الثلاثاء 25 شباط , 2025 11:55

كيف انتصرت البيئة الحاضنة للمقاومة على جبهتين؟

لم تكن الحرب التي شُنّت على البيئة الحاضنة للمقاومة منذ 7 أكتوبر 2023 حرباً تقليدية. فكما كانت الصواريخ تنهال على غزة ولبنان، كانت الجبهة الرقمية تشهد قصفاً من نوع آخر: حملات مدروسة، ممولة، مكثّفة، تهدف إلى زعزعة الثقة، تفكيك التماسك، وإحداث شرخ في الوعي الجمعي. لكن بعد أكثر من أربعة أشهر على اندلاع هذه الحرب، كانت النتيجة واضحة: المقاومة لم تهزم، لأن بيئتها تعرف فعلاً.

ابتداءً من اليوم الأول للحرب، كان هناك استنفار غير مسبوق على منصات التواصل الاجتماعي. إحصائيات شركة Graphika الأميركية كشفت أن ما يزيد عن 350 ألف حساب، معظمها حديث الإنشاء، عمل بشكل متزامن على نشر محتوى يهدف إلى التشكيك في أخلاقيات المقاومة، وتصويرها كعبء على بيئتها الشعبية. خلال الأسبوع الأول، كان هناك ارتفاع بنسبة 700% في المنشورات التي تروج لرواية أن المقاومة "جرّت لبنان إلى الحرب"، في مقابل انخفاض المنشورات الداعمة بنسبة 45% بسبب سياسة التقييد والحذف التي فرضتها الشركات التكنولوجية الكبرى.

مع تصاعد وتيرة الحرب، انتقلت الحملة من محاولة تقويض شرعية المقاومة إلى استهداف معنويات بيئتها. فجأة، بدأ تداول "تسريبات" عن انقسامات داخلية، وعن شخصيات في الصف الأول للمقاومة تسعى لـ "الخروج من المعركة". تم استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لإنشاء مقاطع مزيفة، وصور معدلة، وأخبار منسوبة إلى مصادر إعلامية وهمية. لكن هذه الحرب، رغم كثافتها، لم تُحدث الأثر المطلوب.

في 25 كاونو الثاني/ يناير عام 2025، اعتقد خصوم المقاومة أن ضربتهم الرقمية قد أثمرت، وأن البيئة الحاضنة باتت في أضعف حالاتها. لكن مع بدء تشييع الشهيد الأممي السيد حسن نصر الله، كان هناك حدث قلب كل الحسابات: خلال ساعات، تدفقت مئات الآلاف من الجماهير إلى الضاحية الجنوبية، رغم التحذيرات الأمنية، رغم كل محاولات التهويل الإعلامي.

وفق الدولية للمعلومات، وصل عدد المشاركين إلى 900 ألف مشيّع من لبنان والخارج ومن مختلف الطوائف. أما على مواقع التواصل، فرغم الحظر، فقد شهدت وسم #نصر_الله_باقٍ أكثر من 12 مليون تفاعل خلال 24 ساعة فقط. عند هذه اللحظة، تبيّن أن الحرب الرقمية قد خسرت أهم معاركها: التأثير على الوعي الجمعي.

ما جرى خلال الحرب ليس ظاهرة معزولة. فالتجارب السابقة تؤكد أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت أداة حاسمة في توجيه الرأي العام، وأحياناً في صناعة الأحداث السياسية نفسها.

انتخابات لبنان 2022: وفق دراسة أجراها المعهد اللبناني للدراسات الإعلامية، فإن 62% من الناخبين اللبنانيين تأثروا بمحتوى شاهدوه على مواقع التواصل الاجتماعي قبل اتخاذ قرارهم الانتخابي، فيما قال 27% إنهم غيّروا مرشحهم المفضل بناءً على حملات إلكترونية.

انتخابات تونس 2019: كشفت دراسة لمعهد Carnegie أن 41% من الناخبين التونسيين تعرضوا لمعلومات مضللة على فيسبوك قبل التصويت، وأن الحسابات الوهمية الممولة لعبت دوراً رئيسياً في تعزيز بعض المرشحين.

الانتخابات الأميركية 2016: بحسب تحقيقات الكونغرس الأميركي، فإن 126 مليون أميركي شاهدوا محتوى مفبركاً على فيسبوك وتويتر-اكس استُخدم للتأثير على نتيجة الانتخابات لصالح دونالد ترامب.

هذه الوقائع تؤكد أن السيطرة على السردية الرقمية لم تعد مجرد تفصيل هامشي، بل هي معركة بحد ذاتها.

ما ميّز البيئة الحاضنة للمقاومة عن تجارب أخرى هو أن الوعي الجمعي لديها لم يكن هشاً. فالمقاومة، على مدى عقود، لم تكن مجرد مشروع عسكري، بل كانت مشروعاً فكرياً وثقافياً وإعلامياً. المجتمع الذي خاض مواجهات إعلامية منذ عام 2000، وواجه دعاية مكثفة خلال حرب 2006، لم يكن سهل الاختراق.

كما أن طبيعة الصراع نفسه منعت نجاح الدعاية الرقمية: فالمقاومة لم تكن تخوض معركة انتخابية، بل معركة وجود. والمجتمعات التي تخوض معارك وجودية لا تُخدع بسهولة، لأن التجربة الحسية تغلب الدعاية الافتراضية.

رغم فشل الحملة الأخيرة، لا يعني ذلك أن المعركة انتهت. فالتطور السريع في تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتصاعد دور المنصات الرقمية في تشكيل الرأي العام، سيجعلان المواجهة أكثر تعقيدًا في المستقبل. لكن ما أثبتته هذه الحرب هو أن المجتمعات التي تمتلك ذاكرة جمعية قوية، وتاريخاً من المواجهات، لا يمكن التلاعب بوعيها بسهولة، مهما كانت الأدوات المستخدمة.


الكاتب:

مريم السبلاني

-كاتبة في موقع الخنادق.

-ماجستير علوم سياسية.




روزنامة المحور