الأربعاء 05 شباط , 2025 01:56

بين النصر ووهمه: كيف انهارت السرديات الإسرائيلية في حرب غزة؟

صورة تحرير الأسرى ومقاتل من حماس

منذ اندلاع العدوان "الإسرائيلي" على غزة في أكتوبر 2023، بنت تل أبيب حربها على سرديات متغيرة، تتراوح بين "القضاء على حماس"، و"استعادة الأسرى بالقوة"، و"إعادة الأمن للإسرائيليين". لكن مع مرور الوقت، سقطت هذه السرديات واحدة تلو الأخرى، لتكشف عن أزمة عميقة في الرؤية الاستراتيجية الإسرائيلية.

اليوم، ومع قبول حكومة نتنياهو باتفاق وقف إطلاق النار الذي رفضته مرارًا، بات واضحًا أن "إسرائيل" لم تحقق أيًّا من أهدافها المعلنة. لكن المشهد الأكثر دلالة على انهيار السرديات "الإسرائيلية" لم يكن فقط في قبول وقف القتال، بل في المشاهد التي خرجت من غزة خلال تسليم الأسرى، حيث حولت المقاومة عملية التسليم إلى استعراض عسكري مدروس بعناية، أرسل رسائل مباشرة إلى "إسرائيل" والعالم بأن الحرب لم تكسر المقاومة، بل زادتها صلابة.

فكيف انتقلت "إسرائيل" من وعد "النصر المطلق" إلى واقع "الخروج المكره"، وما الذي يعنيه ذلك لمستقبل الصراع؟

استعراض القوة: كيف قلبت المقاومة عملية تسليم الأسرى إلى رسالة استراتيجية؟

- راهنت "إسرائيل" على أن عملية تبادل الأسرى ستظهر حماس كحركة منهكة ومستنزفة، لكن المشهد الذي خرج من غزة كان العكس تمامًا: تنظيم عسكري محكم، مقاتلون مدججون بالسلاح، ظهور مركبات عسكرية استولت عليها المقاومة كغنائم حرب، والتفاف شعبي مهيب حول المقاومة في كل نقطة تسليم.

- كان اختيار المواقع رمزيًا للغاية: في "ميدان فلسطين" وسط غزة، حيث الدمار "الإسرائيلي" الشامل، نصبت المقاومة منصة كبيرة مع لافتة ضخمة كتب عليها "الصهيونية لن تنتصر"، وكأنها ترد على مجمل السردية الإسرائيلية منذ اليوم الأول للحرب.

- في جباليا، التي تعرضت لتدمير شبه كلي، ظهر مقاتلو القسام بأسلحة ثقيلة، في رسالة مفادها أن المقاومة لا تزال متماسكة رغم الاجتياح.

- في خان يونس، قاد موكب التسليم جيب عسكري "إسرائيلي"، استولت عليه المقاومة في 7 أكتوبر، ليكون دليلًا ماديًا على أن المعركة لم تكن من طرف واحد، وأن الاحتلال تكبّد خسائر حقيقية في هذه الحرب.

- هذا التنظيم المحكم، والظهور العسكري المدروس، أكدا أن المقاومة تمتلك قيادة قادرة على الإدارة رغم الاغتيالات، وأنها ليست في حالة "انهيار تنظيمي" كما زعمت إسرائيل.

النتيجة: بدلًا من أن يكون تسليم الأسرى لحظة إذعان لحماس، أصبح استعراضًا يؤكد أن المقاومة لم تُهزم، بل خرجت من الحرب بوضع استراتيجي أقوى مما كان الاحتلال يتخيله.

فشل سردية "القضاء على حماس": لماذا لم تحقق إسرائيل هدفها الأول؟

- منذ بداية الحرب، أعلن نتنياهو أن القضاء على حماس عسكريًا وسلطويًا هو الهدف الرئيسي. لكن بعد 15 شهرًا من القتال، لم يتمكن جيش الاحتلال من القضاء على الحركة، ولا حتى تقليص نفوذها السياسي والعسكري في غزة.

- بينما كانت تل أبيب تروج لانهيار حماس، كانت المقاومة تعيد فرض سلطتها في القطاع، حيث عادت الشرطة المحلية للعمل، وأعيد نشر الأمن الداخلي، وتواصلت الأنشطة المدنية رغم الدمار الشامل.

- الاغتيالات التي طالت قيادات الصف الأول لم تُحدث الفجوة التي توقعتها "إسرائيل"، بل على العكس، ظهر واضحًا أن هناك قيادة متجددة تدير العمليات العسكرية والسياسية بحنكة.

- حتى استشهاد يحيى السنوار، الذي وصف بأنه "العقل المدبر لمعركة طوفان الأقصى"، لم يؤدِ إلى انهيار المقاومة، مما يعكس خطأ التقدير "الإسرائيلي" في فهم بنية حماس التنظيمية.

النتيجة: لم تنجح "إسرائيل" في القضاء على حماس، بل عززت موقعها في الوعي الفلسطيني والإقليمي، حيث باتت تُنظر إليها كحركة قادرة على الصمود في مواجهة أقوى الجيوش في المنطقة.

استعادة الأسرى بالقوة: كيف تحولت من خيار عسكري إلى اعتراف ضمني بالفشل؟

- كانت "إسرائيل" تراهن على عمليات خاصة لاستعادة الأسرى دون الحاجة إلى صفقة تبادل، لكن جميع المحاولات باءت بالفشل، بما في ذلك عملية "شمال قطاع غزة" التي انتهت بكارثة ميدانية.

- عندما أدركت القيادة العسكرية أن الأسرى لن يعودوا إلا عبر التفاوض، بدأت حملة دعائية لتصوير الصفقة كـ "إنجاز"، لكن طريقة تسليم الأسرى جعلت من المستحيل بيع هذه السردية للجمهور "الإسرائيلي".

- صور المقاومة وهي تسلم الأسرى وسط آلاف الفلسطينيين، بينما تحيط بها قوات النخبة القسامية، نقلت صورة عكسية تمامًا لما أرادته "إسرائيل"، حيث بدا واضحًا أن المقاومة هي الطرف المسيطر، وأن الاحتلال لم ينجح في فرض أي شروط في هذه الحرب.

النتيجة: تحولت "استعادة الأسرى" من شعار عسكري إلى اعتراف "إسرائيلي" منه ما هو ضمني وما هو صريح وعلني بأن حماس لا تزال قوة سياسية وعسكرية لا يمكن تجاوزها.

انهيار نظرية الردع: كيف فقدت إسرائيل قدرتها على فرض إرادتها؟

- كانت "إسرائيل" تأمل أن يؤدي العدوان الوحشي على غزة إلى استعادة قوة الردع، لكن الذي حدث كان العكس تمامًا.

- عشرات المستوطنات في غلاف غزة باتت خالية، والمجتمع "الإسرائيلي" يعيش حالة غير مسبوقة من فقدان الأمن والثقة في الجيش.

- على الجبهة الشمالية، اضطرت "إسرائيل" إلى التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار مع حزب الله، وهو ما أظهر أنها غير قادرة على خوض حرب متعددة الجبهات.

- النتيجة الأهم أن المقاومة في غزة خرجت من الحرب ليس فقط كجهة قادرة على الدفاع، بل كطرف يمتلك زمام المبادرة في المواجهة المقبلة.

تداعيات استراتيجية: ماذا يعني هذا الفشل لمستقبل "إسرائيل"؟

- الحرب أكدت أن التهجير القسري للفلسطينيين لم يعد ممكنًا، حتى مع الدمار الشامل الذي فرضته "إسرائيل"، حيث رفض سكان غزة مغادرة أرضهم رغم الإبادة الجماعية.

- السردية "الإسرائيلية" سقطت أمام العالم، ولم تعد تل أبيب قادرة على الادعاء بأنها "الطرف المتحضر الذي يدافع عن نفسه"، بعد أن وثقت الجرائم بحق المدنيين في غزة.

- الداخل "الإسرائيلي" يشهد تصدعًا غير مسبوق، مع انقسام عميق بين التيار اليميني المتطرف والتيار الليبرالي، مما يهدد استقرار النظام السياسي "الإسرائيلي". وخصوصًا بعد موجة الاستقالات، من قيادات عليا إلى ضباط، وهذا ما عبّر عنه الكثيرون، ومنهم رئيس الأركان المستقيل هاليفي، الذي أقرّ بـ"مسؤوليته عن الفشل الفظيع".

- الثقة الدولية في "إسرائيل" تراجعت، مع تصاعد الأصوات التي تدعو إلى فرض عقوبات، وملاحقة مسؤولين "إسرائيليين" أمام محكمة العدل الدولية.

- حماس والمقاومة الفلسطينية باتت أكثر قوة وتأثيرًا، حيث أثبتت قدرتها على الصمود والتنظيم وإدارة الصراع بذكاء استراتيجي، ما يعزز فكرة أن الحل العسكري "الإسرائيلي" قد وصل إلى طريق مسدود.

هل هذه بداية نهاية التفوق "الإسرائيلي"؟

لم تكن هذه حربًا عادية، بل كانت اختبارًا وجوديًا لأسس الردع "الإسرائيلي". اليوم، بات واضحًا أن "إسرائيل" لم تحقق أيًا من أهدافها، بل خرجت بأكبر أزمة سياسية وعسكرية في تاريخها الحديث.

أما في غزة، فقد خرجت المقاومة أكثر قوة، وأكثر تنظيمًا، وأكثر قدرة على إدارة الصراع، ما يجعل المستقبل مفتوحًا على احتمالات جديدة، قد تكون أكثر تعقيدًا "لإسرائيل"، وأقرب لتحقيق تطلعات الفلسطينيين في التحرير والعودة.


الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]




روزنامة المحور