بينما تستأنف القوات المسلحة اليمنية عملياتها البحرية ضد السفن المرتبطة بإسرائيل أو المصالح الغربية في البحر الأحمر، يتكشف من جديد حجم التحديات البنيوية في الاستراتيجية الأميركية. فالهجوم المزدوج الذي أسفر عن غرق سفينتين خلال أقل من 48 ساعة -"ماجيك سيز" و"Eternity C"- لم يكن استعراضاً للقوة النارية، بل تأكيداً على أن الوقائع تفرض نفسها على الادارة الاميركية لمعالجة سبب الهجمات بدلاً الغرق في مستنقع جبهة جديدة.
الرد الأميركي، الذي اقتصر حتى الآن على إدانات دبلوماسية، يعيد فتح النقاش حول حدود القوة الأميركية حين تواجه فاعلين غير تقليديين يمتلكون الإرادة والقدرة على المناورة الإقليمية، دون أن يتكئوا على تفوق تكنولوجي أو حلف عسكري منظّم.
منتصف آذار/مارس عام 2025، أطلقت الولايات المتحدة حملة عسكرية تحت عنوان "راف رايدر"، كلّفت أكثر من مليار دولار، -وقالت أنها استهدفت مواقع القيادة والسيطرة ومخازن الأسلحة التابعة لصنعاء. وعلى الرغم من تكثيف الضربات الجوية، لم تحقق الحملة أهدافها الاستراتيجية؛ فالبنية القتالية للقوات المسلحة اليمنية لم تُكسر، وعملياتهم البحرية لم تُشلّ، كما أن قدراتهم على استئناف العمليات البحرية بقيت قائمة ومؤثرة.
النتيجة التي تُركت أمام واشنطن كانت اتفاقاً هشاً لوقف الهجمات، سرعان ما انهار مع أول اختبار جدي. وهو ما يعكس إخفاقاً مركباً: فشل في تثبيت أثر عسكري طويل الأمد، وفشل في قراءة نوايا الطرف المقابل ومرونته الاستراتيجية.
غير أن ترامب، الذي تبنّى خلال حملته الانتخابية خطاباً مناهضاً للتورط العسكري في الشرق الأوسط، لم يضع خيارات سياسية بديلة تعوّض هذا الانكفاء الميداني. والنتيجة هي تراكم الخسائر التكتيكية، دون صياغة سردية ردع جديدة تتناسب مع طبيعة الخصم وساحة الاشتباك.
باتت القوات المسلحة اليمنية تملك تموضعاً إقليمياً مستقلاً، تم بناؤه خلال أكثر من عقد من المواجهات والنجاحات الميدانية. في سياق المفاوضات الجارية لإنهاء الحرب في غزة، يَصعُب تجاوز تأثير صنعاء سواء في الضغط غير المباشر على مسار المفاوضات، أو في ترسيم ما يُمكن أن تؤول إليه ترتيبات ما بعد الحرب.
الارتباك الأميركي الحالي ليس تكتيكياً فحسب. بل هو ارتباك في تحديد الهدف من الانخراط العسكري ذاته. هل المطلوب فقط تأمين خطوط الملاحة؟ أم إعادة تشكيل البيئة الإقليمية بما يضمن تقويض "محور المقاومة"؟ أم ترسيخ التوازن القائم دون خوض مواجهة مفتوحة؟
الرئيس ترامب، رغم تصريحاته الصارمة في بعض المحطات، لم يُظهر حتى الآن استعداداً للذهاب إلى مواجهة مباشرة جديدة في الشرق الأوسط. هذا التردد الاستراتيجي يسمح لصنعاء، وغيرها من الفاعلين المناوئين لواشنطن، بتوسيع هامش المناورة، وفرض وقائع بحرية أو برية تعيد صياغة خطوط النفوذ.
التهديدات المتصاعدة في باب المندب تؤثر مباشرة على ثقة الأسواق، وسلاسة حركة الطاقة والبضائع، لكنها أيضاً تُظهر هشاشة ما تبقى من تفوّق واشنطن في "الردع عن بُعد". فلم تعد القوة الجوية وحدها قادرة على حسم المعارك، ولا على فرض تهدئة مستدامة حين لا تترافق مع مشروع سياسي شامل.
المرحلة الحالية تُنذر بتحوّل في قواعد الاشتباك البحري. إذ لم تعد القوات المسلحة اليمنية تستهدف السفن التحذيريا فحسب، بل تغرقها فعليا. وهي بذلك تضع شركاء واشنطن أمام اختبار معقد.
إن تعقيد الملف اليمني اليوم لا يكمن فقط في قوته البحرية، بل في موقعه من معادلة التفاوض الشاملة: لا يمكن إنجاز اتفاق دائم في غزة دون مراعاة شروط اللاعبين الإقليميين الذين أثبتوا قدرتهم على الفعل، لا على المشاهدة.
الكاتب: غرفة التحرير