في تطوّر لافت وغير مألوف في السياق الداخلي الإسرائيلي، نشر مئات الطيارين العسكريين، وما يزيد عن 1500 جندي وضابط احتياط في الجيش الإسرائيلي من الذين تجنّدوا في الخدمة العسكرية منذ بدء حرب طوفان الأقصى 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، عرائض علنية عبّروا فيها عن احتجاجهم العميق على استمرار العمليات العسكرية في قطاع غزة، على حساب قضية استعادة الأسرى والمحتجزين من خلال صفقة تبادل مع المقاومة الفلسطينية حماس.
وفي بداية شهر آذار الماضي، مع استئناف الحكومة الإسرائيلية حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وتجميد المرحلة الثانية من صفقة التبادل، أصبح خطاب الاحتجاج حادّاً ومرتفعاً في اتهام رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وحكومته، وتحميلهم مسؤولية فشل استعادة الأسرى لأسباب سياسية واعتبارات شخصية، تدور حول طموحات نتنياهو السياسية وتمسكه بالسلطة، وبات ينظر المحتجون إلى استئناف الحرب باعتبارها "حكم إعدام"على الأسرى والمحتجزين.
في هذا السياق يُمكن الإشارة إلى مجموعة متغيّرات:
خلق مسار "الانقلاب المؤسسي" في الجيش وجهاز الشاباك والجهاز القضائي الذي يقوده رئيس الوزراء ومن خلفه كتلة اليمين المتطرّف، مناخاً داخلياً يسمح بتوسيع دائرة الاحتجاج سياسياً واجتماعياً ضد الحكومة ورئيسها ومشروعها. أسهم ذلك في اتساع رقعة معارضة قرار المستوى السياسي من داخل المؤسستين الأمنية والعسكرية لأولويات الحرب وضرورة إعادة الأسرى والمحتجزين، وقد تُرجم ذلك في ظهور تكتّل تقوده نخب وقيادات عسكرية وأمنية سابقة وكذلك في عرائض احتجاج من داخل الجيش وقّع عليها آلاف من جنود وضباط (نظاميين واحتياط) انضموا لعريضة الطيارين، وقيادات أمنية سابقة وأكاديميون طالبوا بضرورة الإسراع لإبرام صفقة تبادل حتى وإن كان ثمن ذلك وقف الحرب، بالإضافة إلى انتقاد سلوك تقويض الديمقراطية الإسرائيلية والتماسك الاجتماعي الداخلي. هذه المتغيّرات، ساهمت في إعادة إنتاج قضية إعادة الأسرى والمحتجزين بوصفها أولوية على العمليات العسكرية، وأبرزت مرّة أخرى مبدأ "أولوية المواطن" في مواجهة "أولوية الأمن" التي يختبئ خلفها نتنياهو وحكومته لإطالة أمد الحرب على غزة.
حدود تأثير الاحتجاجات
استحواذ قضية استعادة الأسرى على مساحة كبيرة من التغطية الصحافية والإعلامية، يتأتّى في سياق "المسؤولية المجتمعية" و"شرعية المواطن"، ومن جهة أخرى مناهضة سياسة اليمين المتطرّف وشخص نتنياهو. لكن لا تبدو هذه الأصوات ذات تأثير حاسم في قرارات الحكومة الإسرائيلية، مع أنها فتحت مسار انقسام وشرخ داخلي إسرائيلي عميق، سيستمر بعد نهاية الحرب، مضافاً إلى اتهامات بتقويض الديمقراطية الإسرائيلية وفشل اليمين الإسرائيلي السياسي والأمني، وفي هذا الصدد، تتزايد التحذيرات الداخلية من حرب أهلية تقول شخصيات سياسية إسرائيلية إن وقوعها لم يعد مستبعداً.
تشير خطابات وشعارات حركة الاحتجاج في الداخل الإسرائيلي، إلى أن رفض استمرار الحرب لا يتأتّى من موقف أخلاقي أو إنساني رافض لاستمرار حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني، وإنما نابع من موقف مرتبط بـ "أولوية المواطن" في مقابل "أولوية الأمن" الذي تتبنّاه الحكومة الإسرائيلية، فتواجه هذه الاحتجاجات منطق اليمين القائل بضرورة استمرار الحرب من أجل حماية "كافة مواطني إسرائيل" بإبراز العلاقة بين "واجب حماية كافة المواطنين وواجب إطلاق سراح المختطفين"، باعتبار أن الالتزام بحماية جميع المواطنين يستلزم الالتزام بإنقاذ الأسرى والمحتجزين، كـ"مواطنين في الدولة".
الكاتب: غرفة التحرير