الإثنين 09 حزيران , 2025 02:04

التأثير السلبي للقلق الوجودي في المجتمع الإسرائيلي بعد 7 أكتوبر

الاقتصاد الإسرائيلي والقلق الوجودي

اشتغل العلماء للتنظير بوجود "الأمن الوجودي" أو انعدامه المرتبط بفقدان الشعور بالذات لدى الفرد. قرن بعضهم بين غياب الأمن الوجودي والفصام (الشيزوفرانيا)، التي تعني غياب الإنسان عن الواقع، لأنه يحلق في عالم من الخيال والأوهام وعدم الواقعية. لكن هذا البحث يستهدف التنظير لانعدام الأمن الوجودي الذي ينبثق من الفرد ليتحول إلى ظاهرة جماعية، مؤدّاها أن مجتمعًا بحاله (كيانًا) يعاني من القلق الوجودي الجماعي، بسبب نشوئه الهشّ وتشكّله الذي قام على الكثير من المغالطات والمعالم السيئة والسلبية.

يشبه الموضوع، نموذج المبنى الذي أسسه أصحابه على دعامات مغشوشة وغير سليمة، في منطقة رملية مليئة بالرياح والعواصف، وعلى الرغم من ذلك يزيدون البناء طابقًا بعد آخر، وفي كل طابق يوجد فجوات كثيرة وانهيارات محدودة، والمبنى يهتر منذ إنشائه، لكن أصحابه يحاولون تدعيمه وتقويته. هناك بعض الطوابق التي انهارت بالفعل وهذا ما جعل بقية السكان يخشون على حياتهم من انهياره في أي لحظة. هذا هو القلق الوجودي المقصود بهذا البحث، وليس القلق الوجودي الفلسفي، الناشئ عن تكاثر الأسئلة الفلسفية حول الكون والخالق وعلة الوجود.

البناء النظري لهذا الملف سيقوم على بحثٍ علمي مطول بعنوان "العودة إلى جذور الأمن الوجودي: رؤى من أدبيات القلق الوجودي، لكارل جوستافسون.( يمكنكم تحميل البحث في الأسفل).

التأثير السلبي للقلق الوجودي في المجتمع الإسرائيلي بعد 7 أكتوبر

- تزايد القلق الوجودي لإسرائيل:

لن يعود الكيان الصهيوني إلى ما كان عليه قبل السابع من أكتوبر، خصوصًا بعدما فتحت القيادة العسكرية والسياسية حربًا مفتوحة على عدة جبهات. وبطبيعة الحال فإن المجتمع الذي يعيش تحت وطأة الحروب والاستهدافات اليومية يختلف عن المجتمع الآمن البعيد عن الحروب. لذلك مازال السكان في الكيان تحت وطأة الصدمة المزدوجة: هجوم شنّه الفلسطينيون وحرب تخوضها "الدولة". وبين كماشة الهجوم والدفاع يعيش مواطنو الكيان الإسرائيلي منذ حوالي السنتين.

وعلى مدى عقود من الزمن، أصبح المشروع الصهيوني أسوأ في الدفاع عن نفسه، بحسب وجهة نظر ستيفن م. والت الذي لفت الى أن "إسرائيل تواجه مشكلة خطيرة. فمواطنوها منقسمون بشدة، ومن غير المرجح أن يتحسن هذا الوضع. فهي غارقة في حرب لا يمكن كسبها في غزة، وجيشها يظهر علامات التوتر، ولا تزال الحرب الأوسع نطاقًا مع حزب الله أو إيران احتمالا قائما. ويعاني الاقتصاد الإسرائيلي بشدة، وذكرت صحيفة تايمز أوف إسرائيل مؤخرًا أن ما يصل إلى 60 ألف شركة قد تغلق أبوابها هذا العام. وعلاوة على ذلك، ألحق سلوك إسرائيل الأخير أضرارا جسيمة بصورتها العالمية، وأصبحت دولة منبوذة بطرق لم تكن متخيلة في السابق".

- الهجرة المضادة:

كشفت عملية طوفان الأقصى أن هاجس مغادرة الإسرائيليين أرض فلسطين هو هاجس دائم يعيش في اللاوعي عندهم، وسرعان ما يطفو الى الوعي عند الشعور بالخوف أو التهديد، ويعمل على توجيه سلوكهم وخططهم. ولذلك سجلت الإحصائيات مغادرة آلاف الإسرائيليين من الكيان باتجاه البلاد الغربية التي لا يستشعرون فيها الخوف والرعب والتهديد الذي يسيطر على حياتهم في فلسطين المحتلة. في تصريحات لـ TRT عربي، قدَّر دومينيك فيدال، المؤرخ الفرنسي المختص في الشؤون الإسرائيلية، أن أعداد مَن غادروا إسرائيل بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، هو "ما بين 600 ألف ومليون شخص". وأضاف المؤرخ الفرنسي: "إسرائيل تُبقي هذه الأرقام طيّ الكتمان كأنها أسرار حرب، لكننا حصلنا عليها بالتدقيق، انطلاقًا من تحليل بيانات ومعطيات أخرى.

وبحسب أحدث بيانات المكتب المركزي الإسرائيلي للإحصاء، فقد هاجر 82.7 ألف شخص إلى خارج إسرائيل في العام 2024، فيما هاجر في العام 2023 نحو 55 ألفا و300 يهودي، بمعدل 5.7 لكل 1000 نسمة، وهو ما يعكس ارتفاعًا مقارنة بالعام 2022 حيث هاجر للخارج 38 ألف إسرائيلي، بزيادة 217% عن العام 2022.

- عدم العودة للشمال وغلاف غزة:

على الرغم من وقف النار في جنوب لبنان والعمليات العسكرية في قطاع غزة، إلّا أن آلاف المواطنين الإسرائيليين رفضوا رفضًا قاطعا في بداية الأمر، العودة إلى شمال فلسطين أو الكيبوتسات القريبة من الغلاف، بسبب الخوف الكبير الكامن بداخلهم من تجدّد المقاومة وعملياتها. هذه النقطة كانت دائمًا مثار انزعاج كبير للقيادات الإسرائيلية، خصوصًا عند مقارنتها مع أحوال الناس في الجنوب اللبناني، أولئك الذين يتجهّزون على الطرقات خلال الساعات الأولى لسريان وقف النار، استعدادًا للعودة الملهوفة إلى أراضيهم ومنازلهم (المدمّر أكثرها).

يحكى عن إغراءات كثيرة، دفعتها سلطات الكيان المحتل لتؤمن عودة أهل الشمال أو غلاف غزة، مثل المساعدات المالية والعينية، خصوصًا بعد أن أظهر عدد كبير منهم عدم الرغبة في العودة إلى مناطقهم المتضررة، والبحث عن مساكن بديلة في بلدات أخرى بعيدة عن مناطق القتال. (بعد 7 أكتوبر 2023 أجلت السلطات الإسرائيلية سكان مستوطنات عديدة في غلاف غزة، وأفرغت 28 بلدة حدودية مع لبنان بسبب القصف المتبادل مع حزب الله). ولغاية اليوم، مع عودة الكثيرين إلى مناطقهم القريبة من الجبهات، ظهر أن القلق الكامن في النفس الإسرائيلية، أقوى من العنف الصهيوني الممارس لضمان الهدوء الوجودي في حرب إبادةٍ مستمرة. إنه قلق متجذّر في اللاوعي الذي ينتظر نهايته الوجودية في كل يوم، على الرغم من تفوق الآلة العسكرية والحربية والتقنيات الإسرائيلية.

- التنافر الفكري والسياسي:

عمّقت حرب طوفان الأقصى النزاعات السياسية بين القيادات الإسرائيلية جميعها بلا استثناء. لا يكاد يمر يوم واحد من دون تبادل الاتهامات الثقيلة بين الأطراف السياسية والعسكرية والأمنية، خصوصا من معارضي نتنياهو الذين يتهمونه بأنه سيقضي على "الدولة الإسرائيلية" ويعجّل بنهايتها (والشواهد كثيرة جدا من خطابات ومواقف زعماء المعارضة مثل لابيد وغيره).  لم يشهد الكيان الإسرائيلي سجالات حول "وجوده" على قدر ما شهد منذ 7 أكتوبر لغاية الآن. وقد انتبه للأمر بعض الوزراء وزعماء الأحزاب، الذين رفعوا صوتهم للمطالبة بالوحدة الاجتماعية والسياسية، على الأقل في زمن الحرب، التي تتطلب إجماعًا على المواقف والقرارات.

- تقلص الخيارات:

إن تذكير نتنياهو الدائم بالحرب الوجودية (في كل خطاب وفي كل مناسبة) ارتدّ سلبًا على الكيان في بعض وجوهه. إذ أنتج حالة من الرعب والتخبُّط الدائميْن داخل المجتمع الإسرائيلي. وبالنسبة لكثيرين، أصبحت كلفة البقاء داخل فلسطين المحتلة أعلى من كلفة مغادرتها، بسبب الرعب اليومي وانعدام الأمن والتهديد المستمر الذي رفع مستوى القلق الوجودي بين عموم الإسرائيليين. أبسط مثال على ذلك، الإنذارات اليومية، وصافرات التحذير والحيطة مع كل صاروخ يمني، تعطيل المطار، وإيقاف السير والمرور، صارت كلها جزءًا من طقوس المخاوف اليومية في معركة ما بعد الطوفان.

- اهتزاز ثقة الإسرائيليين بالحكومة والجيش:

من العوامل المهمة التي ضاعفت قلق الإسرائيليين من زوال دولتهم، هو عدم استطاعة القدرات العسكريّة والحربية حمايتهم على الرغم من تكلفتها وميزانياتها الضخمة. يناقش اليوم العديد من الصهاينة من النخبة والعامة، موضوع العتاد العسكري ومليارات الدولارات الّتي تقدّمها أمريكا والدول الغربيّة والعربية للكيان، والتي لم تستطع جميعها تأمين الحماية أو الشعور بالأمان. يكفي أن يتأمل الإنسان ما يفعله صاروخ باليستي واحد متجه من اليمن نحو حيفا، من زعزعة نفسية وهروب وصراخ ومعاناة وجودية مستمرة. يُضاف إلى ذلك، الحديث المتكرر عن المقارنة في الكلفة: صاروخ ثمنه بضعة آلاف من الدولارات يدمّر طائرة ثمنها خمسون مليونًا، ولا يعني هذا الكلام أن القدرات العسكرية الإسرائيلية سيئة أو ضعيفة أو غير متفوقة، بل المقصود أنها على الرغم من كل تقنياتها وتطورها إلّا أنها لا تكفي لردع العدو أو إزالة التهديد.

- التراجع الاقتصادي والانكماش:

تكبدت إسرائيل خسائر اقتصادية وصلت إلى 125 مليار شيكل (34.09 مليار دولار) منذ بدء حرب غزة 2023، بحسب ما أعلنت وزارة المالية الإسرائيلية في يناير/ كانون الثاني 2025، لافتة إلى أن إسرائيل سجلت عجزا في الميزانية قدره 19.2 مليار شيكل (5.2 مليارات دولار) في ديسمبر الماضي بسبب الحرب.

وبحسب آراء الاقتصاديين وذوي الأعمال وأصحاب الرساميل، فإنّ القلق الوجودي الجماعي الذي تكاثر بعد 7 أكتوبر، جعل الكيان في حالة مستمرة من الخسائر المادية. فكل ما أنجزه الكيان سياسيًا وأمنياً، من خلال القتل والإبادة، لن يستطيع تعويض الخسائر التي تتمظهر نتائجها أكثر فأكثر على المدى البعيد، لأن الكيان الإسرائيلي سيبقى في حالةٍ من الخوف والشعور بالتهديد من انقضاض المقاومة عليه مرةً أُخرى.

وكان المحلل الاقتصادي الإسرائيلي، ديفيد روزنبرغ، قد أوضح في صحيفة هآرتس العبرية، (بتاريخ 8 أيار/مايو 2025) أن "التهديد الذي يشكله استمرار حروب إسرائيل في غزة والضفة الغربية وسورية ولبنان وإيران على الاقتصاد الإسرائيلي خطيرٌ وكابوس مالي لا تستطيع إسرائيل تحمله"، محذرًا من "دخول إسرائيل في مستنقع اقتصادي".

- محاولات العودة الى الاتفاقيات الإبراهيمية:

بعد مضيّ أكثر من عام ونصف على خوض نتنياهو حربه الوجودية ضد محور المقاومة، عاد المجتمع الدولي برعاية أميركية لتفعيل الاتفاقات الإبراهيمية التي تتجاهل جوهر الصراع العربي الإسرائيلي، وهو إنهاء الاحتلال وإنصاف الشعب الفلسطيني. إن غاية الاتفاقيات الإبراهيمية هي تخفيف العداء مع الصهيونية، وفرض محاولات التطبيع التي تؤمن الراحة النفسية لليهود وتخفف قلقهم بشأن النهاية المحتومة. لكن إسرائيل والدول الغربية والعربية الداعمة لها، تغفل عن أن المقاومة ليست فردًا، وليست جماعةً تنظيميةً مسلحة، بل هي فكرة والفكرة لا تموت، كما قال لهم المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي دانيال هاغاري حين شكّل كلامه صدمة، بعدما صرّح بتاريخ 19/6/2024 بأنّ "تدمير حركة حماس هو ذر للرماد، لأن حماس فكرة وحزب، مغروسة في قلوب الناس، ومن يعتقد أن بإمكاننا إخفاءها فهو مخطئ، وهي فكرة لا يمكن القضاء عليها".

لتحميل الدراسة من هنا





روزنامة المحور