من يتابع مسيرة حزب «القوات اللبنانية» لا سيما في العام المنصرم يكتشف أن الحزب الذي قدّم نفسه لعقود بوصفه «المشروع البديل» يعيش اليوم في دوّامة لا تنتهي من الخيبات. فكلما رفع شعاراً كبيراً، سقط الشعار فوق رأسه. وكلما فتح معركة جديدة، انتهت عليه بخسارة مدوّية. حتى باتت القوات أشبه بفرقة سياسية تعزف على أوتار أوهامها وحدها، بينما الشارع اللبناني ينظر إليها بابتسامة ساخرة ويقول: "مش هينة تكون قوات… لازم تكون "ساقط" لتكون قوات".
الرهان على العدو الإسرائيلي للقضاء على المقاومة
في لحظة العدوان الإسرائيلي على غزة وتوسعه إلى لبنان، هلّلت قيادة معراب معتبرة أن «الفرصة التاريخية» قد حانت: فرصة تصفية المقاومة، وإعادة خلط الأوراق، وتغيير موازين القوى الداخلية. لكن المفارقة أن النتيجة جاءت معاكسة: المقاومة لم تُهزم، وخرجت أكثر قوةً على الساحة الداخلية، ترجم بعض هذا الواقع مشهدية التشييع المليوني التاريخي غير المسبوق للسيدين الشهيدين، ومشاركة الحزب في الحكومة رغم كل الضغوط والمحاولات لمنعه، والفوز في الانتخابات البلدية، وتجميد مفاعيل قراري الحكومة حول حصرية السلاح في اجتماع 5 أيلول، وصولاً الى إحياء مناسبة الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد سيد شهداء الأمة السيد حسن نصر الله والسيد الشهيد هاشم صفي الدين، وما تخللها من مواقف ونشاطات وفعاليات، وإضاءة صخرة الروشة وتداعياتها ورسائلها لخصوم الداخل وأعداء الخارج ليست آخرها. إذن المعادلة ما تزال هي هي، المقاومة باقية وقد رممت قدراتها وعالجت ثغراتها، والثنائي الوطني رقم صعب وجزء لا يتجزء من المعادلة السياسية اللبنانية، ولا يمكن إقصاؤه. أما القوات اللبنانية فبدت في موقف من راهن على خرق السفينة لإغراق المقاومة التزاماً منها بأجندة خارجية وإقليمية لا تكترث للبنانين والفتنة الداخلية وقالت "وإن يكن"، الأمر الذي يرفضه اللبنانيون، فسقوط الهيكل وانهيار الدولة لن يكون حتما لمصلحة أحد، والحزب يرفض ذلك باعتباره خطاً أحمرا، بل يبذل جهدا لمنع العودة الى الحرب الأهلية، اما إذا أرادوا فرض خيار الحرب والفتنة الداخلية التي يحرض عليها نواب ومسؤولو وإعلام القوات على مدار الساعة، يعلم الخارج أن الحزب سيكون حينها مضطراً لقلب الطاولة على الجميع، و سيفاجأهم من حيث لا يحتسبون، ولا يُستبعد رؤية السفن والبوارج الإيرانية على السواحل اللبنانية، نفسها تلك التي اخترقت الحصار الأمريكي على فنزويلا ووصلت الى الحديقة الخلفية لأمريكا.
جعجع والرئاسة اللبنانية
لا يملّ سمير جعجع من تكرار أحلامه الرئاسية. في كل استحقاق، يلمّع صورته ويقدّم نفسه مرشح «المشروع السيادي». لكن، للمرة الألف، تبخر الحلم قبل أن يُكتب على ورقة بيضاء بعد انتخاب الرئيس جوزاف عون، حتى أقرب الحلفاء باتوا يتندرون على «رئاسة الحكيم»، التي تحوّلت إلى مادة سخرية في الصالونات السياسية. والنتيجة أن جعجع صار أقرب إلى «مرشّح افتراضي» يُستعمل في لعبة توازنات، لا إلى شخصية تملك حظوظاً فعلية للوصول إلى بعبدا. وهنا بالضبط تكمن خيبة القوات، حلم متواصل منفصل عن الواقع، او ربما لأن الرهان فيه ما يزال على العدو الإسرائيلي. وبات الكرسي في قصر بعبدا العقدة الكأداء لمعراب ومناصريها، ولا يتوانون عن إطلاق النار على أي رئيس يشغر هذا الكرسي متى ما سنحت الفرصة لذلك.
لازمة "نزع السلاح"
خطاب «نزع السلاح» أصبح أشبه بلازمة محفوظة عند مسؤولي ونواب حزب القوات تُستدعى كلما ضاق الأفق وجاءت تعليمات من الخارج. لكن ما لا تدركه القوات أن أكثرية الجمهور اللبناني، حتى المختلف مع حزب الله في الملفات الداخلية، يعرف أن هذا السلاح جزء من معادلة الإقليمية، وإننا في لحظة مصيرية وحساسة تمر على لبنان والعرب والمنطقة. ومع غياب أي بديل حقيقي تقدّمه القوات والدولة اللبنانية لمواجهة العدو الإسرائيلي واعتداءاته، يصبح خطابها مجرد صدى أجوف: «حكي بحكي».
الفتنة والتحريض الطائفي والمذهبي
منذ سنوات والقوات تراهن على إعادة إحياء خطوط التماس والتوتر الطائفي. تحريض هنا، وشتائم لعقيدة الآخرين هناك. لكن كل هذه المحاولات اصطدمت بحائط الوعي الشعبي، وبتماسك المؤسسة العسكرية التي رفضت الانجرار الى زواريب السياسة اللبنانية، وما تزال تشكل صمام الأمان ربما الوحيد المتبقي للبنان واللبنانيين، بل أكثر من ذلك، عندما لم تُلبِّ قيادة الجيش اللبناني رغبات القوات اللبنانية، شنّت الأخيرة حملة تشويه واسعة ضد المؤسسة العسكرية وقائدها الجنرال رودولف هيكل فأصبح تابعاً لحزب الله او جبانا او غير صالح لقيادة الجيش! كما شنّ إعلاميو القوات وناشطوها على منصات التواصل الاجتماعي هجوماً لاذعاّ ضد رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون وطالبوه بالرحيل، ذلك بعد حادثة صخرة الروشة، التي اختار فيها رئيس الحكومة نواف سلام المنازلة مع المقاومة، متجاهلا كل العبث والاعتداءات الإسرائيلية على لبنان التي أسقطت هيبة الدولة والحكومة، وتحوّل حادث عادي في سياق مناسبة إحياء ضمن سلسلة من عشرات الفعاليات في كل لبنان إلى قضية الدولة وهيبتها.
محاولة تطيير الانتخابات
على صعيد الاستحقاق الدستوري في أيار القادم، تسعى القوات اللبنانية مع حزب الكتائب وجوقة عوكر لتغيير قانون الانتخابات بما يخدم مصالحها "تصويت الخارج ل 128 نائبا"، فيما يعلم الجميع أن ناخبي الثنائي الوطني والمقاومة لا يمتلكون حرية الرأي والتعبير والنشاط. بالطبع المحاولة فشلت وأصبحت وراءنا بعد موقف حازم للرئيس نبيه بري، فذهبت القوات ومن معها الى خيار تطيير أو تأجيل الانتخابات. لكن هل يرضى الرئيس عون ان يؤجل هذا الاستحقاق المهم في عهده؟ بالطبع لا. ما سيؤدي الى خيبة جديدة لساكن معراب.
المشكلة مع القوات ليست فقط في رهاناتها الخاسرة، بل في كون سياساتها نفسها لا تتماهى مع مقولة بناء الدولة. فحزب القوات الذي يرفع شعار «السيادة» لا يتردد في إضعاف المؤسسات السيادية: من الجيش إلى القضاء إلى الرئاسة. كلما لم يأتِ أداء الدولة على مقاسه، شنّ حرباً عليها. في حادثة صخرة الروشة مثلاً، اختارت الهجوم على الجيش ورئيس الجمهورية. وهنا يظهر بوضوح أن القوات لا تبحث عن دولة لكل اللبنانيين، بل عن سلطة تخدمها، حتى لو كان الثمن تقويض الدولة والشرعية.
إذا جمعنا هذه المحطات: الرهان الفاشل على العدوان الإسرائيلي، تبدد حلم الرئاسة، سقوط مشروع نزع السلاح عمليا، سقوط مخطط الفتنة، فشل في تغيير قانون الانتخابات، والهجوم على الدولة والمؤسسة العسكرية، سنكتشف أن القوات لم تنجح في أي رهان خلال العام الماضي. كل خطوة كانت خيبة، وكل مشروع انتهى بسقوط مدوٍّ. واللافت أن هذه الخيبات لم تأتِ صدفة، بل هي نتيجة نهج سياسي كامل قديم جديد يقوم على الارتهان للخارج، وتجاهل الأولويات الداخلية، والتعامل مع المؤسسات بوصفها أدوات لا شراكات.
هل تعلم السعودية؟
اليوم، لم يعد السؤال: لماذا تفشل القوات؟ بل: كيف لا تفشل؟ إذ إن كل سياساتها مبنية على حسابات خاطئة ووعود فارغة. حتى داعميها الإقليميين بدأوا يطرحون الأسئلة، فهل تدرك السعودية أن ملايين الدولارات التي تضخّها تُهدر في مشروع ساقط؟ وهل يعرف رعاة معراب أن الحزب الذي يقدّمونه كـ«رأس حربة» لا يملك سلاحاً إلا الخطاب الفارغ؟
-إعلامي وباحث سياسي.
- استاذ الإعلام في الجامعة اللبنانية.
-دكتوراه في الفلسفة وعلم الكلام.
- مدير ورئيس تحرير موقع الخنادق الالكتروني.