يشكل العدوان "الإسرائيلي" على غزة استهدافاً شاملاً لكل مفاصل الحياة، ويضع الفلسطينيين تحت وطأة الموت في مختلف أنحاء القطاع. فمن لا يُقتل تحت القصف الهمجي، يُترك فريسة للحصار الخانق الذي يفرضه كيان الاحتلال، مانعاً إدخال الماء والطعام في إطار سياسات ممنهجة تهدف إلى إخضاع الفلسطينيين وتجويعهم. وبعد فتورٍ نسبي في موجة التظاهرات والتنديدات، خاصة في الدول الأوروبية والولايات المتحدة -بعد موجة تحركات سابقة تمثّلت في اعتصامات طلاب الجامعات وغيرها- عادت القضية الفلسطينية لتتصدر واجهة الأحداث مجدداً، وذلك إثر العملية التي نفّذها مواطن أمريكي يدعى إلياس غونزاليس، حيث استهدف اثنين من الدبلوماسيين العاملين في السفارة "الإسرائيلية" في واشنطن، مردّداً شعار: "الحرية لفلسطين" ومن الطبيعي أن تُفضي مثل هذه العمليات، لا سيما في دولة كأمريكا، إلى تأثيرات متعدّدة على المسارات السياسية، داخلياً وخارجياً. فكيف ستنعكس هذه العملية على الداخل "الإسرائيلي"؟ وما هي السيناريوهات التي يمكن أن تنشأ عنها؟
بين اليمين واليسار
بعد هذه العملية، ظهرت الانقسامات الداخلية في كيان العدو مجدداً إلى العلن، حيث جرى تبادل للاتهامات بين مكونات حكومة العدو، لا سيما بين اليمين واليسار. فوفقاً لوجهات نظر اليسار، كما عبّر عنها يائير جولان، فإن حكومة نتنياهو – التي وصفها بـ -"كاهانا هاي"- هي من تغذي "معاداة السامية"، وتخلق جواً من "الكراهية لإسرائيل"، مما أدى إلى عزلة سياسية غير مسبوقة، وعرّض "يهود العالم للخطر"، محملاً الحكومة الحالية مسؤولية هذا الواقع. في المقابل، جاء ردّ اليمين، عبر ايتمار بن غفير، الذي اتهم اليسار بالتحريض على "الجيش الإسرائيلي"، من خلال اتهامه بقتل الأطفال، ما أسهم -بحسب رأيه- في تقوية معاداة السامية حول العالم. هذا التباين في المواقف يعكس نقاشاً حاداً داخل كيان الاحتلال حول جدوى استمرار الحرب على غزة. فبينما يرى فريق أن هذه الحرب أصبحت سبباً مباشراً في دفع أفراد للقيام بعمليات ضد "الإسرائيليين"، وبالتالي يجب أن تتوقف، يرى فريق آخر أن وقفها سيُظهر ضعفاً ويشجّع على المزيد من "الهجمات"، لذا يجب أن تتسع وتشتد.
السيناريوهات المحتلمة
في ضوء العملية الأخيرة وما رافقها من تفاعلات داخلية وخارجية، تبرز مجموعة من السيناريوهات المحتملة التي قد تشكّل مسارات المرحلة المقبلة:
أولاً، من المرجّح أن تتجه الولايات المتحدة، ودول غربية أخرى، نحو تشديد الإجراءات الأمنية، خصوصاً حول البعثات "الإسرائيلية"، وفرض قيود إضافية على المهاجرين، لا سيما من الجاليات العربية والمسلمة، في ظل استغلال الأوساط اليمينية لما جرى لفرض سياسات أكثر صرامة بدعوى حفظ الأمن.
ثانياً، قد تتفاقم الانقسامات الداخلية في كيان العدو بين مكونات الحكومة، حيث تتصاعد التوترات بين اليمين واليسار، ما قد يؤدي إلى موجة احتجاجات أو ضغط شعبي متزايد على حكومة نتنياهو، في ظل النقاش المتصاعد حول جدوى الحرب على غزة.
ثالثاً، من الممكن أن تزداد العزلة السياسية للكيان على المستوى الدولي، مع اتساع رقعة الانتقادات الرسمية والشعبية في العالم، وارتفاع منسوب الغضب الشعبي من مشاهد المجازر في القطاع، وارتباط العمليات الخارجية بها.
وأخيراً، يقف المشهد أمام احتمالين متضادين: إما الدفع نحو مسارات تفاوضية جديدة تهدف إلى وقف العدوان وفتح أفق سياسي، أو انزلاق المنطقة نحو تصعيدات أشد خطورة، خصوصاً إذا استمر الاحتلال في نهجه الراهن في غزة.
أمام ما يشهده العالم من تصاعد في المواقف المرتبطة بما يجري في غزة، تبرز أهمية تحرك عالمي فاعل وجاد، يتجاوز الإدانة اللفظية إلى ضغط حقيقي لوقف الإبادة الجماعية التي يتعرض لها المدنيون في القطاع. فمحاولات كيان الاحتلال تبرير عدوانه بذريعة "القضاء على حماس" -التي كانت تمتلك أساساً كل المشروعية في مواجهة الاحتلال الذي يهدد الفلسطينيين وأرضهم- لا يشرع له دولياً استهداف الأطفال والنساء وتدمير البنى التحتية.
الكاتب: غرفة التحرير