الجمعة 25 نيسان , 2025 03:12

بين مستوطنة جيلو وشتيمة عباس، كيف يُخنق الوطن وتُفرغ القيادة؟

محمود عباس ومستوطنة جيلو

في الوقت الذي كانت فيه الجرافات الإسرائيلية تمهد لتوسعة مستوطنة "جيلو" على أراضي بيت جالا، كان محمود عباس يخاطب حماس بلغة سوقية لا تليق بموقع ولا بشعب: "يا أولاد.… سلّموا الرهائن وسدّوا الذرائع". وبين ما يحدث على الأرض من توسيع للاستيطان، وما يصدر من رام الله من شتائم، تتضح صورة فلسطين الراهنة: أرض تُلتهم باسم "الأمن"، وقيادة تُفرغ النضال من مضمونه باسم "الشرعية".

هذا المقال لا يكتفي بتتبع الخرائط الجديدة التي ترسمها أدوات الاحتلال جنوب القدس، بل يسعى إلى فهم كيف يُصادق الخطاب الرسمي الفلسطيني على هذه الخرائط، من خلال تبني رواية "الذرائع"، وتحويل المقاومة إلى أزمة، بدل كونها ردًا على الاحتلال.

توسعة جيلو – من تلال بيت جالا إلى سجون الجيوب الفلسطينية

المشروع "الإسرائيلي" لبناء 1900 وحدة استيطانية جنوب شرق مستوطنة "جيلو"، ليس مجرد توسعة عمرانية، بل استراتيجية عزل متعمدة، تنسف ما تبقى من تواصل جغرافي بين بيت لحم والقدس. الهندسة الاستيطانية هنا تشتغل كبنية استراتيجية: توسيع جيلو لربطها بهار غيلو وغوش عتصيون، شق طرق التفافية لعزل بيت جالا عن امتدادها الطبيعي، وتحويل الفلسطينيين إلى سكان بلا محيط.

ليست "جيلو" مستوطنة كغيرها. منذ بداية بنائها على أراضي بيت جالا بعد احتلال 1967، استخدمتها "إسرائيل" كحزام أمني، ثم تحوّلت تدريجيًا إلى نقطة ارتكاز لتوسيع السيطرة على الجنوب. والآن، في ظل اليمين "الإسرائيلي" الأكثر تطرفًا، تتحوّل إلى رمز لاستعمار بنيوي لا رجعة فيه.

شتيمة محمود عباس – هل تكفي الذريعة لتبرير الاحتلال؟

في المقابل، يقدّم محمود عباس نموذجًا معاكسًا للخطاب الوطني، حين يعتبر وجود الرهائن لدى حماس هو الذريعة التي تتيح "لإسرائيل" ارتكاب المجازر. بهذا الخطاب، يتحوّل الاحتلال إلى نتيجة، والمقاومة إلى سبب. وهذا ليس زلة لسان. فالرئيس الفلسطيني يقرأ خطابه المكتوب، ويعرف جيدًا ما يقول.

لكن الواقع أعمق من الخطاب. منذ أوسلو، لعبت السلطة دور "الوسيط" بين الشعب الفلسطيني والاحتلال. ومع الزمن، تقلّص دورها السياسي ليتحوّل إلى دور أمني إداري. تصريحات عباس ليست نشازًا، بل تعبيرًا عن أزمة وظيفة: وظيفة تحكم وتضبط، لكنها فقدت القدرة على الإقناع أو التأثير.

فالسؤال الجوهري هنا: هل تحتاج "إسرائيل" إلى ذرائع أصلاً؟ هل كانت بحاجة إلى ذريعة لتهجير سكان اللد ويافا وعكا وتل الربيع …وغيرها عام 1948؟ هل توقّف الاستيطان يومًا بغياب العمليات الفلسطينية؟ هل عجزت آلة الاحتلال عن إيجاد ذرائع لتدمير جنين أو اجتياح نابلس؟

الإجابة معروفة: "إسرائيل" لا تعمل ضمن منطق الذرائع، بل في إطار مشروع إحلالي طويل الأمد، تستخدم فيه الذرائع خطابيًا لتجميل جريمتها أمام الغرب، لا أكثر. من هنا، يصبح خطاب عباس – الذي يطالب الفلسطيني بنزع سلاحه وإخلاء الساحة من "الذرائع"– مجرد انخراط واعٍ في عملية تبييض مستمرة للجرائم الصهيونية.

حيث أن هذا الخطاب الذي يدعو لتسليم الرهائن لا يهدف لوقف القتل، بل لتبرير الصمت عنه. فالاستيطان لا ينتظر ذرائع. وتهويد القدس لم يتوقف في زمن الهدنة. وقتل الأطفال لم يبدأ مع 7 تشرين الأول. هذا ما يعرفه عباس… لكنه مع ذلك يعيد إنتاج منطق الذرائع، كأن الدم الفلسطيني رهينة في يد المقاومة، لا في فوهة البندقية "الإسرائيلية".

تكامل الاستيطان والخطاب الرسمي – بنية واحدة بوجهين

ما يجمع بين توسعة "جيلو" وشتيمة عباس، هو أنهما جزآن من منظومة واحدة: الأولى تغيّر الواقع الميداني، والثانية تغيّر الرواية الفلسطينية. الجرافات تبني جدارًا في الأرض، والشتائم تبني جدارًا في الوعي.

إنّ أخطر ما في مشروع "جيلو" ليس عدد الوحدات، بل سياقها: إنها تأتي وسط تصعيد عسكري في جنين، ووسط صمت عربي ودولي. وأخطر ما في خطاب عباس ليس الشتيمة بحد ذاتها، بل ما يليها: تحميل المقاومة مسؤولية العنف، وتبرئة الاحتلال من بنيته الاستعمارية.

 الخرائط الجديدة تُكتب الآن – فأين القيادة؟

بين جدار بيت جالا والطرق الالتفافية، تُصاغ خرائط جديدة. والسلطة، بدل أن تُقاومها، تُقدّم لها غطاء شرعيًا عبر خطاب "الاعتدال". فهل من يطالب بتسليم الرهائن قادر على منع تسليم الأرض؟

الردود الدولية خجولة، والسلطة الفلسطينية تمارس "دبلوماسية الإدانة"، دون تحرّك قانوني أو دولي حقيقي. بينما تُكمل "إسرائيل" مشروعها: تحويل الضفة الغربية إلى شبكة من الكانتونات المفصولة والمعزولة، محمية بالجدران، ومراقبة بالكاميرات، ومحاصَرة بخطاب التبرير.

خاتمة: المشروع الاستيطاني لا يحتاج إلى ذرائع… بل إلى شركاء صامتين

ليس عبثًا أن تتزامن توسعة جيلو مع تصريحات عباس. ولا يمكن فصل الخرائط التي تُرسم على الأرض عن الرواية التي تُرسم في الكلام. فالمشروع "الإسرائيلي" لا يحتاج فقط إلى جرافات، بل إلى شرعية خطابية تغطيه. ومع ضعف المجتمع الدولي، وصمت النخب العربية، يتحوّل صوت السلطة إلى أهم أدوات الاحتلال الناعمة.

في هذا السياق، لا يبدو عباس شريكًا في المفاوضات، بل طرفًا يُستخدم لتفكيك المقاومة، وتحويل النضال إلى "تشويش سياسي". إنّه يؤدي وظيفة، لا دورًا. وظيفة تبدأ من التنسيق الأمني، وتنتهي بتغطية الاستيطان بالذرائع، وبتحويل الشتيمة إلى سياسة.

ويبقى السؤال: إذا كانت القيادة تتخلّى عن المقاومة، وعن الأرض، وعن وحدة الشعب… فعمّن تدافع؟ ومن تمثّل؟ وماذا تبقّى من المشروع الوطني الفلسطيني، إن لم يكن له جغرافيا… ولا خطاب؟


الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]




روزنامة المحور