يعمل العدو الإسرائيلي منذ سنوات على توجيه رسائل متكرّرة وممنهجة إلى المجتمع المقاوم، بعضها مباشر وبعضها الآخر غير مباشر، ويقوم بدراسة ردود الفعل عليها بدقة، ليبني من خلالها استراتيجيته السياسية والعسكرية والأمنية. إنّ ما يقوم به في هذا الإطار يُعرف بـ "إدارة التوقّعات"، وهي عملية تهدف إلى تشكيل ما ينتظره الآخرون من مواقف أو نتائج، بحيث يتم ضبطها وتوجيهها بما يخدم أهدافه. فالاحتلال لا يكتفي بخوض المعارك بالسلاح، بل يسعى إلى التأثير على الوعي، وجعل الناس يرون ما يريدهم أن يروا، ويتوقّعون ما يريدهم أن يتوقّعوا. بهذه الطريقة، يتحكّم في ردّات الفعل ويهيّئ البيئة النفسية لقبول أي نتيجة، مهما كانت سلبية، على أنها أمر طبيعي أو حتى إنجاز.
تعتمد إدارة التوقّعات على سلسلة من الأدوات النفسية والإعلامية التي تهدف إلى توجيه الإدراك الجماعي. يبدأ العدو عادةً بتهيئة الذهن عبر رسائل تمهيدية تصف الواقع بأنه خطير وصعب، لتخفيض سقف التوقعات مسبقًا، ثم يعمل على تأطير النتائج قبل وقوعها، بحيث يُقدّم أي فشل محتمل على أنه "انسحاب تكتيكي" أو "انتصار جزئي". وغالبًا ما يستخدم أسلوب المبالغة في التحذير من المخاطر ثم تقديم نتائج أخفّ من المتوقع، فيشعر الجمهور بالارتياح النسبي رغم الخسارة. كما يلجأ إلى تقسيم الأحداث إلى مراحل صغيرة لتقليل حدّة القلق، ويستخدم لغة غامضة كأن يقول: "حققنا أهدافًا استراتيجية" من دون توضيح ما هي هذه الأهداف. وحين تبرز نتائج مخيبة، يقوم بتأجيل التقييم إلى المستقبل بالقول إنّ "لأثر الحقيقي سيظهر لاحقًا"، فيؤجل الغضب الشعبي. ولتعزيز الشعور بالتقبل، يعقد مقارنات مع أوضاع أسوأ في دول أخرى، ليبدو الواقع الحالي أفضل مما هو عليه. وإن لم تنجح هذه الأساليب، يلجأ إلى تبرير التناقضات عبر تحميل المسؤولية لعوامل خارجية أو داخلية، أو إلى تكرار الرسالة نفسها حتى تصبح حقيقة مقبولة في الوعي العام.
هذه التقنيات ليست عشوائية، بل جزء من عقيدة الحرب النفسية التي ترى أن السيطرة على الوعي لا تقلّ أهمية عن السيطرة على الأرض. فالاحتلال يدرك أن الحروب الحديثة تُخاض بالصور والروايات والسرديات بقدر ما تُخاض بالأسلحة. لذلك يسعى باستمرار إلى تضليل الخصم وجعله يصدّق أن قراراته الحرة هي في الحقيقة ردّ فعلٍ على ما أراده العدو.
أما في لبنان، فتتشكل التوقعات العامة لدى الناس من مصادر متعددة، أبرزها الواقع الميداني والظروف السياسية والاقتصادية المحيطة. فبعد سنوات من المجازر والحروب في فلسطين ولبنان واليمن وإيران، ومع استمرار التهديدات الإسرائيلية والضغوط الاقتصادية، باتت المزاجات الشعبية تميل نحو التشاؤم. وتُضاف إلى ذلك الحملات الإعلامية الإسرائيلية المباشرة التي تستهدف المدنيين عبر منشورات ورسائل تهديدية تُلقى من الجو أو تُلصق على الجدران في القرى الحدودية، إلى جانب الاتصالات الهاتفية ومحاولات التخويف النفسي. العدو يراقب بدقة كيف يتفاعل الناس مع هذه الأساليب، ليُعدّل من مستوى التهديد أو نبرة الخطاب وفقًا لحجم التأثر الشعبي.
وتلعب وسائل التواصل الاجتماعي دورًا إضافيًا في هذه الحرب، إذ تحوّلت إلى ميدان مفتوح لبثّ الشائعات والأخبار المفبركة، وهي ساحة يستغلها الاحتلال لقياس نبض المجتمع، وفهم اتجاهات الرأي العام داخل بيئة المقاومة. كل منشور وتعليق وتحليل يُقرأ كبيانات استخباراتية تساعده على فهم ما ينتظره الناس، وما يخافونه، وما يعتقدونه عن المستقبل.
ومن خلال هذه المعطيات، يسعى العدو إلى ترسيخ فكرة أن القادم سيكون أسوأ من الحاضر، وهي عبارة تتكرر كثيرًا في الخطاب الإسرائيلي والإعلام الموالي له. غير أنّ هذه المقولة ليست سوى أداة تهويل نفسية تهدف إلى ترسيخ اليأس في الوجدان الشعبي. فمجتمعات المقاومة خاضت بالفعل كل أشكال المعاناة: الحصار الاقتصادي، تدمير المدن، الاغتيالات، التجويع، والعقوبات. لا يوجد مستوى جديد من "الأسوأ" يمكن أن يختبره الناس بعد كل ما مرّوا به. ومع ذلك، يستمر العدو في ترديد هذا الخطاب لتثبيت الشعور بالعجز وفقدان الأمل، بينما الوعي والجهوزية يمكن أن يقلبا المعادلة ويحوّلا التهديد إلى فرصة للصمود.
وتكشف دراسة الخطاب الإسرائيلي عن قاموس لغوي متكرر وممنهج يُستخدم لإدارة التوقعات داخل لبنان. فهو يعتمد على لغة الفوقية والتفوّق، كعبارات "تفكيك قدرات حزب الله" و"إضعاف المقاومة"، لإيصال فكرة أن إسرائيل هي الطرف القادر والمتحكم. ويستخدم اللغة الشرطية مثل "إذا تعاونتم معنا" ليُظهر نفسه في موقع من يمنح الفرص أو يفرض الشروط. كما يركّز باستمرار على كلفة المقاومة والثمن الذي يدفعه المدنيون، في محاولة لخلق فجوة بين الناس والمقاومة. ولا يتوقف الأمر عند ذلك، إذ يسعى إلى فصل حزب الله عن نسيجه الوطني من خلال وصفه بـ "ذراع إيران" أو "الجهة التي خطفت الدولة"، ويكرّر الادعاء بأن المقاومة مسؤولة عن الدمار، وبأنها تستخدم المدنيين دروعًا بشرية لتبرير جرائمه. وفي الوقت ذاته، يهدد بتدمير شامل "يعيد لبنان إلى العصر الحجري" ليزرع الرعب ويضعف الثقة.
ورغم كل هذه الجهود، أظهرت التجربة التاريخية أن المقاومة استطاعت أكثر من مرة أن تغيّر الواقع الذي حاول العدو فرضه. فقد تمكّنت من طرده من بيروت عام 1982، ثم من الجنوب عام 2000، وأثبتت قدرتها على الصمود في حرب تموز 2006، كما شاركت في دحر الإرهاب التكفيري في سوريا والعراق ولبنان. هذه المحطات تؤكد أن إرادة المقاومة أقوى من محاولات إدارة التوقعات التي يمارسها العدو، وأن القدرة على تحويل الظروف الصعبة إلى فرص للتحرر راسخة ومتجذّرة في وعي الناس.
اليوم، ورغم الاغتيالات المستمرة ومحاولات الاستنزاف، ما زالت عناصر القوة قائمة: الإرادة التي ازدادت بفعل الألم والثأر، والقدرات البشرية والعسكرية التي تعافت رغم الخسائر، والإيمان العميق بعدالة القضية الذي يجعل الاستسلام مستحيلًا.
في هذا السياق، تبرز الحاجة إلى وعي جماعي متماسك يواجه الحرب النفسية. والوعي بهذه الأساليب كفيل بتحويل إدارة التوقّعات من سلاح بيد العدو إلى فرصة لمواجهته. فحين يدرك المجتمع كيف تُدار مخاوفه، يصبح قادرًا على تعطيل مفعولها. المقاومة ليست فقط بندقية أو جبهة عسكرية، بل وعيٌ جماعي يرفض الخضوع، وإيمانٌ بأنّ السيطرة على النفس أقوى من أي دعاية تُراد لهزيمتها.