منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على لبنان في أيلول/سبتمبر 2024، دخلت بيئة الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية في حالة من الاستنزاف المستمر، حيث لم تهدأ الاستهدافات اليومية التي طالت المدنيين والممتلكات والبنى التحتية. هذا الواقع لم ينشأ من فراغ، بل كان نتيجة مباشرة لسياسات إسرائيلية ممنهجة هدفت إلى التهجير، وتدمير البيوت، وسلب الأرزاق، واغتيال القيادات، وصولًا إلى إشاعة مناخ دائم من التهديد النفسي والجسدي. ترافق ذلك مع ضغوط داخلية في لبنان، تمثلت بالتنمّر السياسي والإعلامي الموجّه ضد البيئة المقاومة، ما عمّق الإحساس بالعزلة والإرباك لدى الأفراد والجماعات.
وإذا كانت تفاهمات الردع منذ العام 1996 قد وفّرت نسبيًا توازنًا أمنيًا ونفسيًا، ورسّخت ثقةً بالقدرة على الرد، فإن حرب 2024 كسرت هذه القاعدة، حين لجأ العدو إلى استراتيجية جديدة استهدفت القيادات والقدرات، وأبقت التهديد مفتوحًا رغم إعلان وقف إطلاق النار. شكّل ذلك صدمة حقيقية للمجتمع المقاوم، إذ وجد نفسه أمام خسائر فادحة، ومعركة مستمرة بأشكال أخرى، أبرزها حرب التهديد النفسي والمعنوي.
إن استمرار هذا الشعور بالتهديد لا ينعكس فقط على حياة الأفراد اليومية، بل يترك آثارًا عميقة على المستويات السياسية، والإعلامية، والاجتماعية، والنفسية. ومن هنا تبرز الحاجة إلى قراءة مزدوجة لهذه الظاهرة: الأولى ترصد سلبياتها وتداعياتها الخطرة، والثانية تبحث في كيفية تحويلها إلى عامل قوة وصمود، أي إلى استثمار إيجابي للتهديد الدائم.
أولًا: الآثار السلبية للشعور الدائم بالتهديد
على المستوى السياسي والإعلامي
يدرك اللبنانيون أن الانقسام السياسي الداخلي كان دائمًا أرضًا خصبة لتكريس الضعف الوطني. ومع تصاعد التهديدات الإسرائيلية بعد 2024، برزت تداعيات هذا الانقسام بشكل أوضح داخل البيئة الشيعية خصوصًا، حيث تولّدت:
- حالة من التنافر السياسي بين الأقطاب.
- تكتلات وزارية وحزبية متصارعة.
- تصاعد الخطاب الطائفي والمذهبي.
- شروخ سياسية تنذر بالفتن على الأرض.
- شعور متنامٍ بالعزلة والإقصاء، وكأن المجتمع المقاوم محشور في زاوية ضيقة.
هذا المناخ، ترافق مع ضغط إعلامي داخلي وخارجي، غذّته وسائل إعلام خليجية ودولية معادية، عملت على تكريس صورة الهزيمة، وإشاعة الشكوك حول جدوى المقاومة. ومن هنا برز السؤال المتكرر بين الناس: "هل نحن على أبواب حرب جديدة؟"، وهو سؤال ناتج عن حملة تهويل مدروسة، في ظل غياب منظومة إعلامية مضادة وفاعلة بالقدر المطلوب.
نتيجة ذلك، انتشرت أجواء الكراهية والانقسام على الشاشات ومنصات التواصل، وانعكست على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، إذ ساهم التهويل والضغط النفسي في تراجع الاستثمار والإنتاج، وزيادة مشاعر الإحباط لدى الناس.
على مستوى الفرد والجماعة
علميًا، يتفاعل دماغ الإنسان مع الخوف عبر تنشيط "اللوزة العصبية" التي تحفّز الغدة النخامية لإفراز هرمونات مثل الأدرينالين والكورتيزول، ما يؤدي إلى استنفار جسدي ونفسي مستمر. هذا الاستنفار، إذا طال أمده، يتحوّل إلى حالة إنهاك نفسي وسلوكي، تتجلّى في:
- القلق المزمن والتوتر المستمر.
- الأرق وفقدان القدرة على الإنتاج والإبداع.
- تراجع القدرة على اتخاذ القرارات.
- الاضطرابات السلوكية.
وعلى مستوى الجماعة، تظهر تداعيات مشابهة:
- قلق جماعي واضطراب في الأداء المهني.
- توقف المشاريع الجديدة، وتراجع التعليم لدى بعض الفئات.
- انتشار الحاجة إلى الدعم النفسي، خصوصًا بين الشباب والأطفال.
قصة الفتاة التي فقدت إحساسها بالأمان بعد تهديد أفيخاي أدرعي في ليلة العيد مثال حيّ على كيف يترسخ الخوف في السلوك اليومي، فيتحول إلى رُهاب يغيّر أنماط الحياة.
ثانيًا: الاستثمار الإيجابي للشعور بالتهديد الدائم
رغم كل ما سبق، فإن التهديد لا يقتصر على كونه عنصرًا سلبيًا، بل يمكن أن يتحوّل إلى دافع للتكيّف والتطوير. فحين يدرك الإنسان أنه مهدّد في وجوده وعيشه، تبدأ آليات التفكير لديه بالبحث عن سبل الحماية والمواجهة.
أبرز أوجه الاستثمار الإيجابي:
- التحضير المسبق: التهديد يدفع إلى التفكير بخطط وقائية، كتجهيز المنازل، إعداد خطط الطوارئ، وتطوير وسائل الحماية.
- تركيز على المستقبل: فهو يجعل الإنسان مستعدًا لما هو قادم بدل الانشغال بما فات.
- رفع الوعي السياسي: إذ يحفّز الأفراد على متابعة الأحداث بدقة، ويحولهم من متفرجين إلى شركاء في صناعة القرار والمواجهة.
- تعديل القيم والأهداف: الخطر يعيد ترتيب الأولويات، فيدفع الأفراد إلى تجاوز الكماليات، والتفكير بما هو جوهري ومصيري.
- تعزيز التضامن الاجتماعي: حيث يصبح الانتماء إلى الجماعة مصدرًا للدعم، وتزداد الروابط الداخلية قوة.
- تنمية القدرات الفردية: من خلال تعلّم مهارات حياتية (الإسعاف الأولي، التنظيم الذاتي، الرياضة، التأمل) تعزّز المناعة النفسية والجسدية.
- إبداع وإنتاجية: فبدل استنزاف الطاقة في الخوف، يمكن تحويلها إلى مبادرات تعليمية وثقافية ومجتمعية.
إن جيل الشباب، الذي نشأ في بيئة التهديد المستمر، يمتلك وعيًا سياسيًا واجتماعيًا أعلى من أقرانه في مجتمعات مرفّهة. هذا الوعي يشكّل بذرة حقيقية لمجتمع مقاوم قادر على التأقلم مع أقسى الظروف.
ختاماً، إن الشعور بالتهديد الدائم سيف ذو حدّين: فمن جهة، يولّد القلق والاضطراب والتراجع النفسي والاجتماعي، ومن جهة أخرى، يفتح المجال أمام بناء مقاومة نفسية وفكرية ومجتمعية قادرة على مواجهة الأخطار. التحدي الأساسي أمام المجتمع المقاوم اليوم هو إدارة هذا التهديد: كيف نحوله من عامل إضعاف إلى عامل قوة؟
الجواب يكمن في تطوير استراتيجيات إعلامية وسياسية ونفسية، تعيد صياغة التهديد باعتباره حافزًا للوعي والتنظيم والتكافل، لا سببًا للانقسام واليأس. فالمجتمع الذي يتقن فن استثمار الخطر، قادر ليس فقط على الصمود، بل على تحويل التهديد ذاته إلى وقود لمسيرته في مواجهة العدو.