رمت الحكومة اللبنانية كرة النار إلى ملعب الجيش اللبناني، بعد فشل تقديراتها المحلية والدولية حول طريقة تعاطي حزب الله مع قرار الحكومة القاضي بحصرية السلاح بيد الدولة. السعودية من جهتها لم تفهم عقلية حزب الله، ولا تدرك كيفية عمله وتفكيره، فراهنت على أنه لن ينزل إلى الشارع بحجة الحفاظ على السلم الأهلي. لكن مع رفع حزب الله سقف الخطاب عبر كلمة الأمين العام الشيخ نعيم قاسم الأخيرة، ظهرت الصورة واضحة: هذا السلاح باقٍ ومصون، والقرار كأن لم يكن، حتى لو أدى الأمر الى المواجهة، وهو جاهز لقتال كربلائي.
يشير الى هذا الواقع المأزوم تصريح وزير الخارجية يوسف رجي الذي قال إن "الجيش اللبناني قد يطلب مهلة أسبوعين إضافيين لتسليم خطة نزع السلاح". ما يشي بأن الأطراف اللبنانية والسعودية اكتشفت سوء تقديرها لموقف حزب الله، فاختارت مراجعة أي خطة وُضعت مسبقاً لتجنب صدام غير محسوب. في الواقع، السعودية لا تبالي بهذا الصدام أو حتى بجر لبنان إلى حرب أهلية، وهو ما عبر عنه مبعوثها يزيد بن فرحان حين رد على سؤال إذا ما كان لبنان بصدد حرب أهلية جراء الوضع قائلاً: "فليكن".
انسحاب تكتيكي للحكومة
من هنا، بدأت الحكومة اللبنانية بنقل هذا الوزر والمهمة المستحيلة إلى عاتق الجيش اللبناني، والانسحاب بشكل تكتيكي كي لا تكون في الواجهة مباشرة. هذه اللعبة التي تمارسها السلطة السياسية تكشف قلة المسؤولية والوطنية والحنكة لديها، إذ إنها تضع الجيش الذي يضم جنوداً من مختلف أطياف المجتمع اللبناني في مواجهة مباشرة مع حزب الله، الذي يشكل مكوناً أساسياً من مكونات لبنان ويحظى بشعبية وازنة عابرة للطوائف والأحزاب. كما وتُعرّض السلم الأهلي للخطر.
أما السعودية، فهي تسعى لإحكام قبضتها على لبنان، مستخدمة المال لشراء قنوات تلفزيونية ومواقع الكترونية وصحف وإعلاميين، بالإضافة الى تجييش كل إعلامها للهجوم على المقاومة، على سبيل المثال، ما نشرته صحيفة عكاظ السعودية تحت عنوان "السعودية وتساؤل الدكتور جعجع"، حيث حاولت إظهار المملكة كداعم تاريخي للبنان في كل مراحله، وتأكيد أن سياستها قائمة على السلام والاستقرار والتنمية خلافا للواقع الذي يعرفه غالبية اللبنانيين.
وهذا ما رآه رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع من "صورة مثالية للسعودية" في الحوار الذي أجرته قناة "العربية" معه، والذي تضمن مديحاً لدور المملكة في لبنان "تمسيح جوخ" كما يقول اللبنانيون، وصولاً إلى اعتبارها شريكاً أساسياً في إنجاز استحقاق رئاسة الجمهورية. كما سبقت ذلك مقابلة مع رئيس الجمهورية جوزاف عون أشاد فيها بدور السعودية ست مرات إقليمياً وعربياً وسط تغافل تام عن الدور المشبوه الذي تلعبه الرياض في لبنان. حاول جعجع والبطريرك بشارة الراعي ونواف سلام وجوزاف عون في مقابلاتهم المتتالية مع الإعلام السعودي تبرئة الرياض من كل مساوئها وتدخلاتها في الشأن اللبناني، وأشاروا الى أنها "دولة لا تُسيء ولا تتدخل سلباً في شؤون الآخرين، بل تُسخّر إمكاناتها لتحقيق الوئام والاستقرار" وفق قولهم.
ماذا قدّمت السعودية الى لبنان؟
لكن السؤال الحقيقي الذي يفرض نفسه: متى كانت نية السعودية صافية تجاه لبنان؟ هل ساعدته فعلاً في مواجهة المخاطر؟ هل حاربت إلى جانبه ضد "إسرائيل"؟ هل دفعت عنه الحروب الأخيرة بوزنها السياسي والعسكري؟ أم أنها على العكس، موّلت جماعات تكفيرية نفذت تفجيرات انتحارية، وأطلقت إعلامها المأجور لتشويه صورة حزب الله واتهامه بتجارة المخدرات، بينما فضائح "مملكة الكبتاغون" طالت أمراءها في المطارات؟
متى كانت السعودية حريصة على وحدة لبنان؟ هل حين اختطفت رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري وأجبرته على تقديم استقالته؟ وتحاول إقصاء تيار المستقبل عن الحياة السياسية؟ هل حين مارست ضغوطاً على "إسرائيل" عام 2006 لمواصلة الحرب على لبنان للقضاء على حزب الله مقابل مليارات الدولارات؟ هذا ما كشفه الشهيد القائد السيد حسن نصر الله في عام 2017 عقب اختطاف الحريري، مؤكداً أن السعودية طلبت من الكيان الاستمرار في الحرب حتى القضاء على حزب الله، وأنها ستتحمل تكلفة ذلك على نفقتها الخاصة.
هل يمكن أن تكون السعودية حريصة على لبنان وهي التي ارتكبت مجازر في اليمن شبيهة بما يفعله الاحتلال في غزة، وشنت حرباً على هذا البلد العربي الفقير طالت 8 سنوات وما تزال؟ أو عندما كان لبنان يُقصف عام 2006 وصدرت من السعودية فتوى أطلقها الشيخ عبد الله الجبرين حرّم فيها حتى الدعاء لحزب الله لأنه من مذهب آخر(شيعي)، ومنع مساندته والوقوف إلى جانبه؟
السعودية لم تكتفِ بذلك، بل حرّضت الدول العربية على لبنان، وتدخلت في اختيار رئيس حكومته، وسعت لإسقاط زعامات سياسية وصعود أخرى. بل فرضت حصارا على لبنان وسحبت ودائعها من المصارف اللبنانية، وجعلت لبنان في عزلة وهي تعاقبه لأنه لا ينفذ سياساتها وإملاءاتها. هذه الممارسات فضحت حقيقة السعودية في لبنان والمنطقة.
اليوم، وبينما أهل غزة يموتون جوعاً تحت الحصار، لا تحرّك السعودية ساكناً لإدخال المساعدات أو منع المجازر وهي قادرة على ذلك، بل تحرض أمريكا وإسرائيل للقضاء على حماس، كما يجهد الإعلام السعودي لتحميل المقاومة الفلسطينية مسؤولية الإبادة التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين.
على الحكومة اللبنانية المخطوفة، والتي تم مصادرة قرارها وأُجبرت على الموافقة على الورقة الأميركية التي سلّمها توم براك للحكومة، أن توقف تدخل الآخرين في شؤونها كل الآخرين وأولهم الأميركيين والسعوديين، لكن هل تجرؤ على ذلك؟
التجارب السابقة، من عدوان تموز عام 2006 وما فعلته الرياض إلى احتجاز الرئيس سعد الحريري، ومن تمويل الفتنة إلى ارتكاب المجازر في اليمن، كلها دلائل على أن السعودية ليست حريصة على استقرار لبنان ولا يعنيها الشعب اللبناني، بل تسعى إلى استخدامه ورقة للنفوذ والتمدد في المنطقة.
الكاتب: غرفة التحرير