الجمعة 15 نيسان , 2022 05:06

كيف تنجح روسيا بعكس ما يروج له الغرب؟

الرئيس فلاديمير بوتين

عوداً على بدء فيما يخص بالعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وبعيداً عن حملات البروباغندا الأمريكية والغربية، الذين لم يتركوا وسيلة أو منصة إعلامية، إلا وروجوا فيها لهزيمة ما وصفوه بالعدوان الروسي، وقمعوا في نفس الوقت كل رأي لا ينسجم مع ذلك. يمكننا بعد التدقيق في تسلسل الأحداث وخرائط السيطرة، أن نكتشف بأن العالم يشهد أهم تطبيق للعقيدة العسكرية الروسية الجديدة، التي تختلف بشكل جذري عن العقيدة العسكرية الغربية. كما أن العالم يشاهد أيضاً، واحدةً من أعظم عمليات المخاتلة والخداع العسكري في التاريخ الحديث.

فالعقيدة العسكرية الروسية بعكس الغربية، يقاتل قادة الجيش والفرق والألوية والكتائب بين جنودهم، فيما يقاتل القادة الغربيين من بعيد عبر شاشات غرف العمليات. وهذا ما يفسر سبب سقوط الخسائر البشرية في صفوف القوات الروسية، بعكس ما تفسره القنوات الغربية من أنه بسبب ضعف بنيوي فيها. كما أن عقيدة الكرملين العسكرية، لا تقيّم نجاح خططها وفق ميزان الخسائر التكتيكية، كطائرة حربية هنا أو دبابة هناك، وصولاً الى الطراد الصاروخي البحري "موسكڤا". بل التقييم يتم حول أهداف العملية الحقيقية، التي لم تكن يوماً احتلال أوكرانيا أو عاصمتها كييف، أو إسقاط حكومتها وسلطتها السياسية، أو تدمير البلد بشكل كامل.

فأهداف روسيا بشكل واضح:

_ تحرير المناطق التي يعيش فيها أغلبية سكانية ناطقة باللغة الروسية، انطلاقاً من إقليم "دونباس" وصولاً الى مدينة "خاركوف" الاستراتيجية.

وهنا يجب التذكير بأن الحكومة الأوكرانية قد سبق لها أن نشرت الجزء الأكبر من جيشها في جنوب البلاد، مدعوماً بميليشيات عسكرية مثل كتيبة آزوف تنتشر في مدن مثل خاركوف وماريوبول وأوديسا، استعدادًا لعملية كبيرة ضد "دونباس".

_ توجيه ضربة قوية للجيش الأوكراني وللمجموعات التابعة له التي تنتهج الفكر القومي المتطرف والنازية.

_ منع انضمام أوكرانيا الى الناتو، وبذلك تتحول الى قاعدة تهديد وجودي لها.

لذلك بدأت العملية في الـ 24 من شباط/فبراير في خطين من الجهد، وفقًا للعقيدة العملياتية الروسية:

1)الجهد الرئيسي:جهد رئيسي موجه نحو جنوب البلاد، في منطقة دونباس، وعلى طول ساحل بحر آزوف. وكما تنص العقيدة، فإن الأهداف الرئيسية من هذا الجهد هي تحييد القوات المسلحة الأوكرانية (هدف "نزع السلاح")، وتحييد القومية المتطرفة والميليشيات العسكرية في مدينتي خاركوف وماريوبول (هدف "نزع النازية").

ويقود تحالف القوات هذه الدفعة الأساسية: من خلال "خاركوف" وشبه جزيرة القرم توجد القوات الروسية من المنطقة العسكرية الجنوبية، في الوسط قوات جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين، ويساهم الحرس الوطني الشيشاني (قوات الرئيس رمضان قديروف) في المشاركة في منطقة ماريوبول.

2)الجهد الثانوي: هو ما شهدناه في محيط العاصمة كييف، الذي يهدف الى "تضييق" على القوات الأوكرانية والغربية، لمنعها من تنفيذ عمليات ضد الزخم الرئيسي، أو حتى التعرض لقوات التحالف الروسية من الخلف.

وبذلك نفذ الجيش الروسي عملية الخداع، بعكس ما روّجت له وسائل الإعلام الغربي، بحيث لم يكن "هارباً" أو "يتوقف" بالمقاومة البطولية، لإنه ببساطة لم يهاجم حيث كان متوقعاً.

لذلك تتبع هذه العملية حرفياً، الأهداف التي حددها الرئيس بوتين. بينما قامت هيئة الأركان العامة الأوكرانية، التي تتلقى تدريبًا واستشارات من قبل خبراء الناتو، بالتركيز على تعزيز الدفاع عن كييف ومحيطها، مع ترك قواتها بلا حول ولا قوة في نهر دونباس، على طول محور الجهد الروسي الرئيسي. وهذا ما يفسر نجاح العملية الروسية وهزيمة المعسكر الاوكراني حتى الآن.

نتائج العملية حتى الآن

_ تدمير سريع وخلال ساعات لأهم قدرات القوات الأوكرانية، وبواسطة ضربات صاروخية دقيقة، بحيث تم تدمير معظم الرادارت ومراكز العمليات الجوية والمطارات العسكرية الرئيسية. وبالتالي فقد الجيش الأوكراني القدرة على الاعتراض الجوي، ولذلك لم نشهد اي معارك جوية، بل استطاعت القوات الجوية الروسية بسط سيطرتها بسهولة.

_ انهيار شامل للقوات الأوكرانية، بحيث لم يتبقى سوى جيوب قتالية تتألف من مجموعات صغيرة (لم تبلغ حجم الكتائب حتى)، وتكون مسلحة بمنظومات دفاعية تكتيكية، أي تحولت تقريباً لتكتيك حرب العصابات. وقد استطاعت تحقيق النجاح في إصابة بعض آليات ومعدات الجيش الروسي، لكن ليس الى حد الخسائر الاستراتيجية.

وهذا ما يفسره سرعة طلب الرئيس زيلنسكي للنجدة بالمقاتلين والعتاد من دبابات وطائرات، وتشكيل فيلق أجنبي، بحيث تشير المعلومات الى أن هناك مقاتلين أجانب في ماريوبول وحدها، من 19 جنسية بينها سويسرية وفرنسية وبلجيكية.

ماذا بعد الدونباس؟

هناك رأي يقول بأن هدف روسيا الأساسي وغير المعلن، هو السيطرة على "روسيا الجديدة – نوفوروسيا"، والتي تضم مقاطعات: لوغانسك، دنتسيك، خاركوف، القرم، اوديسا، دنيبرو، ميكولاييف، زابوروجيا، وخيرسون. وتعتبر هذه المنطقة من المناطق الجيوستراتيجية، كونها غنية بالموارد الطبيعية (نفط، معادن نادرة، زراعة، مصانع الغازات النادرة)، وكونها تؤمن البحر الاسود لقطع طريق حلف الناتو البحرية.

لذلك فإنه في الأيام القادمة، وبحسب تقديرات بريطانية وأمريكية، فإن الجيش الروسي حشد قواته على محور "زابوروجيا"، وقام بتعزيز قواته بالشرق، تحضيراً للمرحلة الثانية من العملية. وسيكون الهدف تعزيز خطوط الدفاع في "دونباس"، وتطويق القوات الأوكرانية في المنطقة الشرقية. وبعدما تمّ اختراق جبهة "ايزيوم" المحصنة، سيتم توجيه الهجوم نحو مدينة سلوفيانسيك، من أجل إيجاد ممر باتجاه المحور الجنوبي.

أما المعركة الكبرى فستكون في مدينة أوديسا، التي تمتلك أهمية استراتيجية لكونها آخر معقل أوكراني على البحر الاسود وتؤمن السيطرة البحرية، ولأنها مركز صناعة الغازات النادرة عالية النقاوة مثل النيون، الكريبتون والاكزينون. وهي غازات مهمة في صناعة الرقائق الالكترونية عالية الجودة وأشباه الموصلات، والتي تستخدم 90٪ منها في الليزر. كما أنها كلها منتجات ثانوية لمحطات فصل الهواء، التي تزود مصانع الصلب الكبيرة بالأوكسجين.  وأغلبية الشركات التكنولوجية في العالم، تستورد حاجاتها من هذه الغازات من شركات في هذه المدينة. وبالتالي فإن السيطرة الروسية على هذه الثروة، سيضيف من أوراق قوتها ضد المعسكر الغربي.

بناءً عليه سيكون الجهد الرئيسي في المحور الجنوبي، باتجاه مدينة "ميكولاييف" لفتح الطريق على اوديسا، بينما ستكون مدينة "زابوروجيا" محوراً ثانوياً.

إنها حرب عالمية ثالثة

لا تبدو هذه العملية بمراحلها وتداعياتها وخلاصاتها، هي معركة قد تنتهي قريباً. فهي تحولت بفعل التدخلات الغربية، التي تسعى لإطالة أمد القتال وإنهاك روسيا، حتى آخر مواطن أوكراني. ولذلك قد يؤدي استمرار تحريضها ودعمها لأوكرانيا، الى وقوع حدث ما يشكل شرارة توسع الاشتباك العسكري ليشمل أطرافاً دولية أخرى، ومن يضمن حينها من عدم توسع ذلك الى مناطق صراع أخرى.

وعندها سنكون بالتأكيد أمام عالم جيبوليتيكي مختلف كلياً، عما كان عليه الحال قبل بدء العملية، التي يبدو بأن روسيا مصممة على تحقيق الأهداف فيها، مهما كلّف ذلك من ثمن. أي مثلما قال المفكر الروسي "ألكسندر دوغين": إما ان تنتصر روسيا أو يزول العالم بالسلاح النووي.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور