تُعدّ حربا تموز 2006 وعملية السابع من أكتوبر 2023 نقطتين مفصليتين في تطور الفكر العسكري والأمني الإسرائيلي، إذ أجبرتا القيادة الإسرائيلية على مراجعة شاملة لعقيدتها التقليدية القائمة على مثلث الردع والإنذار المبكر والنصر المطلق. فبعد فشل الجيش الإسرائيلي في تحقيق حسم عسكري في لبنان عام 2006، ثم تلقيه ضربة قاسية في هجوم السابع من أكتوبر، وجدت "إسرائيل" نفسها أمام ضرورة إعادة بناء نظريتها القتالية على أسس جديدة تتجاوز حدود الحرب التقليدية. وهكذا ظهرت عقيدة "الضاحية"، التي صاغها الجنرال غادي آيزنكوت عام 2008، كتعبير عن فلسفة جديدة تقوم على استخدام القوة المفرطة والتدمير الشامل لكل منطقة مدنية تُستخدم في العمليات ضد "إسرائيل"، مع اعتبار القرى الجنوبية اللبنانية، وخصوصاً الشيعية منها، أهدافاً عسكرية لا مدنية.
تطورت هذه العقيدة لاحقاً عبر حروب غزة المتعاقبة، حيث اعتمدت "إسرائيل" مبدأ الردع بالتكلفة المجتمعية، أي معاقبة البيئة الحاضنة للمقاومة وليس المقاتلين فقط، لتظهر مفاهيم مكمّلة مثل "عقيدة جباليا" التي تنادي بإبادة الحاضنة الاجتماعية للمقاومة. ومع تراكم الخبرات الميدانية في هذه الحروب، تبلورت لدى المؤسسة العسكرية الإسرائيلية قناعة بأنّ المواجهة مع التنظيمات المسلحة غير الحكومية تتطلب تدمير بناها التحتية المدنية والعسكرية على السواء، من أجل نزع قدرتها على الاستمرار والتعافي.
في حرب لبنان عام 2024، طوّرت "إسرائيل" هذه العقيدة لتدمج بين "عقيدة الضاحية" القائمة على التدمير الشامل و"عقيدة الأخطبوط" التي أعلنها نفتالي بينيت سابقاً، وتركّز على استهداف القيادة العليا للخصم. هكذا تشكّلت النسخة المحدثة لما بات يُعرف بإستراتيجية "القوة الغاشمة"، وهي مقاربة هجينة تستند إلى الدمج بين القوة العسكرية التقليدية والتكنولوجيا المتقدمة، ولا سيما الذكاء الاصطناعي والاستخبارات الدقيقة. تقوم هذه الإستراتيجية على تجاوز القيود القانونية والأخلاقية التي يفرضها القانون الدولي الإنساني، إذ تعتبر أن من حق "إسرائيل" ممارسة العنف المفرط تحت ذريعة الدفاع عن النفس، ما دامت تحظى بتغطية أميركية تمنع محاسبتها.
كان هذا التحول نتيجة مباشرة لفشل مبدأ الردع التقليدي بعد عملية السابع من أكتوبر، حيث أدركت "إسرائيل" أن التهديدات العقابية لم تعد كافية، وأن المطلوب هو إزالة التهديد نهائياً من خلال التطهير العملياتي الكامل. لذلك ركزت الحرب في عام 2024 على تدمير القرى الجنوبية اللبنانية بشكل ممنهج، ومنع عودة سكانها إليها، بهدف خلق واقع جغرافي جديد قائم على "الأرض المحروقة"، وضمان عدم قدرة حزب الله على إعادة بناء قدراته العسكرية. كما سعت إلى القضاء على القيادات العسكرية والسياسية للحزب، وتفكيك منظومته التنظيمية والهيكلية، ومنع أي فرصة لتعافيه مجدداً من خلال استباحة مستمرة واغتيالات دقيقة تعتمد على تفوق استخباراتي وتقني واسع.
بدأت المواجهات بين حزب الله و"إسرائيل" في الثامن من أكتوبر 2023، حين بادر الحزب إلى فتح الجبهة الشمالية تضامناً مع غزة. وقد تباينت المواقف داخل الحكومة الإسرائيلية في بداية الحرب بين من دعا إلى توجيه ضربة استباقية قاسية للبنان ومن فضّل إبقاء الجبهة محدودة إلى حين حسم معركة غزة. لكن مع اتساع رقعة الاشتباكات، تحوّلت الحرب من مواجهة استنزاف إلى هجوم شامل هدفه تحقيق إنجازات استراتيجية عميقة لم تُحقّق في الحروب السابقة.
خاضت "إسرائيل" الحرب على مراحل متصاعدة بدأت بمرحلة الإكراه الاستراتيجي، التي اتسمت بضربات محدودة استهدفت مجموعات مقاتلة ومنصات إطلاق صواريخ على الحدود، ثم دخلت مرحلة إدارة التصعيد التي شهدت قصفاً جوياً واسعاً واغتيالات في العمق اللبناني، أبرزها اغتيال صالح العاروري في الضاحية الجنوبية وفؤاد شكر في الجنوب. وفي السابع عشر من سبتمبر 2024، أعلنت الحكومة الإسرائيلية رسمياً نقل المعركة إلى الجبهة الشمالية، فقصفت نحو 1600 هدف تابع لحزب الله، شملت ترسانته الصاروخية ومراكز القيادة والسيطرة.
بلغت الحرب ذروتها مع بدء التوغّل البري المحدود الذي هدف إلى تدمير القرى المتاخمة للحدود وإفراغها من سكانها في إطار تطبيق عملي لمبدأ "القوة الغاشمة". حتى بعد وقف إطلاق النار في السابع والعشرين من نوفمبر 2024، استمر الهدم الممنهج لعدة أشهر، في وقتٍ شُنّت فيه حرب سيبرانية موازية اعتمدت على الذكاء الاصطناعي لتحديد آلاف الأهداف من خلال تحليل البيانات الضخمة. وقد مكّن هذا التفوق التكنولوجي "إسرائيل" من تحقيق تفوق استخباراتي، فاستهدفت مراكز القيادة والبنى التحتية لحزب الله بدقة عالية، مستخدمة منظومات آلية لتحويل المعلومات إلى أهداف فورية قابلة للتنفيذ.
لم يكن الهدف العسكري الوحيد تدمير قدرات الحزب الميدانية، بل شمل أيضاً ضرب بيئته الاجتماعية والسياسية من خلال تهجير السكان وإفقاد الجنوب اللبناني مقومات الحياة. فالحرب سعت إلى إعادة رسم الجغرافيا الجنوبية بفرض منطقة عازلة مدمّرة تمتد حتى نهر الليطاني، وإضعاف حضور حزب الله السياسي عبر حرمان لبنان من المساعدات ومنع إعادة الإعمار وخلق انقسام داخلي حول دور المقاومة. في هذا الإطار، استُخدمت الحرب كأداة لإعادة هندسة الواقع اللبناني بما يخدم مصالح "إسرائيل"، عبر تحويل التدمير إلى ورقة ضغط تفاوضي على الدولة اللبنانية والمجتمع الدولي.
رافقت الحرب الميدانية حملة إعلامية ونفسية شرسة، هدفت إلى ضرب مصداقية حزب الله وتشويه صورته داخل المجتمع اللبناني. استخدمت "إسرائيل" الدعاية والتضليل لتصوير الحزب كعاجز عن الرد، وضعيف أمام التفوق الإسرائيلي، وغير قادر على حماية المدنيين أو إعادة إعمار ما دمّرته الحرب. كما سعت إلى التشكيك بقدرته الأمنية واختراقه الاستخباراتي، واستهدفت الرموز العقائدية التي تمثلها شخصية السيد حسن نصر الله، وصولاً إلى محاولة إضعاف الخطاب المعنوي للمقاومة الذي رسخ فكرة "زمن الانتصارات".
ترى الدراسة الدراسة المرفقة أدناه للكاتب إبراهيم شمس الدين أن الحرب على لبنان عام 2024 لا يمكن فصلها عن المشروع الإسرائيلي–الأميركي الأوسع الذي أعقب طوفان الأقصى، إذ هدفت هذه الحرب إلى تحويل الأزمة إلى فرصة لإعادة رسم الجغرافيا السياسية للمنطقة، وتثبيت معادلة جديدة للردع تقوم على النصر الحاسم بدل الردع المتبادل. ومن هذا المنطلق، لم تكن الحرب مجرد مواجهة عسكرية بل عملية متدحرجة لإعادة تشكيل الواقع الإقليمي.
لقد تحركت "إسرائيل" في هذه الحرب وفق منهجية متدرجة تبدأ باختبار السقوف والردود، ثم الانقضاض على القيادات، فالتوغّل وفرض الشروط السياسية تحت ضغط النار. سعت إلى تحويل نتائج العدوان إلى مكاسب تفاوضية عبر ربط إعادة الإعمار بشروط سياسية تتعلق بنزع سلاح حزب الله وإضعافه داخل النظام اللبناني. ومع التغطية الأميركية والدعم الغربي، استمرت "إسرائيل" في انتهاك القرار 1701، معتبرة أن منع حزب الله من إعادة بناء قدراته أهم من الالتزام بالقرارات الدولية.
خلصت الدراسة إلى أن ما تسميه "إسرائيل" التدمير الذكي ليس سوى نموذج جديد للحرب الشاملة التي تمزج بين القوة العسكرية والتكنولوجيا والسياسة والإعلام لفرض وقائع جديدة على الأرض. إنها حرب لإعادة هندسة الوعي والهوية، لا مجرد حرب على الأرض أو على سلاح المقاومة. فالقوة الغاشمة المدعومة بالذكاء الاصطناعي أصبحت وسيلة لإنتاج نصر رمزي مؤقت على حساب الإنسان والقانون، في مسارٍ يعكس تحوّل الحروب الإسرائيلية من معارك ميدانية إلى مشاريع لإعادة صياغة البيئة السياسية والاجتماعية لخصومها، وعلى رأسهم لبنان والمقاومة.
لتحميل الدراسة من هنا