الخميس 03 آذار , 2022 04:57

ما هو واقع وأدوات الصراع الأمريكي الروسي؟

الصراع الأمريكي الروسي

وصلت العلاقات ما بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية الى حافة الهاوية، لا سيما مع بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. بحيث باتت يتردد في العالم مصطلح الحرب العالمية الثالثة، حتى وصل الى كبار المسؤولين في هذين البلدين، والذي يفتح خيارات توجه الصراع، الى ما هو أبعد من المواجهة النووية فيما بينهما.

ويتواجه البلدان في مجالات عدة، منها ما هو مباشر ويأخذ شكل المواجهة الثنائية، ومنها ما قد يتسع ليصبح خلافاً دولياً حول قضية من القضايا. ومنها ما قد يوصف بأنه صدام طويل المدى يتعلق بالمصالح الاقتصادية الاستراتيجية لكلا الدولتين.

أما معالم الصراع فتبرز في العديد من المناطق: من غرب اسيا الى البلقان والقوقاز وصولا الى شمال افريقيا واوروبا، حيث تبدو الامور معقّدة ومتشعّبة وتتطلب المراجعة والتحليل. فما هي ملامح هذه النزاعات وما مدى تأثيرها على المشهد الدولي؟ وما هي الأجندة التي سيحتاج الطرفين إلى معالجتها في المستقبل حتى عام 2030؟

أولًا: الصراع الأمريكي –الروسي في غرب اسيا

سوريا ساحة صراع امريكي-روسي: المواجهة الثنائية

احتلّت الأزمة السورية صدارة الأحداث السياسيّة العالمية في السنوات الأخيرة، وأصبحت في مقدمة الأزمات والمشاكل، وموضوعًا لاستقطابات دوليّة. هذا يشير الى بداية تمرّد منهجي من قبل موسكو، على القطبيّة الأحاديّة للعالم التي مارستها واشنطن منذ انهيار منظومة الاتحاد السوفياتي، وهو تحوّل جديد لم نره في أزمات سابقة مثل أزمة حرب الخليج، أو أثناء الغزو الأميركي للعراق.

_بالنسبة لروسيا تعتبر سوريا: واحدة من أهم الدول في منطقة الشرق الأوسط، وحجر الزاوية للأمن فيها، وبالتالي فإنَّ أي زعزعة لاستقرارها سيؤدي إلى عواقب وخيمة وفوضى حتميّة ليس فيها وحسب، بل سيمتّد إلى المنطقة بأسرها وسيشكّل تهديدًا حقيقيًّا للأمن الإقليمي ككل.

_بالنسبة للولايات المتحدة تعتبر سوريا: دولة متورّطة في دعم "الإرهاب"، بسبب دعمها لحركات المقاومة في فلسطين ولحركات المقاومة في العراق ولبنان. وفي الخلفيات، يعتقد المحافظون الجدد والمتطرّفون في الإدارة الأميركية، أنَّ الولايات المتحدة لديها مصلحة استراتيجية قوية في تغيير النظام في سوريا، وانشاء حكومة تابعة، فسوريا، وفق هؤلاء، لاتزال تشكّل تهديدًا للاستراتيجية الأميركية والمصالح الأمنيّة في الشرق الأوسط، من خلال رعايتها لحركات التحرر التي تعتبرها الولايات المتحدة جماعات إرهابيّة، كما تعتبر كذلك أنَّ سوريا قد طوّرت برامج يُشتبه بأنها أسلحة دمار شامل، وأنها عزّزت علاقاتها السياسيّة والعسكريّة مع الدول "المارقة" مثل كوريا الشمالية وإيران.

استراتيجية الاحتواء الامريكية

تعدّ روسيا قوة أساسية على المسرح الدولي، تمتلك جملة من عوامل القدرة التي تؤهلها للقيام بهذا الدور حاليا وفي المستقبل. أما من الناحية الجيوسياسية فهي تقع في قلب اورواسيا. تمتد حدود اوراسيا غربا من حدود أوروبا الغربية على المحيط الأطلسي حتى ضفاف الصين وروسيا على المحيط الهادئ في الشرق. هذا التحديد الجغرافي يمنح روسيا إمكانية الوصول الى البحار والمحيطات عبر التوغل في هذه المنطقة. لذلك كان على الولايات المتحدة الامريكية من وجهة نظر صانعي السياسات الأمريكية، أن توقف هذا التوغّل من خلال سياسة الاحتواء. حرصت روسيا منذ مجيء فلاديمير بوتين الى السلطة (2000) على استدراك تداعيات سقوط الاتحاد السوفياتي، فهي منذ ذلك الحين تعاني من ازمة جيوسياسية كبيرة تهدد امنها القومي بفعل الامتداد الأطلسي الى جوارها. أصبح الحل بالنسبة لروسيا، هو التغلغل الاستراتيجي في كل المناطق وإقامة تحالفات متينة في مواجهة السطوة الأطلسية الجديدة، فبدأت بالتحرك شرقا وغربا لتحقيق هذا التكامل الاوراسي القاري لأنه ضرورة بالنسبة لها، سيجعلها قوة جيوسياسية قارّية مستقلة.

بدت سوريا ساحة تجاذبات إقليمية حادة ومسرحا لتحقيق الأفضلية الأمنية للأمن القومي المتقدم لكل القوى والأطراف المتنافسة على ارضها. حاولت روسيا فتح ثغرة في هذا الجدار الذي صنعته السياسة الامريكية بناء على استراتيجية الاحتواء والخنق الاستراتيجي لمنع تمددها، لكي تعبر من خلالها الى مرتكزات المصالح الامريكية العالمية وهي المنطقة العربية في قلب الشرق الأوسط. وكان من الطبيعي ان يختار الروس، سوريا بوابة ومنفذا وحليفا لهم في المنطقة، خصوصا ان هناك أرضية جاهزة لإحياء علاقات الصداقة والتحالف، إضافة الى الإرث التاريخي للعلاقات بين البلدين، وذلك بعد خسارة روسيا لحليفها الاستراتيجي- العراق.

 اٍنّ هواجس شنّ الحروب العسكرية وتكاليفها الباهظة، والاخطار المرافقة لها على القوى المتصارعة. كلها عوامل ترفع من أهمية قدرة الولايات المتحدة على الارغام، وتزوّدها بخيارات للضغط، بعيدة عن الخيارات العسكرية، تكون قادرة على تحقيق الأهداف المطلوبة. من هذا المنطلق، عملت الولايات المتحدة على اعتماد سياسة فرض العقوبات عن طريق اصدار قانون عقوبات اقتصادي تحت مسمى قانون "سيزر" لردع الأعداء او الخصوم وتحقيق الأهداف وفقا للمصالح الامريكية. تحاول الولايات المتحدة الامريكية من خلال اصدار قانون سيزر، احتواء سياسة التمدد الروسي والإيراني والصيني على الأرض السورية. من خلال محاصرة المعاملات والمبادلات بكل أنواعها، ومنع الحكومة السورية من المضي في مشروع إعادة الاعمار والبناء الاقتصادي الحر بعيدا عن السياسات الامريكية. لعلّه لم يعد سرا القول، بأنّ العقوبات الامريكية المفروضة على سوريا، تجاوزت منذ فترة طويلة الدافع المزعوم لتدخل الادارة الامريكية في النزاع لتغيير النظام الحالي الى نظام ديمقراطي يحترم حقوق الانسان. فالولايات المتحدة الامريكية التي تعمدت هندسة النزاع في سوريا، بداية من تأطير الاحتجاجات الشعبية في 2011، وصولا الى تسليح المحتجين ونشر الارهابيين في البلاد، حولت الازمة السورية الى حرب بالوكالة، هدفها السيطرة على الأرض ومحاصرة التقدم الروسي.

احترمت روسيا بشكل عام القوة العسكرية الأمريكية وكفلت سلامة قواتها ، كما امتثلت للتوجيهات الأمريكية بشأن خطوط فض الاشتباك ،عندما كانت التوجيهات مدعومة بمظاهر القوة. طرح تساؤل حول الية فض الاشتباك وشكل الضربات الامريكية. يشير المصطلح إلى محاولات لتجنب سوء الفهم والاشتباكات المباشرة المحتملة بين روسيا والغرب في سوريا، حيث كانت روسيا تستهدف منذ سنوات قوات الجماعات المسلحة المتنوعة، كانت طائرات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة تستهدف مواقع تنظيم الدولة الإسلامية(داعش) الإرهابي. لكن تم اغلاق الخط الساخن لحل النزاعات، الذي أنشئ في عام 2016 بين القيادة المركزية الأمريكية في قطر والقوات الروسية في سوريا، بسبب الخلافات بين موسكو وواشنطن. قيّد هذا الاجراء التحركات العسكرية الامريكية في سوريا، التي بات عليها إعطاء روسيا الإشعار المسبق بنواياها، مما وضعها في موقف التفكير الجدي في الانسحاب من المستنقع السوري.

عرض التقرير الذي نشره مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن(CSIS) ، حملة موسكو العسكرية والسياسية في سوريا من أجل فهم أفضل للاستراتيجية والعمليات والتكتيكات والقدرات ونقاط الضعف الروسية. لقد ساعدت قرارات السياسة الخارجية الأمريكية المربكة والسيئة على تحسين موقف روسيا في سوريا والعراق. سيخلق هذا الفراغ المزيد من القدرة على المناورة لموسكو في المنطقة - بشكل أساسي، وسيعزز مكانتها كقوة إقليمي.  لكن بالرغم من تقاطع المصالح الاستراتيجية لكل من الولايات المتحدة وروسيا في بعض المجالات، واختلافها في مجالات أخرى، يبقى القاسم المشترك بينهما أنَّ القوتين حريصتان جدًّا على أن يكون لهما نفوذ قوي في هذه الدولة، ذات الموقع المميّز والاستراتيجي، بهدف تعزيز مركزيهما الإقليميين، وتحويل موازين القوى لصالح كل منهما.

العراق: ساحة منافسة ونفوذ

يبدو التعامل الأمريكي-الروسي في العراق، تنافسيّا، حيث يسعى كل طرف لتثبيت نفوذه وعلاقاته وقدراته على التأقلم مع المتغيرات السياسية والاقتصادية، دون الوصول الى مستوى الصدام عبر الوكلاء كما هو الحال في سوريا.

_بالنسبة لروسيا تمثل العراق: خزانا نفطيّا وساحة للتمدد والتوسع واكتساب أسواق جديدة في مجال الطاقة. وعليها العمل على تمتين العلاقات مع كل الفرقاء العراقيين باختلاف توجهاتهم لاكتسابه والاستفادة منه، ولكن، لا يمكن ان يتحقق ذلك الا في مساحات، حيث لا يكون للولايات المتحدة وجود او نفوذ كبير فيها.

_بالنسبة للولايات المتحدة تمثل العراق: سياقا استراتيجيا مكمّلا لسياسة الهيمنة والسيطرة والنفوذ، تبدأ من السيطرة على خيارات البلد سياسيا واقتصاديا، وتنتهي بالاستيلاء على كل منافذ الشرق الأوسط الحيوية شرقا وغربا.

عملت روسيا على استغلال فرصة قرار الانسحاب او تخفيض القوات الامريكية في سوريا والعراق لتمكين قوتها ونفوذها بعقد صفقات واتفاقات مع الحكومة العراقية. حيث يبدو أن الروس يحاولون هزيمة الولايات المتحدة في لعبة نفط الشرق الأوسط.

صراع نفوذ بين الولايات المتحدة وروسيا في العراق:

_ظهر التنافس الأمريكي-الروسي في العراق على مراحل مختلفة، بداية بالغزو الأمريكي للعراق وانفراد الولايات المتحدة بمرحلة ما بعد سقوط نظام صدام حسين، بإعادة خلط الأوراق السياسية في البلد والسيطرة على ثرواته بتبني سياسات لنهب النفط العراقي. في مقابلة مع "أي بي سي نيوز، في 25 يناير/ كانون الثاني 2017"، كرر الرئيس الأمريكي ترامب موقفه بأن الولايات المتحدة كان عليها ان تأخذ النفط من العراق من خلال احتلال البلاد في اعقاب الغزو الذي قادته الولايات المتحدة الامريكية في 2003.

ارتباطا بالصراع على الأرض السورية واستكمالا للنزاع حول السيطرة والهيمنة، ظهر سباق محموم بين موسكو وواشنطن، هدفه امتلاك سلطة القرار والتقدير حول مصير النفط في المنطقة، تحديدا:

_خزان النفط السوري-العراقي، ابتداء من شرق الفرات (دير الزور) وصولا الى العراق (القائم) والذي يخفي في ثناياه صراعا مكبوتا بين واشنطن وموسكو لامتلاك الأوراق الرابحة في سباق التفاوض على مستقبل الحل السياسي في سوريا أولا وامتلاك نفوذ أكبر يبدأ من سوريا والعراق ويمتد الى شرق اسيا. اندلع سباق جيوسياسي عسكري جديد بين الولايات المتحدة ووكلائها على الأرض (قوات سورية الديمقراطية) من جهة، وبين روسيا الاتحادية والحكومة السورية وحلفائهما من جهة أخرى، للسيطرة على أنبوب النفط العراقي-السوري الذي يقطع الحدود بين البلدين. وربما هذا ما يفسر ما قامت به الحكومة العراقية في عهدة السيد العبادي سابقا من تنسيق مع الحكومة السورية وتزامن حينها مع الهجوم العسكري على البو كمال والقائم لتأمين إعادة ضخ النفط العراقي وتصديره عبر الموانئ السورية،

_تحاول الولايات المتحدة الامريكية استخدام ميليشيات قسد شرقي الفرات، والسيطرة على منابع النفط كورقة ضغط ميدانية للتفاوض مع النظام السوري وروسيا حول خريطة التسويات السياسية والعسكرية، كما تسعى لمنع التواصل الجغرافي من طهران الى بيروت، عبر بغداد ودمشق.

محاولات الحضور الروسي في العراق بالرغم من العرقلة الامريكية : حيث نشرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية  بتاريخ 15 تشرين الثاني/نوفمبر 2019، تقريرا للصحفيين "فيرا ميرونوفا" ومحمد حسين، تحدث عن زيادة النفوذ الروسي في العراق رغم الاحتجاجات المستمرة التي تثير قلق المستثمرين.وكتب الصحفيان في المجلة تحت عنوان "مستقبل نفط العراق روسي"، مشيرين إلى أن احتجاجات العراق أدت إلى رحيل العديد من الدبلوماسيين الأجانب لدواع أمنية، إلا أن حضور روسيا تضاعف.ونوهت المجلة في التقرير بزيارة سيرغي لافروف، وأشارت إلى أن الزيارة لم تكن دبلوماسية اعتيادية ترتب عليها توقيع اتفاقيات رسمية، أو مناقشة أمور سياسية تتعلق بسوريا أو الإرهاب، حيث كان الحضور الدبلوماسي قليلا في الزيارة لصالح غالبية من رجال الأعمال والشركات.وأوضحت غالبية المشاركين في الوفد من رجال الأعمال، بما في ذلك ممثلين عن شركات النفط والغاز الروسية مثل Gazprom Neft و Rosneft و Soyuzneftegaz و Lukoil. كما حضر ممثلو شركة Technopromexport، وهي شركة روسية تقوم ببناء منشآت للطاقة، ومن الخدمة الفيدرالية الروسية للتعاون التقني العسكري، حيث تم مناقشة العلاقات التجارية الثنائية فقط في الاجتماعات. أكّد الصحفيان أن الشركات الروسية متمثلة بشكل جيد بين شركات النفط في العراق، وبما أن عقود النفط والغاز طويلة المدى فإن حصة السوق الروسية ستزداد مع مرور الوقت، وتشمل الصفقات الأخرى التي تعود إلى 2011 استثمارات بقيمة 2.5 مليار دولار من قبل شركة غازبروم وشركائها في وسط العراق وإقليم كردستان وحده. فضلا عن ذلك، أنتجت شركة غازبروم 3 ملايين برميل من حقول سرقلة في غارميان، وأطلقت العديد من مشاريع التنقيب في حقول حلبجة وشقال. وفي سبتمبر/أيلول 2019 فازت شركة سترويتراسغاز الروسية بعقد مدته 34 عاما للتنقيب عن النفط والغاز في محافظة الأنبار العراقية. ووفقا لمصدر في مكتب رئيس الوزراء العراقي، شكر لافروف العراق بشكل خاص على هذا الاتفاق خلال زيارته. وأشار الصحفيان في فروين بوليسي، إلى أن روسيا ليست مهتمة فقط بحقول النفط، علما بأن روسنفت تمتلك 60% من خط أنابيب نفط كردستان، وهو خط التصدير التشغيلي الرئيسي في العراق. وفي ربيع 2018 أعلنت روسنفت أيضا عن توقيع اتفاقية مع وزارة الموارد الطبيعية في حكومة إقليم كردستان من أجل تطوير بنيتها التحتية للنفط والغاز، بما في ذلك إنشاء خط أنابيب جديد للغاز من المتوقع أن تصل طاقته التصديرية إلى 30 مليار متر مكعب من الغاز سنويا، والذي يمثل حوالي 6% من إجمالي الطلب على الغاز في أوروبا. يبدو بحسب المعطيات أنّ روسيا وبتوقيع هذه الصفقة أصبح لها نفوذ سياسي في العراق.

لبنان: ساحة للمنافسة الاستراتيجية

تستخدم الولايات المتحدة الأمريكية سياسة الاحتواء الاقتصادي والتي تقوم على مبدأ بسيط جدا، الا وهو استخدام المؤسسات المالية الدولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في اطار تقديم مساعدات اقتصادية وقروض اعمار لدول العالم الثالث مقابل ان تقوم الشركات الامريكية بتنفيذ مشروعات كبرى في الدولة المستدينة مثل محطات طاقة ومطارات وشبكات طرق وشبكات اتصالات، وفي الوقت الذي تستدين فيه هذه الدول من البنك الدولي تكون فوائد القروض اكبر من قدرة هذه الدول على السداد ومن ثم تتراكم فوائد القروض وتعجز هذه الدول عن السداد. هنا تتدخل الولايات المتحدة بعنوان "تقديم المساعدة" لهذه الدول، مقابل انشاء قواعد عسكرية أمريكية على أراضي تلك الدولة او تمرير قرارات معينة في مجلس الامن او فرض شروط معينة خدمة لسياسات وتوجهات استراتيجية، أو القيام بتعديلات اقتصادية داخلي معينة مثل فرض شروط تتعلق بخصخصة القطاع العام، الضريبة العقارية، الكويز... الخ. مما يساهم في تعقيد الوضع أكثر. بهذا يكون البنك الدولي فاز بفوائد القرض وفازت الشركات بأموال عقود الاعمار وفازت الولايات المتحدة بالسيطرة السياسية على الدولة المستدينة ولا يوجد خاسر في هذه اللعبة سوى المستدين. تكرر هذا الامر في دول كثيرة جدا مما يطرح سؤالا مهما، لماذا تستدين هذه الدول أصلا؟ وهل لبنان اليوم قادر فعليا على الخروج من أزمته بعيدا عن الضغوط الامريكية (قانون سيزر وشروط صندوق النقد الدولي)؟ وأي مستقبل للعلاقات بين كل من لبنان وروسيا في ظل ما تعيشه المنطقة من متغيرات؟

_هدف الولايات المتحدة في لبنان هو محاصرة المقاومة وحماية الكيان المؤقت والنفوذ الى قطاع النفط اللبناني. وعليه، تقوم الولايات المتحدة بتفعيل سياسة الضغط الأقصى من خلال المؤسسات المالية الدولية (صندوق النقد الدولي) لاستهداف الشعب اللبناني وخاصة المقاومة وبيئتها الحاضنة:

_للنفوذ الى قطاع النفط اللبناني من خلال فرض شروط تتعلق بترسيم الحدود البحرية والتنقيب عن النفط والغاز وهنا تبرز المنافسة بين الولايات المتحدة من جهة وبين الأوروبيين والروس من جهة اخرى، فكل حسب أهدافه التوسعية ومصالحه الاقتصادية يسعى لاكتساب دور أساسي في أي مشروع مستقبلي يتعلق بملف الطاقة في لبنان.

_لمحاصرة المقاومة وبيئتها الحاضنة ولحماية إسرائيل، تتدخل الولايات المتحدة في الشأن الداخلي اللبناني عن طريق وكلاء محليين جاهزين للقيام بأي خطوة تهدف لإرباك مؤسسات الدولة واشغالها بملفات هامشية بعيدة عن واقع الازمة الحالية.

_هناك تخوف امريكي من تدخل روسيا والصين لملأ الفراغ الذي سيتركه الانسحاب الأمريكي من المنطقة ومن لبنان. قد تستغلّ روسيا موانئ لبنان الثلاثة ومخزونات الهيدروكربون البحرية، فتفوز بذلك بكل منطقة شرق وجنوب المتوسط، على حساب الوجود الأمريكي.

_دخول الروس الى لبنان من بوابة الطاقة: حماسة روسية للعب دور في لبنان، من خلال ربط علاقات وثيقة مع مختلف الجهات الرسمية وغير الرسمية في الداخل اللبناني، وتفعيل اجراءات وتدابير تخدم مصالحها الاقتصادية، استكمالا لمشروعها في منطقة الشرق الأوسط.

دول الخليج الفارسي: ساحة تنافس ونفوذ

_السعودية

حالة التقارب الراهنة في العلاقات الروسية-السعودية لا تزال بعيدة عن مستوى الشراكة الاستراتيجية بسبب:

1)التخوف من إمكانية التصادم مع الشراكة الاستراتيجية الامريكية-السعودية والتي تحول دون إعطاء روسيا فرصة الاستفادة من فرص الشراكة المفتوحة.

2)الخلاف حول العديد من القضايا الاستراتيجية/السياسية، مثل الازمة السورية، تقييم السياسة الإيرانية في الشرق الأوسط، طبيعة السياسات الامريكية في منطقة الشرق الأوسط.

بعيدا عن النفوذ الأمريكي تعمل كل من السعودية وروسيا على:

أ)زيادة التعاون النفطي/ الاقتصادي بينهما

ب)تجاوز القيود الدولية والإقليمية وعلى راسها التدخل الأمريكي وفتح المجال لمزيد من التعاون والعمل المشترك.

ج)طورت السعودية وروسيا العديد من صفقات الأسلحة والاقتصاد، على الرغم من الحذر - على ما يبدو لتجنب غضب واشنطن أثناء بناء العلاقات بهدوء. شملت جولة بوتين الإقليمية في أكتوبر 2019 توقفات في الإمارات العربية المتحدة والرياض، حيث وقع 30 صفقة اقتصادية. بلغت قيمة تلك الاتفاقات 2 مليار دولار، مقابل مبلغ ضئيل مقارنة بـ "الرؤية الاستراتيجية" الأمريكية - السعودية التي تبلغ مدتها 10 سنوات و350 مليار دولار (وهي في الأساس حزمة أسلحة) تمت الموافقة عليها في عام 2017..

تطرح تساؤلات حول أولويات السياسة الخارجية السعودية في المرحلة المقبلة  وما إذا كانت الرياض تتجه الى الاستمرار في ابرام شراكات اقتصادية مع موسكو بعيدة المدى جغرافيّا ربما الى شرق اسيا. من المرجح أن تستمر العلاقة في إطار من التعاون النفطي-الاقتصادي، وربما تقليص الخلافات السياسية بين الطرفين ولاسيما مع تراجع مكانة السعودية إقليميا، وتغير اهتمامات سياستها الخارجية وتقلص قدراتها المادية وتزايد احتمالات انكفائها على شأنها الداخلي، وتعديل خطابها الخارجي بما يتناسب مع التغييرات الدولية والإقليمية المتسارعة.

_إيران

بالنسبة لروسيا: العلاقات بين روسيا وإيران لم تعد شأنا ثنائيا يخص الجانبين فحسب، بل جعلتها أبعادها وآثارها الجيوستراتيجية -في ظل المتغيرات الراهنة على الساحتين الإقليمية والدولية- محلَّ اهتمام كبير لدى المراقبين دولاً وخبراء. وعليه؛ فإن ثمة تساؤلات تدغدغ أذهان المتابعين عن طبيعة هذه العلاقات ومالاتها المستقبلية. لا يقتصر التعاون الإقليمي بين البلدين على الشرق الأوسط؛ بل ينسحب إلى مناطق ربما أكثر أهمية للجانبين في آسيا الوسطى والقوقاز وبحر قزوين. هذه المناطق تؤثر بشكل مباشر على الأمن القومي لروسيا التي تريد إنشاء حزام آمن مسالم في جوارها الجغرافي، وذلك يستدعي تعاونا وثيقا من إيران بحكم حدودها المشتركة مع المناطق الثلاث المحيطة بروسيا.

هناك جملة من العوامل التي من شأنها تعزيز الروابط الإيرانية-الروسية في ظل مواجهة سياسة أقصى الضغط الامريكية:

1)العامل الاقتصادي: أهمية هذا العامل ليست نابعة من حجم التبادل التجاري الثنائي، وإنما يكمن في مجالات استراتيجية لها صلة وثيقة بالاقتصاد، منها:

2)مجال النقل: إذ تستهدف الدولتان (وأذربيجان) استكمال مشروع نقل دولي عملاق يُعرف بـ"ممر الشمال/الجنوب"، ويتكون من خطوط بحرية وبرية وسكك حديدية، ويربط المحيط الهندي ومنطقة الخليج مع بحر قزوين مروراً بإيران، ثم يتوجه إلى سان بطرسبرغ الروسية ومنها إلى شمال أوروبا، وسينقل سنويا 10 ملايين طن. ويعتبر هذا المشروع أحد أرخص الطرق الرابطة بين قارة آسيا وأوروبا وبذلك ينافس قناة السويس، حيث إن تكاليف النقل عبره تتقلص بمقدار 2500 دولار مقابل كل 15 طنًا، هذا فضلا عن أن ذلك يستغرق 14 يومًا فقط، في مقابل 40 يومًا عبر طريق قناة السويس. تولي إيران أهمية استراتيجية كبيرة لهذا المشروع؛ فإضافة إلى مردوداته الاقتصادية، سيمكّنها من التحكم في حلقة وصل حيوية بين آسيا وأوروبا. أما روسيا فسيمنحها الممر إيرادات اقتصادية هائلة، وسيتيح لها مدخلًا استراتيجيا إلى مياه المحيط الهندي.

3)مجال الطاقة: تمتلك إيران وروسيا احتياطات هائلة من الغاز والنفط، وهما من كبار مصدري هاتين الطاقتين، وتسعيان لتعزيز التعاون فيهما وفي الطاقة النووية. دفعت تدخلات أميركا -مع قوى أخرى غربية وشرق أوسطية- في أسواق الطاقة العالمية خلال السنوات الماضية؛ كلا من طهران وموسكو إلى تعاون أوثق لتنظيم الأسعار بما يحفظ مصالحهما. ومع ذلك؛ ثمة تنافس يوجد بين الدولتين في أسواق الطاقة، لكن فرص التعاون حاليا تبدو أكبر.

4)العامل الإقليمي والدولي: التعاون الإقليمي بين إيران وروسيا لا يقتصر على منطقة الشرق الأوسط، كما يظن البعض خاطئا؛ بل ينسحب إلى مناطق ربما أكثر أهمية للجانبين في آسيا الوسطى والقوقاز وبحر قزوين. هذه المناطق تؤثر بشكل مباشر على الأمن القومي لروسيا التي تريد إنشاء حزام آمن مسالم في جوارها الجغرافي، وذلك يستدعي تعاونا وثيقا من إيران بحكم حدودها المشتركة مع المناطق الثلاث المحيطة بروسيا. إن طبيعة الأنظمة الحاكمة غير الديمقراطية، والأزمات البينية مثل أزمة قرباغ والتطرف والإرهاب؛ تجعل تلك المناطق غير مستقرة وتحمل في ذاتها تهديدات مستقبلية لروسيا، وكذلك لإيران بدرجة أقل.

5)مواجهة النفوذ الأمريكي: تقف كل من إيران وروسيا أمام تحدي النفوذ والوجود العسكري الغربي والأميركي، والذي يستهدف -بالدرجة الأولى- اختراق طوق روسيا وإخضاع إيران وتطويقها. واليوم؛ يبحث حلف الناتو -إلى جانب مساعيه لمحاصرة روسيا شرقا- عن موطئ قدم له في الجمهوريات المستقلة عن الاتحاد السوفياتي سابقا (مثل كزاخستان وأذربيجان)، وبذلك يعزز الحلف أيضا اقترابه من إيران وبحر قزوين. أما منطقة غرب اسيا -التي تشكل نقطة انطلاقة لروسيا نحو العودة إلى موقعها العالمي- فتمثل ساحة مهمة للغاية للتعاون بين الجانبين. وقد تجسد ذلك في ولوجهما القتالَ إلى جانب الحليف السوري المشترك خلال الأعوام الماضية، وكان ذلك عمل ميداني مشترك للبلدين للدفاع عن مصالحهما المشتركة، مما عزز فرص تعاونهما وعمّقها.

أ)ترى إيران في روسيا الموازن الدولي للموقف الأميركي، وكذلك روسيا تجد في طهران قوة إقليمية صاحبة نفوذ واسع يمكن الاعتماد عليها في مواجهة واشنطن، في ظل تنامي فرص نشوء حرب باردة جديدة.

ب)إيران وروسيا معنيتان -إلى جانب قوى أخرى كالصين- بإنهاء النظام العالمي الأحادي القطب والتأسيس لنظام متعدد الأقطاب. والضغوط التي تمارسها واشنطن على طهران ليست بعيدة عن سياق مواجهة الأولى مع روسيا. كما أن تنامي علاقات موسكو وإيران يأتي في إطار هذه المناكفة، إذ إن روسيا أرادت باستخدامها الفيتو في مجلس الأمن -خلال اجتماعه الأخير بشأن اليمن- ضد القرار البريطاني لتضمنه عبارة تدين إيران؛ أن تقول للغرب إن الوضع الدولي تغيّر، وإنها لن تسمح بتمرير أي قرار دون توافق وثمن مسبقيْن؛ وهذا ما يتكرر في كثير من الحالات التي تطرح فيها قرارات في مجلس الامن تستهدف إيران.

اٍنّ العلاقات الإيرانية الروسية لها طابع استراتيجي متميز، لكنها لم ترتق بعد إلى درجة التحالف الاستراتيجي، وما يجمع الطرفين في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والقوقاز أكثر مما يفرقهما. والجامع الرئيسي لهذه العلاقات هو المصالح المؤقتة والتحديات المشتركة، وعلى رأسها التحدي الأميركي تحديدا.

تركيا: بين المواجهة والتنافس

شهدت العلاقات التركية-الروسية توترات كثيرة خلال السنوات الاخيرة على أكثر من صعيد، كان للولايات المتحدة دور فعال في اذكاءها، خاصة مع تورط الطرفين في الصراع على الارض السورية، لكن لم يبدو لدى روسيا الرغبة في مواجهة عسكرية مع تركيا، على الرغم من استمرار الكرملين في دعمه لحملة النظام السوري لاستعادة السيطرة على كامل الاراضي السورية وطرد المسلحين منها، بما فيهم القوات العسكرية التركية المرابطة على طول الحدود الشمالية لسوريا وعلى مشارف محافظة ادلب والمناطق الكردية.

_ قامت روسيا ببناء خط أنابيب الغازTurkStream عبر البحر الأسود، وتقوم ببناء أول محطة للطاقة النووية في تركيا، كما قامت بتزويد نظام الدفاع الجوي S-400 في خطوة أربكت حلف الناتو، والتي تعتبر تركيا عضوًا رئيسيًا فيها.

_قال كريم هاس الخبير في العلاقات التركية الروسية ، إن "استراتيجية روسيا طويلة المدى" لسوريا لم تتغير ، لكنها حريصة على عدم استعداء تركيا ، خاصة بالنظر إلى قرب العلاقات الاقتصادية والطاقة وكذلك التعاون بشأن S-400s..

_أمّا في ليبيا فقد أثبتت تركيا نفسها كجهة عسكرية فاعلة، ورئيسية، بعد أن ساعدت "حكومة الوفاق الوطني" على إلحاق الهزيمة بالقوات المشتركة لـ "الجيش الوطني الليبي" ومئات المتعاقدين العسكريين من شركة "فاغنر" الروسية، والطائرات بدون طيار وأنظمة الدفاع الجوي الإماراتية. ويبقى حجم الاستثمارات العسكرية الإضافية التي ستقوم بها أنقرة في طرابلس رهناً بالمراحل التالية من الحرب. وهناك خطر من الانجرار إلى صراع مكلف إذا اختارت روسيا الدفاع عن مراكزها.

_من المرجح أن يتطلع  أردوغان والرئيس فلاديمير بوتين إلى تكرار تاريخهما الحافل "بالتكيّف التكتيكي"، كما تبيّن في كل من سوريا وليبيا، وآخرها انسحاب قوات "فاغنر" من طرابلس دون عوائق. أما فيما يتعلق باحتمالات التوصل إلى ترتيب تركي-روسي أكثر استراتيجية مماثل لـ "عملية أستانا" السورية، فإن أي جهد من هذا القبيل سيواجه مقاومة من كل من الليبيين (بالنظر إلى دوافعهم المناهضة للاستعمار) والقوى الغربية (التي لها مصالحها الخاصة في الحد من النفوذ التركي والروسي في شمال أفريقيا).

_ستعمل الولايات المتحدة على التدخل لعرقلة هذا التكيف التكتيكي الروسي-التركي من خلال المساعي الدبلوماسية الحثيثة للتخفيف من حدة التصعيد في ليبيا وتعزيز واشنطن لانخراطها بأربعة سبل رئيسية:

1)تشجيع تنوّع الأصوات السياسية في شرق ليبيا وعدم الاكتفاء بالمشاهدة.

2)فضح انتهاكات قرار حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة.

3)التواصل مع تركيا وروسيا للمساعدة على إدارة انسحاب قواتهما من ليبيا.

4)منع إبرام اتفاق روسي-تركي.

_تستفيد موسكو وأنقرة من سعيهما بشكل مشترك إلى إضفاء الطابع الرسمي على مراكزهما في ليبيا. وقد تكسب تركيا دعم روسيا ضد المعارضة الأوروبية لوجودها في طرابلس وترتيبها البحري المثير للجدل مع ليبيا. وقد تعزز روسيا مكانتها في النصف الشرقي من البلاد، وتعزز مصالحها الاقتصادية المحلية، وتوسع قاعدتها العسكرية في المنطقة. ومع ذلك، لن يحصل مثل هذا التفاهم بشكل طبيعي، لذا قد يكون أمام الولايات المتحدة فرصة لمنعه.

_يرى مراقبون، أنه يتعين على المسؤولين الأمريكيين البدء في التحدث مع روسيا وتركيا لتحديد شروط مقبولة للطرفين لإنهاء الحرب، وسحب أصولهما العسكرية المتقدمة، وحث شركائهما في ليبيا على العودة إلى الحوار الوطني برعاية الأمم المتحدة. كما أنه يجب إشراك ألمانيا في هذه المحادثات باعتبارها أحد الأصوات المتحدثة باسم المصالح الأوروبية. وفي غياب مثل هذا الانخراط الأمريكي المباشر، سيترسخ الوجود الروسي والتركي بشكل كبير بطريقة تتعارض مع المصالح الأمريكية وتضع ليبيا على طريق التقسيم والصراع المستمر.

ثانيًا: الصراع الروسي-الأمريكي في شمال افريقيا والبحر المتوسط

الصراع على النفوذ في البحر المتوسط:

تحتاج روسيا إلى أن تكون لاعبًا في البحر المتوسط، لكي تكون قوة عظمى أوروبية، وهي تتحول تدريجياً ولكن بثبات إلى لاعب حقيقي. أعلنت روسيا مؤخرًا أنها ستنفق 500 مليون دولار لإصلاح وتحديث ميناء طرطوس التجاري في سوريا. في عام 2017، جددت موسكو تأجيرها للميناء، ووقعت اتفاقية مع دمشق في إظهار واضح لدعم الرئيس السوري بشار الأسد. أصبحت طرطوس الآن الميناء الوحيد الذي تمتلكه روسيا خارج نطاق شواطئها. بالنظر إلى الضعف الاقتصادي في روسيا - والحدود البرية الطويلة - لماذا تركز موسكو بشدة على سوريا وبشكل خاص على وجود بصمة بحرية هناك؟

هناك ثلاث إجابات ذات صلة بهذه الأسئلة:

أولاً: تحتاج روسيا إلى منافذ للتحرر من وضعها غير الساحلي. فالدفع للوصول إلى "موانئ الماء الدافئ" هو أمر ثابت في السياسة الخارجية الروسية.

ثانياً: استثمار موسكو في طرطوس لا يعني في الواقع أن روسيا سيكون لديها أسطول كبير في البحر الأبيض المتوسط. ولكن ما يهم هو السيطرة على الساحل وخاصة المضائق. كما أنّ ما يعزز تحصين الوجود العسكري الروسي على الشواطئ السورية أن جزءًا كبيرًا من شرق البحر الأبيض المتوسط ​​سيكون تحت المراقبة الروسية، إن لم يكن تحت السيطرة.

ثالثاً: تهتم روسيا بالبحر الأبيض المتوسط ​​كجائزة استراتيجية تسمح لموسكو بأن تكون لاعباً أكثر تأثيراً في أوروبا. فمن يسيطر على البحر الأبيض المتوسط ​​له نفوذ هائل على أوروبا:

1)يضيف الوجود الروسي في البحر المتوسط ​​، مهما كان محدودًا، عامل منافسة اضافية، مما يزيد من تعقيد الحسابات الجيواستراتيجية لأوروبا الضعيفة والمثيرة للجدل بالفعل، كما أنه يزعج الولايات المتحدة الامريكية ويعطل مصالحها.

2)اٍنّ الوجود البحري الروسي في طرطوس وسيلة لموسكو لممارسة نفوذها على أوروبا. وبالتالي، هناك أساس استراتيجي جاد لتدخل روسيا في سوريا، وبشكل أكثر تحديدًا، للإعلان الأخير عن استثمار مالي كبير في ميناء طرطوس. إنها ليست مجرد نزوة من بوتين، فموسكو لديها أهداف أكبر، ليست جديدة، لكنها متجذرة في فهم واضح لطبيعة وقيمة البحر الأبيض المتوسط.

التنافس في شمال افريقيا:

_التنافس الهادئ في مصر -تونس -المغرب:

1)تمتعت موسكو والقاهرة بعلاقة سياسية عسكرية وثيقة: خلال سنوات حكم عبد الناصر حتى طرد الرئيس أنور السادات المستشارين العسكريين السوفييت في عام 1972 كجزء من سعيه إلى علاقات أفضل مع الولايات المتحدة.

2)تطورت العلاقات العسكرية بين مصر وروسيا منذ عام 2014، من خلال التدريبات المشتركة واتفاقيات وصفقة للأسلحة مع القاهرة لتعزيز العلاقات السياسية العسكرية بشكل أكبر، بما في ذلك صفقة بقيمة 2 مليار دولار لشراء مقاتلات روسية من طراز SU-35وقد أثار التوسع المحتمل للوجود الروسي في مصر معارضة من البنتاغون. حيث جلبت صفقة الأسلحة المقترحة تهديدًا بالعقوبات الأمريكية بموجب قانون مكافحة خصوم أمريكا من خلال العقوبات المصممة لمنع الصفقات مع المؤسسة العسكرية والدفاعية الروسية.

3)حافظت روسيا على تعاون نشط مع القاهرة لتعزيز تدخلها على خط الازمة الليبية، وتعزيز صورتها كلاعب عالمي والنهوض بمصالحها الاقتصادية، وخاصة تأثيرها في أسواق الطاقة الدولية.

4)تقرّبت تونس والمغرب، الحليفتان التقليديتان للولايات المتحدة، من موسكو في السنوات الأخيرة. ففي تونس، يتجلّى حضور موسكو بشكلٍ خاص في قطاع السياحة، أما في المغرب الذي يُعتبر أهم حليف إقليمي للولايات المتحدة بعد مصر، فقد بدأت موسكو مؤخرا في دعم برنامج الطاقة النووية. ارتبطت سياسة الرباط بخيبة الأمل من إدارتيْ أوباما وترامب بسبب تعاطفهما مع "جبهة البوليساريو" وافتقارهما إلى الحماس إزاء الموقف المغربي بشأن النزاع على الصحراء الغربية. إن المفارقة هي كوْن "جبهة البوليساريو" وكيلة للسوفييت في الحرب الباردة، ولكنّ ذلك لم يشكّل عائقاً يصعب على موسكو تخطيه للوصول إلى الرباط.

_التنافس الاستراتيجي في الجزائر بين الروس والاوروبيين في ظلّ متابعة امريكية:

1)اٍنّ الجزائر هي الحليف الإقليمي القديم –الجديد لموسكو: هناك تعاون في القطاع العسكري وصفقات الأسلحة وتحديث وتدريب العسكريين. واتّسع نطاق التعاون العسكري في عام 2016 ليشمل تبادل المعلومات الاستخباراتية حول الجماعات الإرهابية في شمال أفريقيا.

2)كما انّ للجزائر علاقات متميزة مع الولايات المتحدة الامريكية على المستوى الدبلوماسي والعسكري: فقد نظم البلدان عدة مناورات عسكرية مشتركة فيما يسمى  بعملية المنع في البحر، والمراقبة البحرية والتدخل السريع في نيسان/ابريل 2019، شاركت فيها الولايات المتحدة الامريكية بالمدمرة الأمريكية "Donald Cook DDG 75"، ووحدة عائمة من القوات البحرية الجزائرية.

3)تعد الجزائر ثالث مستورد للسلاح الروسي في العالم، بينما تعتبر روسيا مصدر الأسلحة التاريخي للجزائر، إذ تقتني 60% من أسلحتها من موسكو، وتمتلك 6 غواصات روسية الصنع، بالإضافة إلى اقتنائها نظام الدفاع الجوي الصاروخي "س 400".

4)نظمت الجزائر مناورات عسكرية بحرية بمشاركة روسيا الاتحادية والصين في تشرين الثاني نوفمبر 2019، وطرحت أسئلة حول مكان (البحر المتوسط) وتوقيت ( عشية تنظيم الانتخابات الرئاسية بعد انتهاء حكم الرئيس بوتفليقة في الجزائر والازمة السياسية) اجراء هذه المناورات وتداعيات ذلك على علاقة الجزائر بفرنسا وحلف الناتو؟ والموقف الامريكي من هذه المناورات؟

5)اجريت المناورات في أقرب نقطة احتكاك بين الجزائر وفرنسا خاصة واوروبا عامة في البحر والجو لتخرج من اليابسة الجزائرية وتتوغل باتجاه اوروبا ويقترب منها. ولا شك أنّ مشاركة الجزائر مع قوى عسكرية روسية وصينية قريبة من المياه الفرنسية يحمل دلالات على أنّ هناك تمرّدا حاسما على اللعبة في المنطقة، وقرار بالعودة الى قواعد الاشتباك التقليدية التي وضعت في سبعينات القرن الماضي في عهد الرئيس الجزائري هواري بومدين، وفق ثنائية الناتو-وارسو.

6)عاشت فرنسا لعقود تعتبر نفسها شرطي البحر الابيض المتوسط وشمال افريقيا، لذلك اعتبرت المناورات تفكيكا لقواعد العلاقة القديمة بينها وبين الجزائر، وخروجا عنها من قبل الجزائريين وهذا ما يزعجها. اٍنّ مشاركة الجزائر في هذه المناورات، يعني عند الاوروبيين استدعاء عدوّ خطير (البواخر الصينية-الروسية) الى مياههم الجنوبية ليهدد أمنهم.

7)يبدو أنّ التصريحات التي ادلى بها الرئيس الفرنسي ماكرون كردّ على سياسات الادارة الامريكية تجاه اوروبا، والتي اشار فيها الى أنّ الاوروبيين لم يعودوا بحاجة الى حلف الناتو، وانهم سيؤسسون حلفهم الاوروبي الخاص، اضافة الى قرار انسحاب بريطانيا من الاتحاد الاوروبي،كان كفيلا بعزل اوروبا امنيا وعسكريا، مهّد لروسيا والصين للتفكير في ملئ فراغ الناتو في بحر المتوسط، تحت انظار الولايات المتحدة الامريكية التي يبدو أنها سعيدة بانهيار الهيمنة الاوروبية على الجزائر وشمال افريقيا عموما. بهذا الاستقطاب الخطير في نظر الاوروبيين، استطاعت الجزائر تدويل صراعها مع فرنسا، في الوقت الذي كانت ترغب فيه فرنسا في تدويل الازمة السياسية الداخلية في الجزائر، ليكون الاشكال بين المؤسسة العسكرية والشعب الجزائري. كما ارتكبت فرنسا خطأ فادحا  بمحاولتها استخدام البرلمان الاوروبي للضغط على الجزائر، لكن الجزائر ردت على فرنسا والاوروبيين كافة بجلبها الاعداء التقليديين لحلف الناتو الى مياه المتوسط لإيصال رسالة مفادها أن فرنسا ورطتهم في مواجهة هم في غنى عنها. كان هدف الجزائر واضحا من هذه المناورات، تحييد الدول الاوروبية عن الصراع الجزائري الفرنسي، وربما سيتطور الى منحى اقتصادي بمقاطعة البضائع الاوروبية وتعويضها بمنتوجات من دول اخرى كالصين واليابان وغيرها من الدول.

_صراع تنافس ونفوذ على ليبيا:

1)لا تزال ليبيا المرشّح الأساسي لخطوة موسكو الاستراتيجية التالية في شمال أفريقيا. وتشمل البلاد بحدّ ذاتها أولويات متعددة للسياسة الخارجية لموسكو، فهي سبيل الوصول إلى أسواق النفط والأسلحة، وتعزيز الحضور في البحر المتوسط، والضغط الإضافي على أوروبا من خلال التحكم بتدفق اللاجئين. ويولّد غياب الولايات المتحدة فراغاً يسمح لموسكو بترسيخ نفوذها من دون منازع.

2)أشار أوليغ أوزيروف، نائب مدير شؤون أفريقيا في وزارة الخارجية الروسية وسفير روسيا لدى المملكة العربية السعودية، إلى أن بلدان أفريقية طلبت مساعدة روسية بعد ملاحظة "نجاح روسيا في عمليات مكافحة الإرهاب في سوريا". ويُظهر تعليقه التأثيرات البعيدة المدى لعمليات موسكو في سوريا. ويتمثل الخطر السياسي الناتج عن تنامي نفوذ موسكو في الفقدان المستمر للمصداقية الأمريكية، والغربية بشكلٍ أكثر شمولاً، في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي أصبحت يوما بعد يوم مكسباً روسيّاً.

3)كشفت القيادة الأمريكية الإفريقية (أفريكوم) في أواخر شهر مايو2020،نشر روسيا ما لا يقل عن 14 طائرة مقاتلة، بما في ذلك طائرات هجومية Su-24، مقاتلة MiG-29، وطائرة اعتراضية من طراز Su-35، انتقلت من قواعد في روسيا وسوريا إلى الأراضي الليبية. يكشف الفحص الدقيق للانتشار الروسي في قاعدة الجفرة الجوية ليس فقط عن توسع في النشاط الجوي الروسي ولكن أيضًا عن قواتها البرية، وخاصة مع وجود الشركة العسكرية الروسية الخاصة (PMC) Wagner Group، المكون الأساسي لتدخل روسيا في ليبيا.

4)لا تزال الولايات المتحدة غائبة إلى حد كبير في ليبيا. لذلك تحتلّ روسيا موقعاً مثالياً لممارسة النفوذ هناك في ظل غياب أمريكا. وفي هذا السياق، أفاد الجنرال توماس د. والدهاوزر من فيلق مشاة البحرية الأمريكية في شهادته (أمام "لجنة مجلس الشيوخ الأمريكي للخدمات المسلحة") في شباط/فبراير 2020أن موسكو تسعى إلى إبرام عقود اقتصادية وعسكرية والوصول إلى شاطئ البحر المتوسط. ويزيد هذا المسعى الأخير من إمكانية وصول روسيا إلى الحدود الجنوبية لأوروبا - وهو أمر بالغ الأهمية للتأثير في مسألة اللاجئين في مختلف أنحاء أوروبا. ووفقاً للمفوضية الأوروبية، تشكّل ليبيا "نقطة الانطلاق لـ 90% من أولئك الذين يسعون للسفر إلى أوروبا".

ثالثًا: الصراع الأمريكي-الروسي في غرب البلقان وجنوب القوقاز: تنافس طويل الامد

_غرب البلقان:

1)اندلعت منافسة استراتيجية بين الولايات المتحدة وروسيا في السنوات الأخيرة (وتحديدا في البوسنة والهرسك وكوسوفو والجبل الأسود وشمال مقدونيا وصربيا). ومع ذلك، لم ترقى هذه المنافسة  الأمريكية -الروسية الى مستوى المواجهة المفتوحة. لا تزال دول غرب البلقان منقسمة، مما يجعلها عرضة للتجزؤ السياسي والتحديات الداخلية مثل الفساد والتدخل الخارجي. يعاني التدخل الأمريكي -الروسي الحالي في المنطقة من مشكلة عدم تكيّف.  فهي دول تهيمن عليها منظومات وشبكات تقليدية متخلفة مبنية على المحسوبية والمحاصصة لخدمة مصالحها الخاصة.

2)اٍنّ الأهداف الروسية في غرب البلقان، هي عرقلة السياسات الامريكية للتمدد والسيطرة، والعمل على استبعاد الولايات المتحدة الامريكية عن أي مشروع شراكة في هذه المنطقة (أوكرانيا). تشعر روسيا بالقلق من أن التوسع في الناتو والاتحاد الأوروبي لضم دول من غرب البلقان لن يتوقف عند هذا الحد، ويمكن أن يستمر إلى الدول التي تعتبرها روسيا حيوية لأمنها، مثل أوكرانيا ومولدوفا وبيلاروسيا. يتساءل الجانب الروسي أيضًا عما إذا كانت الولايات المتحدة منفتحة على نهج تعاوني يتطلب بعض الاعتراف بالمصالح الروسية، وما إذا كان حل التحديات الجيوسياسية في المنطقة (لا سيما النزاع المجمد بين كوسوفو وصربيا) سيأتي على حساب نفوذ روسيا في المنطقة. من المتوقع أن تصبح المنطقة موقعًا لبناء الثقة بين الولايات المتحدة وروسيا لأن النجاح هناك يمكن أن يؤثر على العلاقات الثنائية على نطاق أوسع، ولكن الفشل لن يكون خسارة كبيرة.

_التنافس الاستراتيجي في اوكرانيا

ارتبطت أوكرانيا بمصالح القوى الكبرى، لما تتمتع به من مقومات جيوسياسية جعلتها وفي حقب زمنية مختلفة منطقة تصارع وتنافس دولي بين الإمبراطوريات القديمة وبين الغرب وروسيا الاتحادية اليوم. فالصراع بين الغرب وروسيا على المناطق والدول العازلة كان له الأثر الكبير في ثبات استراتيجيات الطرفين تجاه بعضهما على الرغم من اختلاف السلوك والسياسات. اقتنعت روسيا منذ بداية الألفية الثالثة أن الرؤية الروسية الاستراتيجية للعالم قد تغيرت من التعامل بمنطق الاتحاد السوفيتي السابق المعتمد أساسا على القدرات العسكرية و الرقعة الجغرافية المترامية الأطراف و التعداد السكاني الكبير إلى التعامل بمنطق الدولة الكبرى التي تعتمد على القوة الاقتصادية و التنافس على الأسواق الكبرى في العالم ، فقد استطاعت روسيا في عهد الرئيس فلاديمير بوتين العودة إلى الساحة الدولية من بوابة الاقتصاد الذي أصبح يمثل أحد أهم الأجزاء في المعادلة الروسية القائم على القوة الاقتصادية و القوة العسكرية. كما تعد أوكرانيا المنطقة العازلة بين الشرق والغرب، حيث تعدها روسيا العمق الاستراتيجي والمجال الحيوي الذي يقربها من الغرب من جهة ويؤمن الجهة الشرقية الأوربية من أي نفوذ غربي من جهة أخرى، فضلا عن وجهة نظر الغرب لأوكرانيا أنها البوابة الشرقية لأوروبا، ولقد حاولت أوربا عدم السماح لدولة قارية مركزية كروسيا أن تسيطر على هذه المنطقة أو أن تتجاوزها. وتعبر الأزمة الأوكرانية على الصراعات التي شهدتها جمهورية أوكرانيا منذ أواخر 2013 والتي أدّت إلى انعكاسات دولية واسعة بسبب التدخلات الخارجية، لاسيما الروسية والغربية في إطار التنافس على مناطق النفوذ. توصلت أوكرانيا إلى اتفاق يقضي بتوقيع اتفاق شراكة اقتصادية مع أوروبا، في قمة فيلينيوس 28 نوفمبر2013، وأعطيت أوكرانيا فرصة للقيام ببعض الإصلاحات الهامة خاصة فيما يتعلق بالفساد القضائي. قررت روسيا ضم أوكرانيا في 20اذار/ مارس مرسوما رئاسيا بضم جزيرة القرم إلى الفيدرالية الروسية. احدث هذا الضم: صدمة قوية في الداخل الأوروبي، فأوروبا لا تزال تستحضر أثار الحرب العالمية الأولى والثانية، وما خلفتاه من أثار عميقة، تلك الآثار التي جعلت الأمن الأوروبي من اولى الاهتمامات لدى الاوروبيين، على مدار العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، - لذلك يأتي اهتمامهم بتقوية حلف الناتو دوريا وبشكل مطرد؛ من باب الحفاظ على قوة الردع التي تؤمّن الأمن الاستراتيجي لأوروبا قاطبة-، لذلك استيقظ الأوروبيون أخيرا مما يسميه واضعوا سياسة الناتو من الغفلة الأمنية، التي ظهرت بوضوح أمام التراخي الأوروبي للدخول الروسي لجورجيا سنة 2008، عندما كانت روسيا على مقربة من تصفية ميخائيل ساكاشفيلي، وخذلت أوروبا الشعب الجورجي الذي كان يطمح للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وإلى حلف الناتو، حينها تعالت أصوات كثيرة تنبه الأوروبيين إلى أن تخاذل القارة العجوز أمام طموحات روسيا بوتين، التي أقدمت على قضم جورجيا أمام كل العالم ستكون له تداعيات خطيرة، وهوما حدث فعليا في 16 من شهر مارس 2014، عندما ضمت روسيا جزيرة القرم في سابقة تاريخية لم يحدث مثلها بعد الحرب العالمية الثانية، وهوا لأمر الذي غير تصورات كثيرة في أوروبا عموما، وبأوروبا الشرقية خصوصا، حيث لم تشهد أوروبا تغيرات في الحدود منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، على الرغم من ظهور بؤر توتر في القارة، لعل أبرزها مشكلة كوسوفو ومولدافيا وجورجيا، وهي المشكلات التي لم يكن يرى الأوروبيون فيها تهديدا حقيقيا لهم، باعتبار أن ما حدث لم يؤدي لقضم أجزاء من دولة وضمها لدولة أخرى بقدر ما كانت تغيرات داخل الدول، لكن الذي حصل في القرم يعد سابقة لم تشهدها أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، الشيء الذي ترك تداعيات كبيرة على الواقع الجيوسياسي والجغرافي بأوروبا. تجنبت واشنطن الإشارة إلى أن هذه الأزمة في قلب أوروبا تنذر بتجدد الحرب الباردة، لكن جون كيري وزير الخارجية الأمريكي في إدارة أوباما لفت إلى أن نهج بوتين ينتمي إلى القرن التاسع عشر، ثم إن هيلاري كلينتون شبّهت ما يحصل بإقدام هتلر على قضم نصف بولندا في بداية الحرب العالمية الثانية عام 1939 قبل أن يقضم ستالين نصفها الآخر فتختفي كدولة طيلة تلك الحرب، في حين أقام العديد من المحللين مقارنة مع التدخل السوفيتي في تشيكوسلوفاكيا عام 1968. الملاحظ أن مختلف الآراء الغربية تستبعد أن تتطوّر الأزمة إلى حرب، وحتى في موسكو نفسها ثمة أصوات مماثلة برغم أن بوتين حرّك جنوداً نحو الغرب ولا تزال دبلوماسيته تجادل في انها تدافع عن حقوق روسيا في القرم ولم يستولي على أرض لدولة أخرى. غير أن واشنطن أبدت منذ الآن تأييدها لكييف في عدم الاعتراف بنتيجة أي استفتاء يُنظّم ضد إرادة الحكومة المركزية ومن دون أي تشاور مسبق ولا إشراف دولي.

_منطقة القوقاز:

هي منطقة تقع على مفترق طرق بين أوروبا والشرق الأوسط وتحدها بحار (البحر الأسود وبحر قزوين).في السنوات الأخيرة ، كساحة مهمة للمنافسة الأوسع بين الولايات المتحدة وروسيا  من جهة ولمحاصرة ايران من جهة اخرى.

1)كثفت روسيا من العسكرة في جنوب القوقاز، وخاصة في أرمينيا، حيث كان نفوذ روسيا العسكري والاقتصادي عميقًا ومتعدد الأوجه بالفعل. لكن وبسبب الثورة الأرمينية المخملية لعام 2018، التي كانت تقلق الكرملين، اقتربت موسكو ظاهريًا من أذربيجان، على الرغم من أن علاقاتها العميقة مع أرمينيا ظلت قوية. في الواقع، وبناءا على طلب الكرملين، في فبراير ويونيو من هذا العام، أرسلت الحكومة الأرمينية فريقًا من خبراء إزالة الألغام لمساعدة ما وصفته موسكو بمهمة "إنسانية" في حلب – السورية.

لا تزال روسيا المورد الرئيسي للأسلحة لأرمينيا وهي أيضا مورد رئيسي لأذربيجان. وبالتالي، فإن اعتماد أرمينيا العسكري والاقتصادي الطويل الأمد على روسيا حال دون تحولها إلى الولايات المتحدة على الرغم من دعم موسكو لأذربيجان. في حين يرى الجزء المتبقي ظاهريًا من مجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا المكلفة بحل النزاع، أّنه ليس لدى موسكو مصلحة في حل حقيقي، ولا توجد نهاية للصراع في الأفق القريب. وفي محاولة لإبعاد أرمينيا عن الهيمنة الروسية، اقترح بولتون إمكانية بيع الأسلحة الأمريكية إلى أرمينيا دون انتهاك قيود الكونجرس الأمريكية الحالية. جاءت الادانة الروسية لهذا المقترح لتؤكد حرص الكرملين على الاحتفاظ بالنفوذ في المنطقة.

تبدو نتائج تركيز واشنطن الأخير على القوقاز غير حاسمة. فبعد زيارة بولتون  كانون الثاني 2019، أخبر رئيس الوزراء الأرمني نيكول باشينيان البرلمان الأرمني ، "أؤكد من جديد الموقف الذي مفاده أنه يجب أن تكون لنا علاقات خاصة مع إيران وجورجيا والتي ستكون بعيدة كل البعد عن التأثيرات الجيوسياسية". كما بدت باكو مترددة في الانضمام إلى جهود الولايات المتحدة لاحتواء إيران. وبينما تعطي الأولوية لعلاقات جيدة مع الولايات المتحدة، فإنها لا تريد توترات مع طهران.

إن إيجاد حل حقيقي لنزاع ناغورنو كاراباخ من شأنه أن يخلق فرصًا حقيقية فيما يتعلق بأولويات واشنطن تجاه كل من موسكو وطهران، ولكن من الناحية العملية، من الصعب التفاؤل بشأن حل على المدى القصير إلى المتوسط ​​على الأقل. إن موقف أرمينيا وأذربيجان يتصلّب بمرور الوقت، وستحتاج موسكو إلى ممارسة نفوذها لحل النزاع، ولكن الضعف النسبي لأرمينيا وأذربيجان واعتمادهما على روسيا يخدم الهدف الاستراتيجي للكرملين.

يشير محللون اٍلى أنّه على الولايات المتحدة أن تعزز مبيعات الأسلحة لأرمينيا، وأن تفعّل المشاركة النشطة للمساعدة في حل نزاع ناغورنو كاراباخ . اضافة الى التعاون بشكل أكبر مع الاتحاد الأوروبي في شراكته الشرقية، التي تعد أرمينيا وجورجيا عضوين فيها. على الرغم من أن البعض في الغرب وأرمينيا انتقدوا حكومة الباشينيان لخطواتها غير الديمقراطية المحتملة مثل محاكمة الرئيس الأرمني السابق روبرت كوتشاريان ، إلا أن تأكيد ثورة أرمينيا المخملية على الإصلاحات الديمقراطية يوفر المزيد من الفرص لهذه الاخيرة للتعاون مع الاتحاد الأوروبي. كما ساهمت جورجيا في الحملة التي يقودها الناتو في أفغانستان، استعدادا منها للانضمام إلى الناتو، اضافة الى   تعاون كل من أرمينيا وأذربيجان أيضا مع الناتو. يمكن للولايات المتحدة أيضًا زيادة المشاركة مع المجتمع المدني المؤيد للديمقراطية في جنوب القوقاز بأكمله وتعزيز التعاون الحكومي مع هذه المنطقة.

رابعًا: الصراع الامريكي-الروسي حول الطاقة: المواجهة والتنافس

واقع النفط المعقّد في روسيا ومواجهة العقوبات الامريكية:

_تتعامل روسيا مع واقع جديد من الآثار الدائمة لحرب أسعار النفط الخام القصيرة مع المملكة العربية السعودية منذ الربيع الماضي ووباء COVID-19 المستمر الذي عرّض صناعة الطاقة المحلية في روسيا الى صعوبات كبيرة لم تشهدها روسيا منذ تفكك الاتحاد السوفياتي.

_ادت عملية الانتاج غير المسبوق بحوالي 2.5 مليون برميل يوميًا، في شهري مايو ويونيو2020 وفقًا لشروط الاتفاقية الأخيرة بين منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) ومنتجي النفط الرئيسيين الآخرين الى العديد من التداعيات على النفط الروسي، فقد وجدت شركات النفط الروسية نفسها أمام خيار صعب:

1)عمليات الإغلاق الدائمة بسبب التحديات التشغيلية، والتخزين المحدود، وقيود جيولوجية طبيعية في عدد كبير من الحقول

2)تأثير التخفيض في الإنتاج على جودة النفط الخام، مما يؤثر على قيمته بالنسبة للمصافي.

3)المنافسة القوية من مصدري الشرق الأوسط في أسواقها الرئيسية في آسيا وأوروبا وسط الطلب المتزايد بسبب التباطؤ الاقتصادي.

4)التزام روسيا تمامًا بخفض الإنتاج البالغ 9.7 مليون برميل في اليوم الذي وافق عليه تحالف المنتجين في أوبك التي هي عضو فيه، والاعلان عن وجود "تنسيق وثيق" بين السعودية وروسيا بشأن قيود إنتاج النفط.

5)تعزيز الانفتاح الدبلوماسي لتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة، التي اضطلعت بدور غير مسبوق في الضغط على الأطراف من أجل اتفاق النفط.

6)محاولات روسيا تخفيف بعض العقوبات الامريكية على شركة النفط الروسية Rosneft PJSC التي لم تعد تتداول النفط الفنزويلي.

7)تطوير قطاع النفط الروسي، وربما الاستعانة بالتكنولوجيا الامريكية في مجال الصناعة النفطية.

_ليس واضحا ان كان هناك تقدم على المستوى الدبلوماسي لتفعيل العلاقات الثنائية المعقدة بين الولايات المتحدة وروسيا، والتي تتراوح بين المخاوف بشأن اتفاقيات الانتشار النووي المستقبلية وصعوبة التوصل إلى حل دبلوماسي للأزمة في فنزويلا، وكذلك استمرار الوجود العسكري الروسي في أوكرانيا، اضافة الى انتقاد الولايات المتحدة للدور الروسي في الازمة الليبية. ولكن بغض النظر عن النزاعات الجيوسياسية بين الطرفين يبقى لدى روسيا دور اساسي في استقرار سوق النفط العالمية.

_دخلت الولايات المتحدة معترك المنافسة لبيع النفط الخام مع روسيا والسعودية -حيث تحتدم المنافسة بينهما للبحث عن عملاء لتسويق الانتاج مستقبلا، وقد يشكل هذا القرار الامريكي أزمة تنافسية جديدة امام تدفق مبيعات الطاقة الامريكية.

روسيا تهزم الولايات المتحدة في لعبة نفط الشرق الأوسط:

_تبذل روسيا قصارى جهدها لإخفاء نواياها الاستراتيجية، لكنها تشعر بوضوح أنها تتمتع بالسلطة الكافية في الشرق الأوسط، من خلال الإشارة إلى أن عددًا كبيرًا من الشركات الروسية ستنفق ما يصل إلى 20 مليار دولار أمريكي على المشاريع النفطية في العراق مثلا، بعد قرار الادارة الامريكية بعدم الانخراط في الصراعات في الخارج، والتي منحت فرصة للشركات الروسية والصينية لدخول سوق الطاقة في الشرق الاوسط بقوة.

_بدأت الشركات النفطية الروسية بالنشاط في العراق مثل و Bashneft و GazpromNeftوLukoil، حيث اعتمدت روسيا نهج التخفي المعتاد لبناء وجودها في العراق.

_استغلت روسيا كل فرصة لتوسيع بصمتها في شمال وجنوب العراق. في الشمال، كانت ناجحة للغاية حتى الآن في استخدام وكيل شركتها، Rosneft ، للسيطرة على العناصر الرئيسية للبنية التحتية للنفط والغاز في المنطقة ، بينما في الجنوب أجبرتها طموحات الولايات المتحدة السابقة على السير بهدوء بعيدا عن المواجهة. على الرغم من أنها كانت دائمًا قادرة على الاعتماد تواجد إيران سياسياً وعسكريًا في العراق لتحقيق اهدافها.

_جازفت روسيا بمواجهة عسكرية كاملة مع الولايات المتحدة للحصول على ميناء واسع النطاق على البحر الأسود مع إمكانية الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط ​​عندما ضمت شبه جزيرة القرم في عام 2014، لذلك عمدت اليوم الى بناء موطئ قدم لها عبر طريق العبور والإمداد إلى سوريا الذي يشمل العراق. في هذا السياق تعمد روسيا للاستثمار ابتداءا من منطقة الانبار في العراق على طول الطريق الذي كانت الولايات المتحدة تطلق عليه اسم العمود الفقري لتنظيم داعش، حيث يتدفق الفرات غربا الى سوريا وشرقا الى الخليج الفارسي. على طول هذا الخط الممتد من الشرق إلى الغرب توجد مدن مناهضة للغرب وامريكا، ثم هناك سوريا، مع موانئها الاستراتيجية الرئيسية بانياس وطرطوس القريبان جدًا من قاعدة حميميم الجوية الروسية الضخمة ونظام صواريخ إس -400. على الرغم من أن القاعدة دخلت حيز التشغيل فقط في عام 2015 ومن المفترض أنها تساعد في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، يبدو أن روسيا قد غيرت خططها التكتيكية من أجلها ، بعد أن وقعت أيضًا على عقد إيجار لمدة 49 عامًا ، مع خيار تمديد آخر لمدة 25 عامًا.

خامسًا: النزاع الامريكي-الروسي حول التسلح والصراع مع الناتو

تقوم روسيا بتحديث أسلحتها النووية: ماذا يعني ذلك بالنسبة للولايات المتحدة والغرب؟ انه صراع هيمنة ونفوذ في لعبة استراتيجية كبرى تحاول روسيا أن تكون فيها فاعلا اساسيا قادرا على تغيير موازين القوى الدولية:

_يمتلك الروس والأمريكيون نفس السبب لتحديث قواتهم النووية: فهم يريدون الحفاظ على التكافؤ. إذا كان لدى الجانبين نفس العدد من الرؤوس الحربية النووية المنتشرة فلن يميلوا إلى إطلاق النار على بعضهم البعض. ولديهم أيضًا سبب لتجنب سباق التسلح الذي يستلزم السعي باستمرار إلى مزيد من الأسلحة النووية في محاولة لتحقيق التفوق - مهما كان مؤقتًا. وعلى الرغم من ارتفاع تكلفة الأسلحة النووية ووسائل إيصالها، فقد حافظ التكافؤ على انخفاض التكاليف من خلال السيطرة على سباق التسلح.

_في السنوات القليلة الماضية، يبدو أن الرئيس فلاديمير بوتين يسعى وراء الأسلحة النووية لإظهار أن روسيا لا تزال قوة عظمى لا يستهان بها. لقد كان يتفوق على أنظمة جديدة وغريبة فريدة من نوعها، مثل نظام إيصال الأسلحة النووية المعروف باسم صاروخ بوريفيستنيك الذي يعمل بدفع نووي.

_إذا ظل تحديد الأسلحة بين الولايات المتحدة وروسيا ساريًا، فلن يتم نشر هذه الأنظمة بالتأكيد بأعداد كبيرة، لأنها ستحل محل الصواريخ البالستية العابرة للقارات. هذه الصواريخ البالستية هي العمود الفقري للردع النووي لروسيا.

_إن الأوروبيين، وأبرزهم حلفاء الناتو، قلقون للغاية بشأن برامج التحديث النووي الروسية. تدور مخاوفهم حول الصواريخ النووية الجديدة التي سيتم نشرها على الأراضي الأوروبية أكثر من الأنظمة العابرة للقارات التي تهدد الولايات المتحدة. على سبيل المثال، بولندا وليتوانيا دولتان في حلف الناتو على الحدود مع كالينينغراد، وهو الجيب الروسي في قلب أراضي الناتو. وضعت روسيا صواريخ قادرة على نحو متزايد هناك، بما في ذلك إسكندر، صاروخ حديث للغاية عالي الدقة قادر على إطلاق رؤوس حربية نووية أو تقليدية.

_إن الأوروبيين لديهم رأي واحد حول التهديد الذي يشكله صاروخ يعرف باسم 9M729 SSC-8 في لغة حلف شمال الأطلسي، وهو صاروخ كروز متوسط ​​المدى يطلق من الأرض قام الروس بتطويره ونشره في انتهاك لمعاهدة القوى النووية (INF). يتفق جميع الحلفاء على أن هذا الصاروخ يشكل تهديدًا لحلف شمال الأطلسي.

_منذ أن استولت روسيا على شبه جزيرة القرم في عام 2014، أدخلت الأسلحة النووية إلى شبه الجزيرة مما اثار جدالا سياسيا وقانونيا واسعا في اوساط المجتمع الدولي، واتهمت روسيا بانتهاك معاهدة عدم الانتشار النووي، لأن أوكرانيا دولة غير حائزة للأسلحة النووية بموجب معاهدة عدم الانتشار.

_يرى الاوروبيون أنه  لابد من المحافظة على انظمة الحد من الأسلحة النووية، فبالنسبة  للجيل الذي عمل في هذه القضايا في روسيا والولايات المتحدة وأوروبا ، هناك ما يكفي من العلاقة المتبقية حتى يتمكن الخبراء من اغتنام فرص التعاون، من خلال المحافظة على اليات الحوار المشترك لمواجهة مشاكل الحرب النووية والبحث عن حلول.

_لم تتجنب روسيا التعاون مع حلف شمال الأطلنطي في فترة ما بعد الحرب الباردة، ساعية إلى جعل الناتو يغير طابعه حتى الآن من كتلة عسكرية إلى تحالف سياسي نموذجي.

_لأكثر من عقدين، كان الناتو ملتزمًا بإجراء حوار مع روسيا أثناء إقامة علاقات شراكة مع سلطاته. تغير هذا بشكل كبير في عام 2014 عندما أوقف الناتو جميع التعاون العملي مع روسيا مع إبقاء قنوات الاتصال السياسية والعسكرية مفتوحة. إن التحالف جاهز الآن للدخول في حوار مع روسيا، مع توسيع إمكانية احتوائه وردعه. وقال قائد قوات الناتو في أوروبا، الجنرال الأمريكي كورتيس سكاباروتي ، في شهادة أمام مجلس الشيوخ الأمريكي: "روسيا هي التهديد الأساسي لبيئة أمنية أوروبية أطلسية مستقرة". وحذر من تهديد متزايد من روسيا بينما نصح الإدارة الأمريكية بنشر المزيد من الجنود والسفن البحرية في أوروبا.  وعلى هامش الاجتماع بمجلس الشيوخ في 5 مارس 2019، اعترف سكاباروتي بأنه "نظرًا لرغبة موسكو الواضحة في انتهاك القانون الدولي والمعاهدات الملزمة قانونًا، وممارسة نفوذ ضار، تهدد روسيا المصالح الوطنية الحيوية للولايات المتحدة، والحفاظ على أوروبا موحدة، حرة، وفي سلام ". وخلال خطاب ألقاه في البرلمان الأوروبي، قال نائب القائد الأعلى للحلفاء في أوروبا، الناتو، جيمس إيفيرارد، إن ضم موسكو لشبه جزيرة القرم والعدوان على أوكرانيا قد غير جذريًا البيئة الأمنية الأوروبية الأطلسية. "لدى حلف الناتو الآن منافس - روسيا. لكننا لسنا في زمن مواجهة استراتيجية، بل في زمن منافسة استراتيجية”. ما يبدو خطيرًا ، أن روسيا ، التي سعت دائمًا لبناء حواجز استراتيجية ، تريد الآن إعادة بناء موقفها ، الذي يجب أن يتم من خلال تدمير النظام الدولي الحالي.

سادسًا: افاق العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا في 2030

_تغيير المشهد الدولي:

سيواجه قادة الولايات المتحدة وروسيا في عام 2030 مشهدًا عالميًا ستشمل ميزاته الرئيسية ما يلي:

1)الثنائية القطبية: ستبقى الولايات المتحدة والصين أكبر الجهات الفاعلة على المسرح العالمي، حتى إذا تضاءلت قدرتهما وإرادتهما على الصعيد العالمي مستقبلا بشكل كبير نتيجة لوباء الفيروس التاجي والتنافس التجاري والانشغال بالمسائل الداخلية. وفي الوقت نفسه، سيستمر عدد من الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية الهامة في ممارسة نفوذ كبير في الشؤون الإقليمية والعالمية. ستظل أوراسيا مركز الجاذبية الاستراتيجي في العالم.

2)الانتشار: إن انتشار التقنيات العسكرية الجديدة والتي من المحتمل أن تؤدي إلى زعزعة الاستقرار سيزيد من إجهاد أنظمة عدم الانتشار العالمي، خاصة في غياب تدابير جديدة متعددة الأطراف تعزز المعايير والمؤسسات التي تحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل.

3)الصراعات: من المرجح أن يزداد عدد النزاعات داخل وحول القارة الأوراسية، وقد تنشأ مخاطر جديدة لموسكو وكذلك للولايات المتحدة.

4)استراتيجيا غير مستقرة: تعمل الولايات المتحدة وروسيا على تطوير أسلحة لا تخضع لأي قواعد أو قيود. إذا تركت هذه القدرات دون تنظيم، فإنها ستزيد من خطر وقوع حوادث أو سوء تقدير قد يؤدي إلى نشوب نزاع مسلح.

5)التطورات التقنية: توسع الميزة التنافسية للولايات المتحدة على حساب روسيا بسبب الاختراقات في مختلف التقنيات مثل الذكاء الاصطناعي، وشبكات 5G ومصادر الطاقة المتجددة، واللقاحات ضد الفيروسات التاجية الجديدة.

_انعدام التوافق:

أ)ستعرقل الاختلافات العميقة في المصالح والقيم ومفاهيم النظام العالمي أي مفاهيم عن شراكة مستدامة أو إعادة ضبط أو تحسن كبير في العلاقات. لذلك، سيكون التوفيق المتبادل صعبًا.

ب)ينظر مجتمع السياسة الخارجية الأمريكي إلى روسيا كفاعل معادٍ، ومن المرجح أن يسود هذا الرأي في المستقبل المنظور. حيث يستاء صانعو السياسة الأمريكيون من نشاط روسيا العالمي ويزداد قلقهم بشأن شراكتها مع الصين.

ج)يرى مجتمع السياسة الخارجية في موسكو الولايات المتحدة باعتبارها فاعلًا عدوانيًا وأحاديًا وعدائيًا وتهديدًا للاستقرار الداخلي لروسيا وتطالب بمكانة بارزة على المسرح العالمي.

_الحل: الادارة والاحتواء

من المرجح أن تظل العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا مثيرة للجدل، حيث تحتاج واشنطن وموسكو إلى إدارة خلافاتهما. لتثبيت العلاقة، سيحتاج البلدان إلى استئناف حوار رفيع المستوى حول القضايا التي تفرق بينهما. لن يكون هذا الجهد علاجًا لكل المشاكل الحالية، ولكنه قد يخلق فرصًا، مهما كانت محدودة، للتعاون. يجب أن تكون أولويات الولايات المتحدة لتجديد الحوار:

1)تجنب الصراع الأمريكي الروسي في المنطقة الأوروبية الأطلسية والحد من مخاطر التصعيد غير المقصود

2)إعادة ترتيب الاستقرار الاستراتيجي استجابة لتآكل الحد من التسلح وتطوير تكنولوجيات عسكرية جديدة

3)التعاون لمنع الدول الأخرى من الحصول على أسلحة نووية

4)الحفاظ على السلام والاستقرار في الشرق الأوسط، وخاصة الخليج الفارسي

5)منع الصين من فرض هيمنتها على منطقة آسيا والمحيط الهادئ

6)إدارة المنافسة الأمريكية الروسية في الفضاء الإلكتروني وفي الفضاء الخارجي.

7)يجب على البلدين خلق إطار للتعاون حيث تتداخل مصالحهما، لإدارة الخلافات قبل أن تتصاعد.

8)في النهج الأمريكي، يجب إعطاء الأسبقية للخطوات الصغيرة والواقعية على الأهداف الكبيرة والطموحة. ستعتمد إمكانية استغلال هذه الفرص على القيادة والإرادة والرؤية للقادة في كلا البلدين الذين يجب عليهم التغلب على جدار من عدم الثقة المتبادل ومقاومة الجمهور والسياسيين والمجالس التشريعية.

استراتيجية الولايات المتحدة الكبرى وتغيير المشهد العالمي:

ستظل العناصر الجيوسياسية الدائمة للاستراتيجية الأمريكية الكبرى هي:

_الحفاظ على هيمنة الولايات المتحدة في نصف الكرة الغربي

_منع قوة معادية من فرض الهيمنة على الأجزاء الحرجة من اليابسة الأوراسية

_الحفاظ على حرية البحار

_يمكن لروسيا أن تكون فاعلا مفسدًا وسلبيًا، على الرغم من أنها كانت في بعض الأحيان قوة إيجابية في التحديات النووية التي تفرضها إيران وكوريا الشمالية مثلا. ومع ذلك، فإن روسيا لا تشكل تهديدًا مهيمناً على نفوذ أمريكا في نصف الكرة الغربي أو منطقة آسيا والمحيط الهادئ أو أوروبا أو الخليج الفارسي.

_إن تآكل العلاقات عبر الأطلسية والنفوذ الأمريكي في أوروبا هو في الغالب نتيجة تحول الأولويات الأمريكية، وعداء أوروبا للرئيس دونالد ترامب، وتغيير الديناميكيات السياسية في أوروبا التي تمكنت روسيا من استغلالها لتصبح قوة مهيمنة في أوروبا.

_يتعين على الإدارات الامريكية المستقبلية متابعة المصالح الامريكية، وتكييف سياساتها مع الحقائق الدولية المتغيرة.

_إن التنبؤ بحالة العالم في عام 2030 مهمة مستحيلة، خاصة بالنظر إلى خطر الأزمات الصحية العالمية، والأزمات البيئية، والاضطرابات الاقتصادية، كما يتضح من جائحة الفيروس التاجي. ومع ذلك، من الممكن تحديد عدد من الاتجاهات الرئيسية - الاقتصادية والسياسية والعسكرية والمجتمعية - التي من المحتمل أن تساعد في تشكيل عالم 2030. كنقطة انطلاق مفيدة ، يعتمد هذا التقييم على الاتجاهات العالمية لمجلس المخابرات الوطنية 2030 التقرير الذي حدد العديد من "التوجهات الضخمة" التي ستؤثر على الطابع الأساسي للعلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا على مدى العقد المقبل،  وأهم هذه الاتجاهات وآثارها.

_بغض النظر عن نتيجة الانتخابات الرئاسية لعام 2020، ستظل روسيا قضية خلافية في السياسة الداخلية الأمريكية على الأقل للسنوات القادمة، خاصة إذا استمرت موسكو في التدخل في الانتخابات الأمريكية.

_إذا أعيد انتخاب ترامب في عام 2020 وسار من جانب واحد نحو علاقات أمريكية روسية أفضل، فمن المؤكد أنه سيواجه معارضة قوية من الكونجرس لأي محاولات لتطبيع العلاقات مع روسيا، ناهيك عن رفع بعض عقوبات ما بعد 2014، خاصة إذا لم يكن هناك تقدم في حل الصراع في شرق أوكرانيا.

_ستبقى سياسة الولايات المتحدة تجاه روسيا نتاجًا لحكومة منقسمة من شأنها أن تحد من قدرة الرئيس على اتخاذ موقف أكثر ملاءمة، على الرغم من أن ترامب سيكون لديه بعض الوقت لإجراء تغييرات سطحية ورمزية إلى حد كبير في العلاقة.

_ستظل واشنطن منشغلة بالتعامل مع الانقسامات السياسية المحلية، وتتعافى اقتصاديًا من جائحة الفيروسات التاجية الذي يحتوي على الصين، وتقلص الدور العسكري الضخم الذي لعبته في الشرق الأوسط وجنوب غرب آسيا في العقود الأخيرة.

_إذا أعيد انتخاب ترامب، فسيستمر في تجنب التعددية والتحالفات المفتوحة لصالح دبلوماسية المعاملات الثنائية في خدمة أجندة أمريكا الأولى الأكثر انفرادية وقومية. أمّا إذا تم انتخاب نائب الرئيس السابق جو بايدن ، فمن المحتمل أنه ، على الرغم من الالتزام الخطابي تجاه نظام ليبرالي متجدد ، فإن القيود المحلية والخارجية على القوة الأمريكية ستحدّ من نطاق الطموحات الأمريكية وقدرتها على ايجاد حلول جديدة تواجه التحديات الدولية الملحة. وستستغرق إدارة بايدن بعض الوقت لإصلاح الضرر الذي لحق بمصداقية وسمعة أمريكا بسبب سلفها. ستواصل واشنطن النضال من أجل صياغة إجماع محلي على تخصيص موارد كبيرة لمشاريع السياسة الخارجية الطموحة.

_أظهرت العديد من استطلاعات الرأي أنّ أغلبية الجمهور الأمريكي، سئم من الالتزامات الأجنبية، ويريد من قادته التركيز بشكل أكبر على التحديات الداخلية التي لها تأثير سلبي كبير على حياة العديد من الأمريكيين، في عصر يتسم بتهديد المزيد من الأوبئة والحاجة إلى التعامل مع المشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

نتيجة لهذه العوامل، فإن السنوات القليلة المقبلة وما بعدها ستشهد على الأرجح تراجع لنشاط وتأثير الولايات المتحدة على مستوى الشؤون العالمية، اعتمادا على من هو الرئيس. انتهت فترة القطب الواحد في أمريكا: سيتحول النظام الدولي إلى نظام عالمي أكثر تعقيدًا وغموضًا وإرباكًا، حيث ستعيد القوى العالمية الرئيسية الأخرى التوازن لهذا النظام. من المرجح أن تظل العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا مثيرة للجدل لأن واشنطن ستواصل النظر إلى دفاع موسكو عما تراه مصالحها المشروعة - والنشاط الروسي بشكل عام - كدليل على أن روسيا لا تزال معادية للقيادة الأمريكية، وللنظام الدولي القائم على القواعد المتعلقة بالسيادة الوطنية والاستقلال والالتزام بالمعايير الديمقراطية.

الاستراتيجية الروسية

السيناريو الأكثر ترجيحًا هو أن روسيا ستبقى في مسارها الحالي في الداخل والخارج، سواء بقي الرئيس فلاديمير بوتين في السلطة أم لا. يستند هذا التكهن إلى السمات الدائمة للسياسة الداخلية الروسية والسياسة الخارجية التي تتجاوز بوتين وأي نظام سيخلفه.

_السياسات الروسية:

1)التزام روسيا بالحفاظ على مكانتها كقوة عظمى

2)توسيع حضورها ونفوذها العالميين

3)إضعاف العلاقات عبر الأطلسية والأوروبية

4)السيطرة على الفضاء السوفياتي السابق

5)تحدي المعايير الغربية للديمقراطية وسيادة القانون

6)خلق عالم متعدد الأقطاب

7)الحفاظ على شراكة مع الصين

8)رفض التكامل مع الهياكل الأمنية والاقتصادية بقيادة الغرب.

_بالنظر إلى هذه الحقائق، يجب على واشنطن التركيز على:

أ)إدارة المنافسة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وروسيا بعناية، بدلاً من السعي إلى مساومات كبرى، أو اختراقات أخرى

ب)تقليل خطر المواجهة العسكرية المباشرة عن طريق المنافسة المعتدلة، والسعي إلى التعاون لمواجهة التهديدات الإقليمية وعبر الوطنية المشتركة، والحفاظ على إمكانية التقارب مع تغير الظروف العالمية.

_سيكون من الصعب استئناف حوار استراتيجي أمريكي روسي مثمر. للحصول على زخم للمحادثات والبدء في عملية بطيئة لإعادة بناء الثقة المتبادلة، يجب على البلدين تطوير أطر التعاون والتعامل في مجالات المصالح المشتركة أو المتوافقة والتهديدات المشتركة، وكذلك لإدارة الخلافات.

1)بالنظر إلى حجم ونطاق التحدي والحجج التي سيجلبها الجانبان إلى الطاولة

2)يجب إعطاء الخطوات العملية الصغيرة في نهج الولايات المتحدة أولوية على الأهداف الكبيرة والطموحة.

3)يجب تجنب الصراع الأمريكي الروسي في المنطقة الأوروبية الأطلسية والحد من مخاطر الصراع غير المقصود والتصعيد.

4)يجب أن يكون تجنب الصراع بين الولايات المتحدة وروسيا، وخاصة الحرب النووية ، الأولوية القصوى للولايات المتحدة في العلاقات الثنائية، خاصة في منطقتي البلطيق والبحر الأسود.

5)يجب أن تستعيد الولايات المتحدة وروسيا حوارًا جادًا واستراتيجيًا عالي المستوى ، يركز في البداية على بناء الأمن المتبادل في المنطقة الأوروبية الأطلسية.

6)يجب على الولايات المتحدة وروسيا، الحفاظ على الامتثال الصارم لالتزاماتهما بموجب اتفاقيات منظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE) .

7)مواجهة التحديات الإقليمية في مجال انتشار الأسلحة النووية.

8)التعاون النووي المدني مع دول ثالثة (مصر-السعودية-الامارات العربية المتحدة-تركيا بمراحل مختلفة من تطوير وتشغيل المفاعلات النووية المدنية، وستتوفر لدول أخرى حوافز لتطوير الطاقة النووية المدنية. وبالتالي، سيكون من المهم أكثر من أي وقت مضى لموسكو، التي اتبعت برامج تعاون نووي مدني قوية في الخارج، واعتماد معايير أكثر صرامة في تزويد الدول الثالثة بدورة وقود نووي كاملة من قدرات التخصيب وإعادة المعالجة).

9)ينبغي أن يشمل الحوار المتجدد إجراء مشاورات حول شروط الإمداد النووي وكذلك بشأن تعزيز سلامة المفاعلات النووية وإيجاد حلول لمشكلة النفايات النووية.

10)خروج الولايات المتحدة وفرنسا ودول أخرى من الصادرات النووية المدنية التي ستهيمن عليها روسيا (والصين) في المستقبل.

11)تعزيز الأمن الإقليمي: الحفاظ على الاستقرار والنظام في عالم متعدد الأقطاب، وعلى موازين القوى في ثلاث مناطق على الأقل ذات أهمية جيوسياسية: أوروبا والخليج الفارسي وشمال شرق آسيا.

12)اعتماد روسيا بشكل متزايد على الصين كمصدر للتكنولوجيا والاستثمارات.

13)التعاون بين الولايات المتحدة وروسيا في الخليج الفارسي، حيث لدى البلدين مصلحة في إبقاء الأسلحة النووية بعيدة عن أيدي إيران والمملكة العربية السعودية وفي إقامة توازن بين هذين البلدين لإدارة الازمة بينهما.

14)اهتمام روسيا بتشكيل منتدى التعاون الروسي -العربي، وهو منتدى أمني جديد وشامل في الخليج الفارسي يجمع كل الدول الإقليمية الرئيسية بما في ذلك إيران والقوى الخارجية لمعالجة القضايا عبر الوطنية. وتشمل مهامه، الأمن البحري ؛ الاتجار غير المشروع ؛ المعالجة البيئية؛ إدارة الموارد المائية ؛ الاستجابة للكوارث الطبيعية ؛ تدابير الحد من المخاطر وحل النزاعات وتسوية المنازعات ؛ وتدابير بناء الثقة البحرية .

15)المشاركة في الفضاء الإلكتروني من خلال تطوير وتنمية القدرات السيبرانية.

16)توسيع العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الولايات المتحدة وروسيا.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور