الخميس 23 تشرين أول , 2025 03:52

حين تتحوّل المساعدات إلى خرائط نفوذ: قراءة في العمق التركي لغزة

أردوغان ومظاهرة مؤيدة لفلسطين

في لحظةٍ تبدو إنسانية على السطح، تتحرك أنقرة في غزة كما تتحرك القوى الكبرى في المناطق المنكوبة: بالخرائط لا بالمشاعر، وبالاستراتيجيات لا بالبيانات الصحافية. فالمساعدات التركية التي تُقدَّم إلى القطاع ليست سوى رأس جبل الجليد في مشروعٍ سياسي أشمل، يتجاوز إعادة الإعمار نحو إعادة التموضع. خلف خطاب "التضامن مع الفلسطينيين" الذي يتردّد في أنقرة، تكمن رؤية أعمق تُعيد تعريف العلاقة بين المأساة والفرصة، بين الإنسانية والسياسة، وبين المساعدات والهيمنة الناعمة.

أيديولوجيا "الإنقاذ الإنساني"

منذ اللحظة الأولى للحرب على غزة، حرصت تركيا على رسم صورةٍ أخلاقية لنفسها: دولةٌ مسلمة تقف في وجه الإبادة، وتدافع عن المظلومين، وتُدين التواطؤ الغربي مع "الآلة الإسرائيلية". لكنّ هذه الصورة ليست مجانية ولا بريئة من الحسابات. فأنقرة، التي تراجع نفوذها في الإقليم بعد انهيار مشروع "الربيع العربي"، تبحث عن ساحة جديدة تُعيد عبرها صياغة حضورها كقوةٍ إسلامية–دبلوماسية، قادرة على مخاطبة الشعوب كما تخاطب الحكومات.

وهكذا، تتخذ المساعدات الإنسانية التركية وظيفةً مزدوجة: فهي من جهة تُرمّم صورة أنقرة الأخلاقية بعد سنواتٍ من التورط في ملفات سوريا وليبيا، ومن جهةٍ أخرى تُمهّد الأرض سياسيًا للعودة إلى قلب الشرق الأوسط من بوابة فلسطين. إنها أيديولوجيا "الإنقاذ الإنساني" التي تُمارَس كسياسة خارجية، تُغلف الهيمنة بالرحمة، وتُحيل المأساة إلى فرصةٍ للنفوذ.

من المساعدات إلى المراقبة

في ظاهرها، تركيا تُرسل قوافل طبية وغذائية، وتُعلن استعدادها لإعادة بناء مستشفى الصداقة التركي–الفلسطيني. لكن في جوهرها، تتحرك ضمن هندسةٍ أوسع تُدار من غرف المفاوضات في شرم الشيخ، حيث كانت أنقرة حاضرة ضمن ما سُمّي بـ"قوة مهام غزة"، إلى جانب مصر وقطر والولايات المتحدة. هناك، لم تكن تركيا مجرد مراقب إنساني، بل شريكًا في صياغة آليات المراقبة الأمنية وتبادل الأسرى.

هذه المشاركة لم تأتِ بدافع "الغيرة الأخلاقية"، بل بدافعٍ استراتيجي يهدف إلى تثبيت موطئ قدمٍ مؤسسي لأنقرة في مرحلة ما بعد الحرب. فالمساعدات تُفتح بالتصاريح، والتصاريح تُمنح للجهات "الضامنة"، والضمان يُترجم نفوذًا سياسيًا. وهكذا، تُصبح المساعدات التركية أداة اختراقٍ ناعمة، تتيح لأنقرة المشاركة في مراقبة وقف إطلاق النار من دون أن تُثير حساسية "إسرائيل" أو الغرب.

إنها معادلة النفوذ عبر الضعف: حين تُقدّم نفسك كمنقذٍ لا كقوة، يصبح وجودك مقبولًا حتى في أكثر البيئات حساسيةً وعداءً.

تركيا في غزة: الرفض الإسرائيلي كخوف من التوازن

من بين أبرز التحفظات الراهنة، يبرز رفض نتنياهو إدخال قوات تركية إلى قطاع غزة تحت غطاء "تثبيت الأمن". هذا الرفض ليس مسألة لوجستية بل سياسية بامتياز. فوجود تركيا، بقوتها العسكرية ورمزيتها الإسلامية، يعني إدخال فاعل إقليمي غير خاضع للوصاية الأميركية المباشرة إلى قلب الملف الفلسطيني. وهذا ما تعتبره "إسرائيل" اختراقًا لمعادلة "الاحتكار الإسرائيلي – الأميركي" في إدارة غزة.

يرى محللون "إسرائيليون" أن قبول هذا الوجود سيشكل سابقة خطيرة، خصوصًا أن "إسرائيل" عملت سابقًا على إبعاد أنقرة عن أي تموضع في سوريا، فكيف يمكنها اليوم أن تسمح لقوات تركية بأن تكون على حدودها الجنوبية، وتحت عنوان "الاستقرار الأمني"؟

رفض نتنياهو ليس تفصيلًا في مفاوضات ما بعد الحرب، بل يعكس عمق الصراع على من يملك حق إدارة الأمن في غزة. فالقبول بتركيا يعني كسر احتكار "إسرائيل" والولايات المتحدة لملف الأمن في غزة، وفتح الباب أمام توازن إقليمي جديد تُشارك فيه قوى غير خاضعة بالكامل للهيمنة الأميركية.

ازدواجية أنقرة: العداء العلني والتنسيق الصامت

من السهل أن يصدق المراقب العابر أن تركيا تقف في صفّ المقاومة، لكنها في الواقع تُجسّد أكثر أشكال التوازن البراغماتي تعقيدًا: تعلن العداء لـ"إسرائيل"، وتُبقي قنوات الاتصال الأمنية مفتوحة معها في الوقت ذاته.

فحين أغلقت أجواءها أمام الطائرات "الإسرائيلية" وأوقفت التجارة المباشرة، بدت أنقرة وكأنها تتجه إلى قطيعةٍ نهائية. لكنّ رويترز نفسها كشفت لاحقًا عن استمرار التنسيق الأمني "لتجنّب الاحتكاك في الأجواء السورية"، فيما ظلت العلاقات التجارية غير المباشرة قائمة عبر دولٍ وسيطة. إنها سياسة "الاحتجاج العالي الصوت والعمل الهادئ في الكواليس"، التي تُتيح لتركيا أن تُوازن بين صورتها الإسلامية ومصالحها الأطلسية.

بهذا المعنى، تتحرك تركيا في مسافةٍ ضيقة بين شعاراتها الأخلاقية وقيودها الجيوسياسية، وبين الحنين إلى "العثمانية الجديدة" والواقع الصلب للهيمنة الأميركية في المنطقة.

بين مصر وواشنطن… حدود الدور المسموح

لكنّ الدور التركي، رغم زخمه الإعلامي، ليس مطلقًا. فأنقرة تصطدم بثلاثة قيودٍ بنيوية تُحدّد سقف نفوذها في غزة.

الأول، هو المنافسة الإقليمية مع مصر التي تعتبر نفسها صاحبة الشرعية التاريخية والحدود المباشرة مع القطاع. فالقاهرة لن تسمح لأنقرة بانتزاع هذا الدور بسهولة، خصوصًا أن لكلٍ منهما علاقة مختلفة مع حماس وواشنطن.

الثاني، هو الحذر الأميركي من أي وجودٍ عسكري تركي مباشر، خشية تكرار السيناريو السوري داخل القطاع. فالمطلوب من تركيا أن تبقى "مراقبًا نشطًا"، لا "فاعلًا ميدانيًا".

أما الثالث، فهو الفجوة بين الخطاب الأخلاقي والنتائج العملية: فإذا لم تنجح تركيا في ترجمة وعودها إلى تحسينٍ ملموس في حياة الفلسطينيين، فستفقد تدريجيًا صدقيتها كقوةٍ إنسانية، لتبدو أقرب إلى دولةٍ تستثمر في المعاناة لا تداويها.

من الدبلوماسية إلى الخرائط

في الجوهر، تعمل تركيا على تحويل أدواتها الإنسانية إلى بنية نفوذٍ مؤسسية: تبدأ بالمساعدات والإغاثة، ثم تنتقل إلى إعادة الإعمار، فالتدريب الأمني والإداري، لتجد نفسها في النهاية شريكًا في صياغة مستقبل غزة. هذا المسار ليس صدفة، بل هو تجسيدٌ لـ"هندسة الاعتماد"، أي خلق علاقةٍ تجعل الطرف الأضعف مرتبطًا بالمساعدات إلى درجة أنها تتحول إلى أداةٍ للسيطرة.

بهذا، تُعيد أنقرة إنتاج النموذج الغربي ذاته الذي طالما انتقدته: "القوة الناعمة" التي تُعيد رسم الجغرافيا تحت غطاء الإغاثة. فحين تتكرّس شبكة المصالح الاقتصادية والإدارية التركية داخل غزة، لن يكون من السهل تفكيكها لاحقًا. المساعدات هنا ليست استجابةً للألم، بل مقدّمةٌ لعقدٍ اجتماعي–اقتصادي جديد تُحاول أنقرة أن تكتبه بأيديها.

غزة كمرآة لاختبار الدور

تبدو غزة اليوم منصة اختبارٍ مزدوجة: لتركيا التي تريد أن تُثبت قدرتها على لعب دور "الفاعل المسلم القادر"، ولواشنطن التي ترى فيها فرصةً لتجريب شكلٍ جديدٍ من الوكالة الإقليمية، تُدمج فيه الأخلاق بالسياسة.

لكنّ السؤال الحقيقي ليس عمّن يُقدّم المساعدات، بل عمّن يرسم خرائطها. فالمساعدات حين تُوجَّه وفق حسابات النفوذ تتحول إلى أدواتٍ لإعادة تشكيل الواقع. أنقرة تُقدّم نفسها اليوم كمنقذ، لكنها تتحرك ضمن خرائطٍ تُرسم في غرفٍ مغلقة، حيث تُحدَّد مناطق النفوذ ودوائر السيطرة ونقاط الدخول إلى اليوم التالي لغزة.

في النهاية، قد تُعيد تركيا بناء مستشفى في غزة أو إرسال الخبز والدواء، لكنها في الوقت نفسه تُعيد بناء حضورها في خرائط النفوذ، لا في قلوب الضحايا. وما بين الشاحنة الطبية والاتفاق السياسي، تنكشف الحقيقة: أن المساعدات ليست نهاية المأساة، بل بداية شكلٍ جديدٍ من السيطرة.


الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]




روزنامة المحور