الإثنين 21 نيسان , 2025 08:56

موسكو- واشنطن- كييف في حسابات الربح والخسارة

في الأسابيع الأخيرة، تسربت تقارير غربية تفيد بوجود مفاوضات جدّية تدور خلف الكواليس بين روسيا وأوكرانيا، بوساطة غربية وأدوار متفاوتة للولايات المتحدة، تركيا، والصين. المؤشرات المتراكمة توحي بأن الأمور تتحرك نحو "اتفاق جزئي"، يتضمن خطوطاً حمراء غير قابلة للمساس، وأخرى مرنة قابلة للتفاوض. المفارقة أن أكثر العواصم حماسة لنجاح هذا الاتفاق ليست كييف ولا موسكو، بل واشنطن.

بحسب تقارير استخباراتية نشرتها واشنطن بوست وبيلد الألمانية، فإن مسودات اتفاق أولي نوقشت فعلاً، وتتناول ثلاث نقاط رئيسية:

-تجميد النزاع على خطوط التماس الحالية دون اعتراف أوكراني رسمي بسيطرة روسيا على أراضٍ شرق البلاد، بما فيها دونيتسك ولوغانسك، مع ترك مصير شبه جزيرة القرم "مؤجلاً".

-ضمانات أمنية غربية لأوكرانيا شبيهة بنموذج إسرائيل: لا عضوية رسمية في الناتو، لكن تسليح وتدريب دائم، ومساعدات عسكرية نوعية.

-اتفاق اقتصادي موازٍ يسمح لأوكرانيا بتصدير المعادن النادرة (الليثيوم، التيتانيوم...) إلى أوروبا والولايات المتحدة، مقابل تمويل إعادة الإعمار، واستثمارات ضخمة في البنية التحتية.

الملف الأخير -أي المعادن- ليس تفصيلاً، بل أحد المحركات الخفية للصراع. فأوكرانيا تملك ثاني أكبر احتياطي لليثيوم في أوروبا، ما يجعلها فاعلاً استراتيجياً في سباق الطاقة المستقبلية، لا سيما مع تحول العالم نحو السيارات الكهربائية.

من وجهة نظر الكرملين، الحرب حققت بعض أهدافها الاستراتيجية: إسقاط حلم أوكرانيا بالانضمام إلى الناتو، زعزعة ثقة الغرب في القدرة على ردع روسيا، وكشف هشاشة البنية الاقتصادية الأوروبية أمام حرب طويلة. ومع ذلك، فإن ثمن الحرب بدأ يرتفع داخلياً.

فبوتين يعرف أن الاستمرار في استنزاف الجيش الروسي قد يتحول إلى أزمة داخلية إذا لم يُتوَّج بإنجاز سياسي. لذلك، تسعى موسكو اليوم إلى اتفاق يُكرّس بحكم الأمر الواقع السيطرة على القرم وأقاليم الشرق، دون اشتراط اعتراف أوكراني رسمي، مع مكاسب اقتصادية تتضمن رفعاً جزئياً للعقوبات الغربية، خصوصاً في مجال تصدير الطاقة والأسمدة.

هنا يكمن لبّ المسألة. فالولايات المتحدة، وإن كانت تتظاهر بدعم مطلق لأوكرانيا، بدأت تعاني من تآكل داخلي سياسي واقتصادي جراء الحرب. الجمهوريون في الكونغرس يطالبون بخفض التمويل العسكري لأوكرانيا، والرأي العام الأميركي بدأ يتساءل: لماذا ننفق مئات المليارات على حرب لا تمسّ أمننا القومي مباشرة؟ لذلك يبدو أن واشنطن مستعدة للتغاضي عن مسألة القرم، أو على الأقل تجميدها، شريطة أن يظل النفوذ الأميركي قائماً في كييف، وأن لا تتحول أوكرانيا إلى منطقة نفوذ صيني أو روسي كامل.

الاعتراف الرسمي بالسيطرة الروسية على القرم لن يأتي على لسان البيت الأبيض، لكنه قد يُمرّر ضمنياً من خلال "عدم التطرق" إلى مصير القرم في أي اتفاق سلام. وهي صيغة سبق أن استُخدمت في نزاعات أخرى، مثل كوسوفو أو تايوان.

الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي يواجه معضلة وجودية. فقبول اتفاق لا يعيد جميع الأراضي يعني نهاية شرعيته في نظر القوميين والجيش. أما الرفض، فهو تهديد بانهيار الدعم الغربي، وبالتالي انكشاف أوكرانيا أمام الحرب الروسية.

في خطاباته الأخيرة، بدأ زيلينسكي يلمّح إلى "حلول دبلوماسية" و"مرحلة جديدة من المعركة"، وهو ما يفسره مراقبون على أنه تمهيد نفسي لتنازلات قادمة، سيتم تغليفها بلغة وطنية فضفاضة، من نوع "تجميد الصراع لصالح الأجيال القادمة".

إذا نجح الاتفاق -وهو احتمال قائم لكنه هش- سنكون أمام مشهد دولي جديد:

-روسيا ستخرج منتصرة استراتيجياً، رغم الكلفة البشرية والعسكرية، مع اعتراف ضمني بنفوذها في البحر الأسود.

-أوكرانيا ستحصل على ضمانات وجود، لكنها ستتحول فعلياً إلى دولة شبه عسكرية غربية، تشبه كوريا الجنوبية في علاقتها بالولايات المتحدة.

-واشنطن ستسوق الاتفاق كنصر دبلوماسي، وتعيد توجيه اهتمامها نحو الصين والشرق الأوسط، مع الإبقاء على أوكرانيا كورقة ضغط جاهزة.

-أوروبا ستحاول ترميم اقتصادها، وتعزيز صناعاتها العسكرية، بعد أن اكتشفت مدى هشاشتها أمام الحروب الطويلة.

الحرب الروسية-الأوكرانية تدخل مرحلة جديدة، عنوانها: التفاوض على أنقاض السرديات الكبرى. لا انتصار نقياً، ولا هزيمة كاملة. بل حسابات متشابكة تتقاطع فيها الجغرافيا مع المعادن، والتاريخ مع الغاز، والسيادة مع المعونات.


الكاتب:

مريم السبلاني

-كاتبة في موقع الخنادق.

-ماجستير علوم سياسية.




روزنامة المحور