لم يكن اسم البروفيسور جمال الزبدة حاضراً في الواجهة الفلسطينية، ولم يُعرف دوره الحقيقي إلا بعد استشهاده. خلف الستار، كان الرجل يقود أحد أهم مفاصل التطوير العسكري في غزة، تحت إشراف مباشر من القائد محمد الضيف، محوِّلاً مختبرات بسيطة وإمكانات شحيحة إلى قوة ردع أربكت الاحتلال لسنوات. ترك الولايات المتحدة، وجنسيّتها، ومختبرات الطائرات المتقدّمة، ليعود إلى غزة… وهناك صنع "ما يكسر به رأس اليهود" كما كان يعبر.
عالم من الطراز الرفيع
حصل جمال الزبدة على الدكتوراه في الهندسة الميكانيكية من معهد فيرجينيا للعلوم التقنية في الولايات المتحدة قبل أكثر من 35 عاماً. وخلال سنوات دراسته وأبحاثه، برز اسمه في مجالات الديناميكا الهوائية ومحركات الطائرات النفاثة، خصوصاً تلك المستخدمة في طائرات "اف 16" والتي شكّلت لاحقًاً أساساً لتطوير طرازات أحدث مثل "اف 35".
كانت أبحاثه حول "جناح دلتا" وتفاعل الحركة مع سرعة الصوت مرجعاً معتمداً في الكتب والمجلات التخصصية حتى ما بعد الألفية. ومع هذه المكانة العلمية، حصل هو وعائلته على الجنسية الأميركية، وتلقّى عروضاً للبقاء هناك، لكن قراره كان مختلفاً تماماً.
هذه البلاد أمانة
عام 1994، اتخذ الزبدة القرار الذي اعتبره كثيرون صادماً حيث غادر الولايات المتحدة وعاد إلى غزة ليعمل محاضراً في كلية الهندسة في الجامعة الإسلامية. كان يؤمن بأن من يمتلك قضية محقة "لا تُغريه أمريكا ولا ألف أمريكا".
في الجامعة، درّس أجيالاً من المهندسين، وتوسّع في اختصاصاته بين الميكانيكا، الديناميكا الهوائية، المكوّنات الهيدروليكية، الهندسة الإنشائية، والبرمجة. وفي الوقت الذي كان يظهر فيه كأكاديمي هادئ، كان يُعدّ شيئاً أكبر بكثير ممّا يظهر.
مراكز التطوير السري
ابتداءً من عام 2006، انضمّ الزبدة إلى فريق هندسي سرّي في كتائب القسام، يعمل على تطوير الصواريخ والطائرات المسيّرة. قاد مجموعة من المهندسين الشباب الذين درّسهم بنفسه، واستقطب غيرهم للعمل في برنامج التصنيع العسكري.
استطاعت هذه الفرق، خلال سنوات قليلة، رفع مدى الصواريخ من عشرات الكيلومترات إلى مديات وصلت في عام 2021 إلى 250 كلم عبر صاروخ عياش 250.
كان الاحتلال قد وضعه تحت الرصد منذ عام 2010، وحاول اغتياله عام 2012 دون أن ينجح.
رأى الاحتلال في جمال الزبدة عقلاً استثنائياً، يشبه في مكانته العلمية وتأثيره العلماء الذين عملوا على تطوير البرنامج النووي الإيراني..
بالإضافة إلى مهمته البارزة في تطوير الصواريخ، عمل الزبدة على تشكيل منظومة كاملة تعتمد على:
هندسة برمجية متقدّمة
ديناميكا هوائية دقيقة
نمذجة ومحاكاة عالية المستوى
تحويل مواد بسيطة إلى منظومات فعّالة
حيث كان ينتقل بين قاعات التدريس وورش التصنيع، يجمع بين التعليم والميدان، حتى وصفه طلابه "بالقائد الجبار".
ضمّ الشهيد ابنه أسامة – وهو مهندس يحمل الجنسية الأميركية – إلى طاقم التطوير العسكري. الذي كان يعمل لساعات في المصانع تحت الأرض، حتى نال الشهادة إلى جانب والده، في اليوم الثاني من معركة "سيف القدس" عام 2021، عندما شنت طائرات الاحتلال الحربية غارة بأكثر من 20 صاروخ "جي بي يو" المخصّصة لاختراق التحصينات على موقع تحت الأرض يضم عدداً من مهندسي المقاومة بمن فيهم الزبدة. وارتقى معهم العديد من الشهداء في كتائب القسام مثل باسم عيسى.
بعد اغتياله، وصفه الشاباك بأنه "قوة أساسية خلف شبكة تصنيع الصواريخ" و"أحد أبرز عقول حماس العلمية".
إرث مستمر
ساهمت فرق التطوير التي أشرف عليها الزبدة في إدخال الطائرات المسيّرة إلى المعركة، كما حصل في حرب 2014، عندما اخترقت مسيّرات المقاومة عمق الأراضي المحتلة لأكثر من 30 كلم دون أن ترصدها المنظومات الإسرائيلية.
أما إنجازه الأبرز، فيتمثّل في تأسيس جيل كامل من المهندسين الذين أكملوا ما بدأه، ونقلوا قطاع غزة من مرحلة الصواريخ القصيرة المدى إلى إنتاج معادلة توازن ردع مع الاحتلال، أثمر عنها طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023.
الكاتب: غرفة التحرير