منذ أن طُرحت مشاريع التهجير القسري للفلسطينيين ضمن التصورات الإسرائيلية والأميركية لمعالجة "مشكلة غزة"، كان الأردن في مقدمة الدول التي أعلنت رفضها القاطع لهذا السيناريو. موقف عمان ليس مجرد تعبير دبلوماسي عن التضامن مع الفلسطينيين، بل هو انعكاس لتعقيدات سياسية، أمنية، وديموغرافية، تجعل أي محاولة لفرض هذا المخطط بمثابة تهديد مباشر لاستقرار المملكة. فالأردن، الذي يحمل إرثاً مركّباً من علاقته بالقضية الفلسطينية، يدرك أن أي تغيير في التوازنات السكانية أو الجيوسياسية قد يضعه أمام تحديات تتجاوز قدرته على احتوائها.
يصل الملك الأردني إلى الولايات المتحدة اليوم للقاء نظيره الذي أعلن صراحة رغبته في تهجير الفلسطينيين إلى عمان على رغم معرفته بتداعيات ذلك على مختلف الأصعدة. وبينما يُظهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب لامبالاة واضحة بما سيحدث لاحقاً، يتكل الملك عبدالله الثاني على الرفض العربي الجامع لهذا القرار والذي لا يصب في مصلحة أي دولة عربية، في تغيير أو "تعديل" المشروع، خاصة وأن رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو وضع السعودية في عداد الدول "المُستهدفة" لحل "أزمة الغزيين".
ينبع الغضب العربي من مشروع ترامب من إدراك هذه الدول أن قبول توطين جزء من الفلسطينيين في أي دولة عربية، قد يجعلهم في المرتبة الثانية من القائمة عينها، في ظل شح أوراق الضغط التي تمتلكها تلك الدول، والتي اتخذ غالبيتها خيار التطبيع، ما يعني عدم القدرة على اتخاذ تدابير متطرفة و"جريئة" في وجه واشنطن وتل أبيب. بالنسبة للاردن، تتلخص التداعيات بما يلي:
الاعتبارات الديموغرافية: معادلة تهدد التركيبة السكانية
لطالما شكلت الديموغرافيا في الأردن عاملاً جوهرياً في تحديد ملامح السياسة الداخلية. يشكل الفلسطينيون نسبة كبيرة من السكان (ما يصل إلى نحو 3 مليون نسمة وفق احصائيات قديمة نسبياً، والأردنيين من أصل فلسطيني حوالي 39% من مجموع السكان) وتوطين المزيد منهم لن يكون مجرد استيعاب إنساني، بل إعادة رسم للجغرافيا السكانية بطريقة قد تُحدث اختلالات جوهرية في موازين القوى الاجتماعية والسياسية.
على مدار العقود الماضية، سعت الدولة الأردنية إلى تحقيق توازن بين المكونات السكانية، حيث تم استيعاب اللاجئين الفلسطينيين تدريجياً ضمن بنية الدولة، لكن دون السماح بتحولهم إلى كتلة قادرة على تغيير طبيعة النظام السياسي أو الاقتصادي. أي موجة لجوء جديدة، خاصة من غزة، تعني إعادة إنتاج معادلة اللاجئين بنسخة أكثر تعقيداً، إذ أن التركيبة السكانية في غزة تختلف عن تلك الموجودة في الضفة الغربية من حيث الولاءات السياسية والانتماءات التنظيمية.
المخاوف السياسية: الخشية من زعزعة استقرار الحكم
في بُعدها السياسي، ترفض عمان التوطين خشية أن يؤدي ذلك إلى اختلال في ميزان القوى الداخلي. فالنظام الملكي في الأردن يعتمد في شرعيته على دعم العشائر الأردنية، التي تشكل العمود الفقري للمؤسسة الأمنية والعسكرية. أي تغيير ديموغرافي قد يُضعف هذا التوازن، ويؤدي إلى تصاعد المطالبات بتمثيل سياسي أوسع للفلسطينيين، مما قد يُدخل النظام في صدام مباشر مع مراكز قوته التقليدية.
كما أن الأردن لا يزال يحمل في ذاكرته تداعيات أحداث ما يسمى "أيلول الأسود" عام 1970، حين اصطدم الجيش الأردني مع الفصائل الفلسطينية التي حاولت تشكيل كيان مستقل داخل المملكة. ورغم أن الظروف تغيرت، إلا أن المخاوف من تكرار هذه السيناريوهات تظل حاضرة.
كما أن العلاقة بين الأردنيين والفلسطينيين تحمل في طياتها إرثاً من التعاون والتوترات المتبادلة. فعلى الرغم من أن الأردن هو الدولة العربية الوحيدة التي منحت الجنسية لأعداد كبيرة من الفلسطينيين، إلا أن ذلك لم يُلغِ التباينات السياسية والاجتماعية بين المكونين.
التوترات السابقة بين بعض العشائر الأردنية والمجموعات الفلسطينية خلال العقود الماضية جعلت من قضية التوطين خطاً أحمر، حيث تخشى النخب التقليدية في الأردن من أن يؤدي إدماج أعداد جديدة إلى تقليل نفوذها داخل النظام السياسي والاقتصادي. من ناحية أخرى، فإن الفلسطينيين أنفسهم، رغم اندماجهم في النسيج الاقتصادي، لا يزالون يشعرون بحدود غير معلنة على مشاركتهم السياسية، وهو ما يجعل أي تغييرات ديموغرافية محل قلق واسع داخل الأوساط السياسية الأردنية.
العلاقة مع حماس: معادلة أمنية حساسة
بُعد آخر يفرض نفسه بقوة على الموقف الأردني، وهو علاقته بحركة المقاومة الاسلامية- حماس. ورغم أن الأردن كان في فترة ما مقرًّا للحركة، إلا أن العلاقة بين الطرفين شهدت توترات، خاصة بعد إغلاق مكاتبها في عمان عام 1999، على خلفية ضغوط داخلية وخارجية.
السلطات الأردنية تدرك أن إدخال أعداد كبيرة من الفلسطينيين من غزة قد يعني عملياً السماح بوجود حاضنة جديدة لحماس داخل الأراضي الأردنية، وهو أمر غير "مرحّب به" حاليّاً، خاصة في ظل الحساسية الأمنية التي تحيط بالحدود الأردنية-الفلسطينية.
كما أي نشاط فلسطيني لدعم وترميم المقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلي، سيضع الاردن مجدداً في وجه إسرائيل التي تربطه معها اتفاقية تطبيع منذ عام 1994.
البعد الاقتصادي: عبء يفوق قدرة الدولة
إضافة إلى المخاوف السياسية والأمنية، يشكل الجانب الاقتصادي عاملاً حاسماً في رفض الأردن لمخطط التهجير. فالاقتصاد الأردني يعاني من مشكلات مزمنة، تشمل البطالة المرتفعة، المديونية المتزايدة، والاعتماد الكبير على المساعدات الخارجية. إدخال مئات الآلاف من اللاجئين الجدد يعني زيادة الضغط على البنية التحتية، الخدمات الصحية والتعليمية، وسوق العمل، وهو ما قد يؤدي إلى تصاعد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية.
يتعدى الرفض الأردني الموقف السياسي العابر أو التضامن مع القضية الفلسطينية، بل هو، كما تعتبره عمان، "استراتيجية وجودية تهدف إلى حماية استقرار المملكة" ومنع إعادة تشكيلها ديموغرافياً وسياسياً بما يخدم مشاريع تصفية القضية الفلسطينية. لذلك، فإن أي محاولات لإعادة طرح هذا السيناريو ستواجه بجدار صلب من المعارضة، مدعوماً بمعادلات إقليمية تجعل من فرض التوطين أمراً بالغ الصعوبة.