الخميس 10 تموز , 2025 03:14

الالتزام بأوامر القائد وتأثيره على مسار الحرب

قيادات في محور المقاومة

معركةُ "أُحُد" دُروسُ وعبر لحركاتِ المقاوَمَة

تُعَدُّ معركةُ "أُحُد" مِنْ أهمِّ المعاركِ التي كانَ لها أثرٌ كبيرٌ في التاريخ الإسلامي، وقد كَتَبَ فيها العلماء أبحاثًا تَعَلَّمَ منها العقلاء دروسًا متعدِّدة الأبعاد، وتكمنُ أهمية هذه المعركةِ عندَ الدارسين في طبيعةِ سَيْرِها التصاعدي المتغيِّر المسارات، وكونِها جمعتْ ما بين طَعْمِينِ مُتَناقِضَينِ: طَعْمِ الَّلذَّةِ بالنَّصرِ، وطَعْمِ مَرارةِ الهزيمة؛ فَكُتُبُ السِّيَرِ تَذْكُرُ أنَّ المسلمينَ في هذهِ المعركةِ الاستثنائيَّةِ كانت لهمُ الغَلَبَةُ على أعدائِهم في الجولةِ الأولى حيث وَلَّى أعداؤُهم هاربين، ما جعلَ جُنْدَ المسلمينَ يظنُّونَ أنَّ المعركةَ قدِ انْتَهَتْ، إلا أنَّ الحساباتِ التي حَسَبَها الجنودُ كانَتْ مختلِفَةً عن تقديراتِ القيادةِ التي أَعْطَتْ تَعليماتٍ صارمةً تقضي بالتَّشَبُّثِ بأرضِ المعركةِ مهما حَدَثَ إلى أنْ يأتِيَهُمْ أمرٌ آخَرُ بالتَّحَوُّلِ عنْ ساحةِ القِتَالِ.

لكنَّ التَّسَرُّعَ وعدمَ التَّشَبُّثِ بالأرضِ وعَدَمَ الالتزامِ بالأوامِرِ حَوَّلَ دفَّةَ النصرِ إلى هزيمة... وَنُجْمُل أهمَّ الأسبابِ التي غَيَّرَتِ الحساباتِ والنتائِجَ وكانتْ دروسًا للأمَّةِ لا يَنْضَبُ مَعِينُها بما يلي:

أولا: إنَّ فريقًا من الجيشِ تركَ الالتزامَ بأوامرِ القائدِ الأعلى للحربِ من دونِ سببٍ وجيهٍ أو مصلحةٍ عامَّةٍ؛ فبعدَ انتهاءِ الجولةِ الأولى من المعركة، وخسارةِ المشركين الفادحة فيها، وتَوْلِيَتِهِمُ الأدبارَ، وإسراعِهم في الهروبِ لئلا يقع بهم ما وقع لهم يوم بدر من مَقْتَلَةٍ طالتْ مُعْظَمَ زعمائِهِمُ الكبارِ وقادتِهم الشجعانِ ومحاربيهم الأشداء... وبَعْدَ أنْ ظَفِرَ الجيشُ الإسلاميُّ بقريشٍ ظَفَرًا مُبينًا، ما كانَ مِنْ فِرْقَةِ الرُّماةِ التي ركزَها النبيُّ على تَلَّةٍ استراتيجيَّة مُشْرِفَةٍ تَكْشِفُ كُلَّ تَحَرُّكٍ لِلعَدُوِّ وتَصْطادُ كلَّ حَرَكَةِ التِفافٍ أَوْ خُطْوَةَ غَدْرٍ مِنَ الْمُمْكِنِ أنْ تَخْطُوَها قريشٌ الحاقدةُ لِتَرُدَّ اعتبارَها وهزيمتَها النكراء... ما كانَ مِنْ هذه الفِرْقَةِ إلَّا أنْ تَرَكَتْ أماكنَها طَمَعًا بِغُنْمٍ عاجل، فلم يتحمَّلْ مُعْظَمُ عناصرِ فِرْقةِ الرُّماةِ رؤيةَ الجيشِ المنْتَصِرِ يَجْمَعُ الغَنيمَةَ وهم واقفونَ على الجبلِ يُعاينونَ ويُشاهدونَ ويَعُدُّونَ ما يجمعُه إخوانُهم منْ أموالٍ متناثرة على أرضِ المعركةِ التي تركها الأعداءُ بكلِّ ما حطَّ عليها مِنْ متاعٍ...

هنا كانتِ الزلَّةُ الأولى لهم عندما فكَّروا مُجَرَّدَ تفكيرٍ بمخالَفَةِ أمرِ النبيِّ وتَرْكِ الأرضِ التي ركزَهم فيها وحَثَّهُمْ على التَّشبُّث بها، إلى أنْ أعلنوا عنِ المبادَرَةِ إلى المخالَفَةِ قائلين لبعضهم: "أَدْرِكُوا النَّاسَ ونَبِيَّ الله، لا يَسْبِقُوكُمْ إلى الغنائِمِ، فَتَكونَ لَهُمْ دُونَكُمْ".

ثانيا: إنَّ الخطَّ الذي رسمَه القائدُ الأعلى للجيش كان في غاية الدقَّةِ، حتى إنَّه لم يكنْ ليتحمَّلَ أيَّ خَلَلٍ مهما يَكُنْ بَسيطًا، فحساباتُ المعاركِ والنصرِ والهزيمةِ متى اختلَّ عنصرٌ من عناصرها انقلبتِ الموازينُ رأسًا على عَقِبٍ، مِنْ هنا كان على أعضاءِ الفرقةِ جميعِهم ألَّا يَتَزَحْزَحُوا مِنْ أماكنِهم، وألَّا يسمحوا لرؤيةٍ قاصِرةٍ ولِطَمَعٍ عابِرٍ أنْ يستوليَ عليهم ويَحْمِلَهم على انتهاكِ أوامرِ القائدِ الذي حدَّدَ مهامَّ الجندِ والكتائبِ والفِرَقِ والجيشِ بكلِّ أَلْوِيَتِه، ثُمَّ أوكلَ إلى الجميعِ الأعمالَ التي يتوجَّبُ عليهم القيامُ بها، مُبَيِّنًا الثغراتِ التي يَتَوَجَّبُ عليهم سَدُّها مهما شاهدوا وعايَنوا؛ كما أوضحَ لهم وشدَّدَ وأكَّدَ على ضرورةِ الالتزامِ بأوامرهِ ولو رأوا بشائرَ النصرِ تلوحُ في الأفقِ، إلَّا أنْ يأتيهم الأمرُ الحاسمُ مِنْ قِبَلِهِ بضرورةِ تركِ الموقعِ الكاشفِ أرضَ الجَبْهَةِ، خصوصا وأنَّ أهمَّ المهمَّاتِ التي ألقاها على عاتِقِهم تجلَّتْ في قولِهِ: «اِدْفَعُوا الخيلَ عنَّا بالنِّبالِ»...

ثالثا: مُهِمَّةُ مُراقَبَةِ الرماةِ على الجبل في ذلك العصرِ، تتألَّقُ اليومَ رَصْدًا ومراقبةً لكلِّ حركةٍ يقومُ بها العدوُّ، واقتلاعًا لكلِّ عينٍ ترصُدُ تحركاتِ جيشِ المسلمينَ، وهَدْمًا لأبراجِ المراقبةِ والتجسُّس، وتدميرا لمنصات الصواريخ والقواعد العسكرية التي تستهدفُ الأبرياء بلا شفقة ولا رحمة، وفَضْحًا لكُلِّ التَّكَتُّلاتِ السياسيَّةِ والاقتصاديةِ والتجاريةِ والماليةِ الضاغطةِ على صعيدِ الإقليمِ والعالمِ... والتي تتلاعبُ باقتصاداتِ دُوَلِ العالمِ الثالثِ وتُدَمِّرُها بعدَ أنْ تَعْبَثَ بها عَبَثًا مُخيفًا...

رابعا: إنَّ المعركةَ التي التمعتْ فيها بشائرُ النصرِ والحياةِ بشعارِ «أَمِتْ، أَمِتْ» الذي أطلقَه رسولُ الله (ص)، والذي يَدُلُّ على استِعْذابِ المؤمنينَ الشهادةَ في سبيلِ اللهِ والحقِّ والقضيَّةِ والعدالةِ والمنهجِ والدينِ، هذه المعركةُ نفسُها هي المعركةُ التي أَسْفَرَتْ عن هزيمةٍ كان شعارُها «الغنيمة، الغنيمة»؛ هذا الشِّعارُ الذي أَطْلَقَهُ الرُّماةُ الذين نزلوا عنِ الجبلِ تاركينَ الساحةَ لِمَيْمَنَةِ خالد بنِ الوليد ومَيْسَرَةِ عِكْرِمَة بنِ أبي جهل اللتينِ كانتا ثابِتَتَينِ دونَ حِراكٍ خلالَ المعركةِ رَغْمَ انهزامِ مُقَدِّمَةِ جَيْشَيْهِما وتَرَاجُعِهِا وهُرُوبِها...

خامساا: إنَّ الهجمةَ المرتدَّةَ والسريعةَ التي أَطْبَقَتِ الأجنحةَ على جيشِ المسلمينَ مُتَمَكِّنَةً منَ الوصولِ إلى مَوْقِعِ القائدِ الأعلى ومحاولةِ قَتْلِهِ أَرْبَكَتِ الجُمُوعَ وأَذْهَلَتِ المؤمنينَ الذين شعروا بالضياعِ ساعةَ سَمِعُوا المناديَ يُنادي مُعْلِنًا أنَّ النبيَّ قدْ مات... إلا أنَّ ذلكَ لم يَفُتَّ في عَضُدِ الأشِدَّاءِ الثابتين على الحقِّ، المخلصينَ لِلمشروعِ الإسلاميِّ الذي يجبُ أن تكونَ له السيادةُ والرِّيادةُ... لذا فإنَّهم سُرْعانَ ما لَمْلَمُوا جِراحاتِهِمْ ونَظَّموا صُفُوفَهُمْ وأعادوا ترتيبَ أمورِهم لِيَرُدُّوا غَدْرَ عَدُوِّهم وعُدْوانَه...

ولقدْ أثبتَ المؤمنونَ القِلَّةُ في ساحةِ معركةِ "أُحُدٍ" بُطولاتٍ نادرةً ومواقفَ جليلةً إذْ تحدَّوا الهجومَ الغادرَ وقاوموا واستبسلُوا حتَّى ماتَ منهمُ الكثيرُ، إلا أنَّهم لم يَسْتَسْلِمُوا ولم يَنْهارُوا، بلِ التَفُّوا حولَ القضيَّةِ منْ جديدٍ وتعلَّموا منْ هزيمتِهم دَرْسًا لم يَنْسَوْه أبدا...

هذا الدرسُ الكبيرُ هو الذي يجبُ أن تُعيدَ حركاتُ المقاومةِ قِراءتَه بِتَمَعُّنٍ وتَأَمُّلٍ، وتُسْقِطَه على أرضِ الواقِع اليومَ لِئَلَّا تَتَراجَعَ عن الحقِّ الذي عَرَفتْه وآمنتْ به وضحَّتْ مِنْ أجلِه؛ ولئن خَسِرَ أَهْلُ الحقِّ جَوْلةً فإنَّ ذلك لا يعني أنَّهم خسروا كلَّ الجولاتِ؛ كما أنَّ الخَسَارةَ إذا لم تُوَلِّدْ نَصْرًا وثباتًا على الموقفِ ومزيدًا مِنَ الإعْدادِ للنهوضِ بالأعباءِ الكبرى ومقاومةِ الأخطارِ، فإنَّ ذلكَ سيكونُ مُؤَشِّرًا على ضَعْفِ الإيمانِ وتَزَلْزُلِ بُنيانِ العقيدة وعدمِ استحقاقِ المقاومينَ لتمثيلِ المنهجِ الذي يَدَّعونَ الانتماءَ إليه.

إنَ منْ أهمِ عواملِ القوةِ والنصرِ لدى حركاتِ المقاومةِ: الطاعةُ والالتزامُ بأوامرِ القائدِ الأعلى والصبر، ولهذا فإن الحفاظِ على هذه العوامل لا يتأتى إلا بالاستفادةِ منْ الدروسِ والعبرِ عبرَ التاريخِ، كما أنَّه يُعَدُّ واجبًا دينيًّا وسياسيًّا وقيميًّا... يتبع


الكاتب:

الشيخ د. عبد القادر ترنني

مؤلف وباحث سياسي
دكتوراه في اللغة العربية وآدابها
أستاذ في الجامعة اللبنانية
لديه العديد من الكتب والمؤلفات في الفكر السياسي
 




روزنامة المحور