حماس فقدان "إسرائيل" احتكارها لملف التفاوض مع الفلسطينيين. لم تعد تل أبيب الطرف الوحيد القادر على التحدث باسم المصالح الأميركية في المنطقة، وهو تطور يُضعف مكانتها التقليدية كشريك لا يُستغنى عنه.
  2. تجاوز السلطة الفلسطينية: تكشف هذه الخطوة حجم التآكل الذي أصاب السلطة الفلسطينية في رام الله، التي باتت في حالة "موت سريري" سياسي، بفعل ترهلها وفسادها وعجزها عن تقديم بدائل سياسية قابلة للحياة. التوجه الأميركي نحو حماس يؤكد أن واشنطن لم تعد ترى في السلطة شريكًا موثوقًا أو قادرًا على تمثيل الفلسطينيين.
  3. الاعتراف بحماس كفاعل سياسي شرعي: مجرد الجلوس مع حماس على طاولة التفاوض هو اعتراف ضمني بشرعيتها السياسية، حتى وإن لم يُترجم إلى اعتراف رسمي. هذه الخطوة تفتح أبوابًا جديدة للحركة نحو عواصم دولية كانت تتردد في التعامل معها خوفًا من ردود الفعل الأميركية و"الإسرائيلية".

حسابات ترامب: البراغماتية أولًا

يعكس قرار إدارة ترامب بالتفاوض مع حماس نهجًا براغماتيًا يتجاوز الاعتبارات الأيديولوجية التقليدية التي حكمت السياسات الأميركية لعقود. الملف الأهم بالنسبة لترامب كان دائمًا هو استعادة الرهائن الأميركيين، وهي قضية ترتبط بشكل مباشر بصورته كرئيس قوي قادر على حماية مواطنيه.

ترامب، الذي يتفاخر بقدرته على إبرام "الصفقات"، رأى في حماس الطرف الأكثر تأثيرًا على الأرض، مقارنة بسلطة فلسطينية فاقدة للنفوذ. لم يكن معنيًا كثيرًا بالمفاهيم القديمة حول "الإرهاب" و"المعتدلين"، بقدر ما كان يبحث عن نتائج ملموسة تخدم أهدافه السياسية الداخلية.

رام الله في مأزق غير مسبوق

في هذا المشهد، وجدت السلطة الفلسطينية نفسها في موقف شديد الحرج. لطالما تشبّثت رام الله بلقب "الممثل الشرعي والوحيد"، وسعت إلى التماهي مع السياسة الأميركية و"الإسرائيلية" أملاً في الحفاظ على دورها المركزي. لكن انفتاح واشنطن على حماس كشف هشاشة هذه الاستراتيجية.

انتقاد الرئاسة الفلسطينية لمفاوضات حماس مع "جهات أجنبية دون تفويض وطني" يعكس حجم الإرباك الذي تعيشه رام الله. هذا الخطاب يُظهر خشية السلطة من أن تُهمَّش بشكل كامل، بعد أن بدأت الولايات المتحدة تنظر إلى حماس كشريك فعلي على الأرض، وليس مجرد تنظيم معارض.

لماذا استجابت حماس؟

بالنسبة لحماس، يمثل الانخراط في محادثات مباشرة مع واشنطن فرصة تاريخية لكسر العزلة السياسية المفروضة عليها، والتخلص من قبضة "إسرائيل" على مسار التفاوض. طوال سنوات، ظلت حماس رهينة لوساطات غالبًا ما كانت تتأثر بالموقف "الإسرائيلي"، ما أدى إلى تعطيل تنفيذ العديد من الاتفاقات.

التفاوض مع واشنطن يمنح الحركة فرصة لطرح روايتها بشكل مباشر، بعيدًا عن التشويه الإعلامي "الإسرائيلي"، ويتيح لها تقديم نفسها كفاعل سياسي مسؤول قادر على التوصل إلى اتفاقات وحل الأزمات. علاوة على ذلك، فإن القناة الجديدة تُضعف موقف السلطة الفلسطينية التي طالما احتكرت التمثيل السياسي في المحافل الدولية.

التحديات والمخاطر

رغم الفرص التي يوفرها هذا المسار، فإنه يحمل أيضًا تحديات كبرى. أولها أن حماس تخاطر بتقديم تنازلات قد تؤثر على موقفها الثابت في المقاومة، خاصة إذا مارست واشنطن ضغوطًا تتعلق بنزع السلاح أو تغيير استراتيجياتها السياسية.

ثانيًا، يُمكن أن يؤدي الفشل في التوصل إلى اتفاق إلى انتكاسة سياسية، حيث ستجد الحركة نفسها في مواجهة انتقادات داخلية تتهمها بالارتهان لوعود أميركية قد لا تُنفذ.

نحو مشهد سياسي جديد

ما نشهده اليوم ليس فقط تحركًا تكتيكيًا، بل بداية لمرحلة قد تعيد رسم خارطة التحالفات في الشرق الأوسط. انهيار احتكار "إسرائيل" للوساطة، وتراجع مكانة السلطة الفلسطينية، وصعود حماس كطرف تفاوضي مباشر، كلها عوامل تشير إلى نظام إقليمي جديد قيد التشكل.

في هذا السياق، يُصبح من الضروري مراقبة كيفية استجابة الأطراف الإقليمية لهذا التحول، خاصة تلك التي طالما رأت في حماس تهديدًا لنفوذها. كما سيكون على الحركة أن تدير هذه المرحلة بحذر، لتجنب الوقوع في فخاخ التنازلات التي لا تخدم أهدافها الاستراتيجية.

كما أن الانفتاح الأميركي على حماس يُمثل فرصة نادرة، لكن النجاح في استثمارها يتطلب موازنة دقيقة بين تحقيق مكاسب سياسية آنية، والحفاظ على الثوابت الاستراتيجية. المشهد الجديد يُعيد تعريف أدوار الفاعلين التقليديين، ويُهيئ لمرحلة قد تشهد تحولات جذرية في الصراع الفلسطيني-"الإسرائيلي".

استراتيجية جديدة أم مقامرة محفوفة بالمخاطر؟

ما يجري اليوم هو أكثر من مجرد مفاوضات حول ملف الأسرى. نحن أمام إعادة صياغة للعلاقات السياسية في المنطقة، حيث تتراجع مكانة إسرائيل كوسيط حصري، وتتقلّص قدرة السلطة الفلسطينية على احتكار التمثيل السياسي.

بالنسبة لحماس، هذه فرصة تاريخية لإثبات نفسها كطرف شرعي قادر على التفاوض وتحقيق نتائج. وبالنسبة لواشنطن، فإن هذا المسار يوفّر بديلاً عن التعنّت الإسرائيلي، ويفتح باباً لتحقيق تقدم في ملفات شديدة التعقيد.

الأسابيع القادمة ستكشف ما إذا كان هذا التحوّل سيقود إلى حلول مستدامة، أم أنه سيُفضي إلى مزيد من التعقيد. لكن ما هو مؤكد أن معادلات القوة التقليدية في المنطقة بدأت تتغير، وأن حماس أصبحت رقماً صعباً لا يمكن تجاوزه.

في النهاية، يبقى السؤال الأكبر: هل ستتمكن حماس من الخروج من هذا التفاوض بكثير من المكاسب، أم أن التعقيدات الإقليمية والدولية ستجعلها تخضع لتنازلات؟ الأيام القادمة وحدها كفيلة بالإجابة.


الكاتب: محمد الأيوبي

الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]



وسوم مرتبطة

دول ومناطق


روزنامة المحور