على المنبر، وقف الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، يخاطب جمهوره بعد عملية تحرير الأسرى عام 2004 محاطاً برجاله "المجهولين"، كما اختير لهم أن يكونوا. فجأة، كشف السيد عن هوية أحدهم "زيح يا أبو علي شوي". خَطوة واحدة إلى الوراء، وبقي في موقعه يرمي بنظره حشداً غفيراً مترامي الأطراف. بعد أكثر من 20 عاماً، يتكرر المشهد، لكن هذه المرة بوَقع مختلف. المرافق الأمني الحذر الذي نال ثقة "السيد" لأكثر من 3 عقود، يطل لصيقاً بنعشه الأصفر، محاطاً بالحشد الغفير نفسه، الذي بات ينظر إليه كرمزٍ صاغ تجربته الخاصة بالعمل الأمني.
لسنوات عدة، كان وجه "ابو علي" جزءاً من الصورة التي تحيط بالسيد، ولو أن فِرقاً عدة كانت تتولى مسؤولية أمنه وسلامته الشخصية، ليس فقط من الاستهداف المباشر بل من عمليات التعقب والتنصت وغيرها. حتى أن عدداً من شخصياتها ارتقى مع السيد الشهيد في العدوان الإسرائيلي، ولم يعرفها أحد بعد.
ثمة رجال لا تُذكر أسماؤهم إلا في الأحاديث المغلقة، ولا تظهر صورهم إلا في التقارير الأمنية السرية. هم أول من يسمع دوي الانفجار، وآخر من يغادر ساحة المواجهة. كل الدقائق بالنسبة إليهم واحدة، تأهب وحذر وعيون ترى من خلف الحجب. يسبقون القائد بخطوة، ويتراجعون وراءه بخطوتين.
في المعارك الكبرى، والمقاومة عكس الدول، كل معاركها كبرى، لا يكون المرافق الأمني مجرد عنصر حراسة. يعرف متى يتحرك، ومتى يسحب القائد إلى الخلف، ومتى يفتح النار. يتقن قراءة النظرات والإشارات، يدرك الفارق بين زائر يحمل رسالة وزائر يحمل خنجراً. في النماذج الكلاسيكية، يمكن استدعاء قصص رجال ظلّوا مع القادة حتى اللحظة الأخيرة: حراس الزعيم السوفياتي، جوزيف ستالين الذين لم يتركوه لحظة، فريق حماية الرئيس الأميركي جون كينيدي الذي فشل في إنقاذه، المرافقون الذين سقطوا مع الرئيس الليبي معمر القذافي في مجاري سرت، وحراس الرئيس العراقي صدام حسين الذين بقوا معه حتى لحظة الاعتقال، وفريق حماية الرئيس المصري أنور السادات الذي فشل باحباط عملية الاغتيال، وأردي قتيلاً.
لكن في هيكلية المقاومة، القصة مختلفة. حيث لا توجد "فرق حماية" يتم اختيارها على أساس الخبرة العملية فقط. هنا، الولاء ليس إجراءاً أمنيّاً، بل عقيدة. والمرافق الأمني ليس موظفاً ينتظر تقاعده، بل مقاتل يعرف أن دوره قد ينتهي برصاصة قنص، أو في غارة، أو حتى في كمين لا يُعرف كيف دُبِّر ولا من أين أتى. ولأن هذه العلاقة ليست محكومة بقواعد مؤسساتية جامدة، فإن اختيار المرافق الأمني يخضع لمعايير أشد تعقيداً من مجرد الكفاءة الأمنية. الولاء المطلق، القدرة على اتخاذ القرار في أجزاء من الثانية، الانضباط والسرية، المهارات في الاسعافات الأوليّة، اتقان القيادة الدفاعية والهجومية، الحضور القوي الذي يفرض نفسه دون أن يتحول إلى نقطة ضعف، التدريب المتخصص (كقراءة لغة الجسد وأساليب الحماية)، القابلية للعمل تحت ضغط هائل دون أن يختل الميزان. في بعض الأحيان، يكون رأي القائد نفسه هو العامل الحاسم في ترجيح كفة أحدهم.
ليس في المقاومة رجال أمن بروتوكوليون يقفون للعرض. هو رجل يتحرك في المساحات التي لا يراها الآخرون، في لحظات المواجهة، لا ينتظر أوامر مكتوبة، ولا يسأل عن التعليمات. وهذا ما يضع المرافق اللصيق بالقائد -المدعوم سراً بثلة أخرى من المرافقين غير الظاهرين- في خط الدفاع الأول. تماماً كـ "أبو علي".
حين انتشرت الأخبار عن استشهاده، لم يكن الأمر مفاجئاً. في قائمة الأسماء التي يبحث عنها العدو، هناك أشخاص لا يُسأل عن استهدافهم بـ"إذا"، بل بـ"متى" و"كيف". الحديث عن احتمال استشهاده في سوريا لم يكن مستبعداً، كما لم يكن مستبعداً أن يكون هدفاً فعليّاً أيضاً في الغارة التي استهدفت السيد نصر الله نفسه. لكن حين ظهر في التشييع في بيروت، تحولت المسألة إلى رسالة سياسية وأمنية أبعد من مجرد نفي خبر الاستشهاد. كان إعلاناً بأن الحرب على قيادة المقاومة ليست سهلة كما يعتقد العدو، وأن الذين يظن الإسرائيلي أنه "أسقطهم" قد يعودون للظهور، ليس بالضرورة لأنهم أحياء، بل لأن في المقاومة، لا يموت أحد فعلاً إلا عندما تُنسى سيرته.
لا يُعد "أبو علي" مجرد اسم في قائمة "الحرس الشخصي"، كما لم يكن يوماً، بل تحوّل إلى أيقونة داخل البيئة الحاضنة للمقاومة، ليس فقط بسبب دوره الأمني، بل بسبب ارتباطه بالسيد نصر الله لسنوات طويلة. في ثقافة المقاومة، الأسماء التي ترتبط بالقادة تكتسب رمزية خاصة، وهذا ما جعل ظهوره بين الناس لحظة نصر بحد ذاتها.
منذ عقود، فهم العدو أن حماية قادة المقاومة ليست مجرد إجراءات أمنية، بل هي جزء من العقيدة العسكرية للمقاومة نفسها. لهذا، عندما فشل العدو في استهداف القادة مباشرة، بدأ بمحاولة ضرب الدائرة الأمنية المحيطة بهم. يعرف الإسرائيلي أن قتل القائد ليس كافياً، بل يجب كسر الحلقات الأمنية، وإحداث فراغ في المنظومة التي تجعله محصناً.
في تشييع السيد، عندما هتف الناس باسم "أبو علي"، لم يكن ذلك مجرد رد فعل. كان تأكيداً أن حماية القادة هنا ليست مسألة إجراءات أمنية، بل هي جزء من العقيدة العسكرية نفسها. من يعتقد أن تصفية الأفراد تكفي لضرب المشروع، لم يفهم حتى الآن كيف تعمل المقاومة. المرافق ليس مجرد درع للقائد، بل جزء من بنيان يصعب كسره، كما يصعب كسر "رجال الظل" الذين أتقنوا الوجود في كل الأمكنة في وقت واحد، لحظة يكون القائد في المنتصف.