في ظلّ التهديدات المتصاعدة من الكيان الإسرائيلي، ووسط أزمات الدولة اللبنانية وعدم قدرتها على فرض حماية شاملة، يطرح سؤال مركزي نفسه، وتروج له وسائل إعلام معادية للمقاومة ومرتبطة بالسفارتين الأميركية والسعودية في بيروت: هل تستطيع المقاومة المسلّحة اليوم أن تحمي لبنان لا سيما بعد معركة أولي البأس؟
إنّ الإجابة المنطقية والبرهانية، استنادًا إلى تجارب الماضي والوقائع الراهنة والقدرات العسكرية القائمة والأدلة الشعبية والقانونية، تثبت بما لا يقبل الشك أنّ المقاومة ما تزال قادرة على حماية لبنان، ومنع غزوه من الاحتلال الإسرائيلي، وهي صمام الأمان، والضمانة الأساسية لأمن لبنان واستقلاله.. لكن كيف؟
أولاً: التجربة التاريخية برهان واقعي
عدوان نيسان 1996: السلاح فرض على إسرائيل معادلة “تفاهم نيسان” التي كرّست حماية المدنيين، وحقق استقرارًا في الجنوب، وازدهاراً اقتصادياً في زمن حكومة الراحل رفيق الحريري.
التحرير عام 2000: بعد 22 عامًا من الاحتلال، لم تحرر القرارات الدولية ولا الدبلوماسية ولا أصدقاء لبنان شبراً واحداً، بل أنجز السلاح التحرير بلا قيد أو شرط، وخرج جيش الاحتلال مذلولا تاركاً وراءه عملاءه اللحديين على قارعة الطريق.
عدوان تموز عام 2006: جيش الاحتلال هدف إلى سحق المقاومة وتدمير لبنان، لكن السلاح حمى لبنان، وأفشل الأهداف، ورسّخ معادلة ردع متبادل.
هذه المحطات ليست ذكرى، بل أدلة عملية: لولا السلاح، لما بقي جنوب لبنان محرّرًا، ولما عجزت إسرائيل عن تكرار اجتياح 1982.
ثانياً: ترميم القدرة والردع المتبادل
إسرائيل اعتادت أن تكون رادعة غير مردوعة. اليوم هي تعترف أنّ أي عدوان واسع على لبنان سيُقابَل بآلاف الصواريخ في عمقها الاستراتيجي. تصريحات كبار قادتها تكشف أنّ قدرات حزب الله الصاروخية ما تزال جزءًا من حسابات الأمن القومي الإسرائيلي، وأن المقاومة تمتلك بحوزتها نحو 40 % من ترسانتها الصاروخية أي نحو 45 ألف صاروخ وفق معهد ألما الإسرائيلي. وما الضغوط الأمريكية المتزايدة على لبنان إلا لأن هذا السلاح ما يزال فاعلاً ومؤثراً ومقلقاً لهم.
لذا ورغم الاعتداءات الإسرائيلية التي يسعى الاحتلال من خلالها ترسيخ واقع معيّن، ألا ان إسرائيل لا تجرؤ على تنفيذ اجتياح واسع للبنان، رغم قوتها الجوية وتفوقها التكنولوجي والعسكري، وهي مكبّلة بالردع المتبادل، وإلا لماذا لا تجتاح الجنوب وصولا الى بيروت كما فعلت عام 1982. هذا بحد ذاته دليل أنّ المقاومة اليوم تشكّل قوة ردع دفاعية حقيقية.
ثالثاً: الواقع الميداني الراهن
رغم الحرب السورية وانخراط الحزب في مواجهة الجماعات الإرهابية التي هددت وما تزال لبنان، ورغم الحرب القاسية التي خاضتها المقاومة في معركة "أولي البأس" لكن لم تفقد المقاومة قدراتها الأساسية ولا جهوزيتها، بل طوّرت ترسانتها كماً ونوعاً، حتى صارت أكثر قدرة من 2006 على صد أي عدوان. واستفادت من دروس وعبر عدوان أيلول 2024. إسرائيل نفسها تقرّ بأن حزب الله راكم خبرات قتالية جديدة، وأن المواجهة معه “مكلفة وغير محسوبة النتائج" لا سيما ان 66 يوماً من الحرب البرية في الجنوب لم يستطع جيش الاحتلال الذي دفع ب 75 ألف جندي وضابط مدعوماً بقوة جوية هائلة ومساعدة أمريكية مفتوحة، التقدم سوى مئات الأمتار في الحافة الأمامية.
البرهان العملي: منذ وقف إطلاق النار قام العدو الإسرائيلي وبعد سلسلة اغتيالات طالت عدداً من القيادات العسكرية في المقاومة، لكنّه امتنع عن توسيع المعركة، لأنه يدرك أنّ قدرات المقاومة كفيلة بتحويل الحرب إلى كارثة على الجبهة الداخلية الإسرائيلية، ونموذج ذلك كان في يوم "الأحد الأسود" قبل يومين من موافقة الاسرائيلي على وقف إطلاق النار حيث دكّت المقاومة العمق الإسرائيلي في تل أبيب ووزارة الحرب الاسرئيلية ب 360 صاروخ ومسيّرة انقضاضية.
رابعاً: إن الخلل الذي أصاب القيادة والسيطرة في المقاومة أثناء العدوان الأخير على لبنان تم ترميمه، من خلال تعيين قادة عسكريين جدد وكفوئين من الجيل الثاني في الحزب، يمتلكون الخبرة والجرأة، ويمتازون عن أقرانهم بالشجاعة والذكاء، وسط غموض كامل، حتى ان المستوى السياسي في الحزب أغلبه لا يعرف لا أسماءهم ولا وجوههم، واقتصر الأمر على دائرة ضيقة جدا في قيادة الحزب، ما جعل العدو أعمى، وغير قادر على الوصول اليهم، وهذا ما حاول فعله خلال الأشهرالثمانية الماضية بعد وقف إطلاق النار لكن دون جدوى.
خامساً: إن الحرب الاخيرة وحدها لا يمكن ان يُبنى عليها كل شيء، لأن المقاومة حققت ردعاً وحماية للبنان منذ عام 2000 الى 2024، اما وأنه حدثت طفرة تكنولوجية، وحققت إسرائيل بمساعدة أميركية كبيرة، إنجازا ما باغتيال عدد من قياديها، هذا لا يعني ان اسرائيل قادرة على السيطرة واحتلال لبنان، فكما ان المقاومة في السنين التي مضت كان لديها عائق اسمه دبابة الميركافا فخر الصناعة الإسرائيلية، لكن تم معالجة هذا الضعف وأنهت المقاومة أسطورة هذه الدبابة، فإن المقاومة التي لا تملك الا خيار المواجهة، والدفاع عن الأرض والوطن فهي قادرة بقادتها العسكريين الجدد، وأدمغتها الشابة اجتراح الحلول ومعالجة هذا الخرق التكنولوجي الاسرائيلي، وهو ما بدأ بالفعل داخل الحزب وأجهزته العسكرية والأمنية حيث الغموض والكتمان يحيط بها وبأدائها وأفرادها وقيادتها.
كما ان المعيار في الحروب هو إخضاع الطرف الآخر والسيطرة على الأرض وليس من يتفوق في السماء فحسب، المقاومة أمسكت بالميدان مدة 66 يوما، وفشل جيش الاحتلال في التقدم الى القرى الأمامية الملاصقة للحدود لا الخيام ولاعيتا ولا شمع ولا غيرها.
سادساً: الدعم الشعبي وشرعية المقاومة
كشف استطلاع حديث للرأي قبل أيام أن 58 % من اللبنانيين يرفضون نزع السلاح دون استراتيجية دفاعية، وان 72% يجزمون بأن الجيش اللبناني غير قادر على ردع إسرائيل، فيما أكد 76% ان الدبلوماسية عاجزة عن حماية لبنان.
هذه الأرقام عابرة للطوائف، وتعكس أن خيار المقاومة ليس خيار حزب أو طائفة، بل خيار غالبية شعبية ترى في السلاح قوة حماية لا يمكن الاستغناء عنها، لا سيما مع تزايد المخاطر على لبنان من الكيان الاسرائيلي الذي يتحدث عن تنفيذ الحلم التلمودي "إسرائيل الكبرى"، او الخطر القادم من الشرق على الحدود اللبنانية مع سوريا في مواجهة الجماعات المسلحة والحكم السوري الانتقالي الجديد في دمشق.
سابعاً: ضعف الدولة والجيش يفرض الحاجة للمقاومة
إن الجيش اللبناني، رغم تضحياته وعقيدة أفراده وضباطه، يفتقر إلى العتاد الكافي، ويعتمد على مساعدات مصدرها الأساسي الولايات المتحدة، الداعم الأول لإسرائيل. كما ان الجيش مؤسسة تتبع في قرارها للحكومة اللبنانية، هذه الحكومة التي استسلمت أمام الضغوط الأمريكية والسعودية، ولم تتلقى أي ضمانات حقيقية. فكيف يُنتظر منه أن يفرض معادلة ردع استراتيجية؟ في المقابل، المقاومة تمتلك القرار المستقل والإرادة القتالية، إلى جانب سلاح أثبت فعاليته.
البرهان العقلي: إذا كانت حجة الخصوم في الداخل ان السلاح لم يعد قادراً على الحماية من إسرائيل لهذا ينبغي ان يُنزع، إذن يصبح مشروعاً السؤال: لماذا لا يُنزع السلاح من الجيش اللبناني أيضا؟ مهما كان حجمه بما انه أيضا عاجز عن حماية لبنان، بالطبع أي عاقل سيرفض ذلك، فكما ان الجيش لا يمكن ان يُسلّم سلاحه كذلك المقاومة في ظل الاحتلال لا يمكن ان تُسلّم السلاح، بل ان تسليم السلاح أثناء الحرب وفي ظل وجود الاحتلال هو خيانة عظمى ينبغي محاكمة فاعليها.
ثامناً: الدبلوماسية لا تكفي
التجربة اللبنانية والعربية أثبتت أن القرارات الدولية لا تُطبَّق إلا بضغط القوة. لا القرار 425 ولا 1701 ولا اتفاقات الهدنة وفّرت حماية للبنان. ما أجبر إسرائيل على الانسحاب أو وقف العدوان كان دوماً الضغط العسكري للمقاومة. وأثبتت كل التجارب التاريخية بالبرهان أن الدبلوماسية بلا قوة داعمة على الأرض (عسكرية واقتصادية ودبلوماسية وشعبية..) تبقى حبراً على ورق.
تاسعاً: الشرعية القانونية الدولية
القانون الدولي نفسه يكفل حق الشعوب في مقاومة الاحتلال بجميع الوسائل، بما فيها الكفاح المسلّح. استمرار احتلال مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، والنقاط الخمس والاعتداءات الجوية والبرية اليومية، يمنح المقاومة غطاءً قانونياً يبرّر استمرار سلاحها.
بالأدلة والبراهين يمكن القول:
-التاريخ برهن أن السلاح حرر وردع.
-الواقع يثبت أن إسرائيل مردوعة.
-الشعب اللبناني بغالبيته يؤيد بقاء السلاح.
- الدولة عاجزة، والدبلوماسية أخفقت.
-الجيش غير مسلح وتُفرض عليه قيود أميركية، ويحتاج الى قرار سياسي غير متوفر وممنوع عنه.
-القانون الدولي يشرّع المقاومة، ويعطي الحق للدفاع عن النفس لا سيما في ظل غياب الدولة او عدم قدرتها على تحقيق الردع ومواجهة العدو.
-الأهم ان المقاومة رممت قدراتها العسكرية، أنشات قيادة عسكرية جديدة مخضرمة، طورّت تكتيكاتها العسكريةوالاستراتيجية، تمتلك حافزية عالية وتنتظر اللحظة الحاسمة وقرار قيادتها، واللحظة التي يبدأ فيها الإسرائيلي عدوانه الجديد للقتال قتالاً كربلائياً في معركة وجودية قد تكون حاسمة.
بناءً على ذلك، فإن القول إن المقاومة قادرة على حماية لبنان ليس شعارًا عاطفيًا، بل استنتاج برهاني يقوم على الوقائع. السلاح اليوم ليس عبئًا على لبنان، بل درع وجوده وسيادته. وكل نقاش جدي حول مستقبل لبنان يجب أن ينطلق من هذه الحقيقة: المقاومة ضرورة وطنية لا بديل عنها في الظروف الراهنة.
-إعلامي وباحث سياسي.
- استاذ الإعلام في الجامعة اللبنانية.
-دكتوراه في الفلسفة وعلم الكلام.
- مدير ورئيس تحرير موقع الخنادق الالكتروني.