في مقال الأمس بعنوان "الاختراق الناعم: استراتيجية العدو لتطبيع وجوده في المجتمعات الهشّة"، تم تناول مفهوم الخرق الناعم كأداة استعمارية يعتمدها العدو، لا بوصفها هدفاً نهائياً بل وسيلة تمهّد لإخضاع الشعوب من الداخل. اليوم، سننتقل من الإطار النظري إلى الواقع، عبر نموذج واقعي يتمثل في الحالة اللبنانية، لتظهير كيف يُمارَس هذا النوع من الخرق على الأرض، وما الذي يترتّب عليه من نتائج على مستوى الوعي والانقسام الداخلي، لاسيما فيما يخصّ الموقف من المقاومة وسلاحها.
النموذج اللبناني:
لبنان بلد مركّب، يتّسم بتنوع طائفي وسياسي حاد، غير أن هذا التنوع الممزوج بموقع لبنان الحساس، جعله عرضة دائمة للتأثر بالتحوّلات الإقليمية، لاسيما تلك المتصلة بوجود الاحتلال "الإسرائيلي" في فلسطين المحتلة. من هنا، نشأ الانقسام في الرؤية اللبنانية حيال العدو وطبيعة التعامل معه، بين فئة تنادي بالسلام وترفض الحروب، وفئة أخرى ترى أن السلام لا يمكن أن يُبنى مع محتلٍّ يخطط لابتلاع المنطقة. ويبدو بأن العدو برصده الحثيث للمشهد اللبناني منذ بداياته الاستيطانية، التقط هذا التباين كنقطة ضعف يمكن استغلالها. فراح يعمل على تغذيتها وتوسيعها، عبر أدوات إعلامية وسياسية وثقافية، بهدف تحقيق خرق ناعم في بنية المجتمع اللبناني. وكما ذُكر سابقاً أن العدو يقوم بعملية الخرق الناعم بناءً على حالة الدولة والنقاط الهشة فيها التي يمكن من خلالها التغلغل وإحداث الاختراق -أي أن ليس للخرق قاعدة واحدة ثابتة يطبقها في كل المجتمعات-.
كيف بدأ الخرق الناعم في لبنان؟
ابتداءً من ثمانينيات القرن الماضي، عانى الواقع اللبناني، وتحديداً الشيعي منه، من واقع بالغ القسوة، لاسيما في المناطق الجنوبية والقرى الحدودية. أبناء هذه المناطق كانوا في مواجهة دائمة مع العدو "الإسرئيلي"، فتعرضوا للحرمان من أبسط الحقوق. في موازاة ذلك، كان الشيعة في لبنان يعانون من التهميش الاجتماعي والسياسي، ويُنظر إليهم من بعض الفئات الأخرى كأنهم خارج المعادلة الوطنية، ما ولّد شعوراً بالقهر. ردّة الفعل الطبيعية على هذا القهر المتراكم تمثلت في بروز حركات مقاومة. ابتدأت مع حركة المحرومين التي أسسها الإمام موسى الصدر، وتطوّرت لاحقاً إلى نموذج المقاومة الإسلامية الذي يمثله حزب الله. بروز هذه الحركات كان تعبيراً طبيعياً عن حاجة جماعة بكاملها إلى حماية نفسها وصون كرامتها ووجودها. هذا المسار المقاوم شكّل عائقاً كبيراً أمام المشروع الاستعماري "الإسرائيلي" في لبنان. فكان لا بد للعدو من البحث عن وسائل جديدة لاختراق هذا الواقع، من دون اصطدام مباشر، فاختار الخرق الناعم. في البداية، بدأ بمراقبة واقع القرى الحدودية، التي تتنوع طائفياً واجتماعياً، وسعى إلى التسلّل إليها بصفة "الجار المنفتح"، الذي "لا يبتغي الشرّ لأحد". ركّز على الثغرات الاقتصادية، فعرض فرص عمل برواتب مغرية داخل فلسطين المحتلة، في الزراعة أو معامل الخياطة أو غيرها من المهن التي لا توحي بخدمة مباشرة للعدو. الهدف كان خلق تطبيع اقتصادي-اجتماعي، يبدأ على شكل مصلحة فردية "بريئة"، وينتهي بتطويع بيئة بأكملها وإخضاعها تدريجياً.
لكن العدو لم يتمكن من المضي في مشروعه كما أراد، إذ إن ولادة حركات المقاومة في لبنان شكّلت عائقاً بنيوياً أمام تحقيق غاياته. هذه الحركات، وفي طليعتها المقاومة الإسلامية، لم تكتفِ بردّ الفعل العسكري، بل خاضت معركة تثقيف ووعي عميقة، استهدفت كشف أهداف العدو وأساليبه، وربطت بين أي شكل من أشكال التعاطي معه وبين مفهوم الخيانة الوطنية، واعتبرت أن ذلك يصبّ مباشرة في خدمة مشروعه الاحتلالي والاستعماري. من هنا، بدأت البيئة الحاضنة لحزب الله بالتبلور تدريجياً، وتكوّن لديها وعي واضح بأن العدو يهدف إلى تفكيك المجتمع من أساساته، مستغلاً نقاط الضعف والحاجة. المقاومة إذاً انخرطت في مشروع حماية المجتمع ثقافياً، وكشفت خلال عملها عن الغايات غير المرئية التي حاول العدو طمسها.
البيئة الخاضعة
في المقابل، ظلت هناك فئة داخل لبنان واقعة تحت تأثير الخرق الناعم، فتبنّت سردية العدو القائلة بإمكان تحقيق "السلام" معه، معتبرة أن لبنان بلد صغير لا يحتمل مزيداً من الحروب، وأن من العبث الدخول في مواجهة مع طرف يمتلك ترسانة عسكرية ضخمة، وفق مقولة "العين لا تقاوم المخرز". تلك الفئة، راحت تنسج سلسلة من المغالطات الخطيرة، متهمةً المقاومة بأنها تعرّض الأمن الوطني للخطر، وبأن سلاحها غير شرعي ولا جدوى منه، بل يُستخدم – وفق روايتها – لإقحام لبنان في صراعات لا طائل منها. وبدلاً من قراءة سلوك المقاومة في سياق حماية البلاد وردع الاعتداءات، راحت هذه الجهات تتجاهل حقيقة أن العدو هو من يحتل ويخطط ويخرق، وأن المقاومة نشأت كفعل دفاعي. وعند كل مفصل سياسي أو أمني، تعاود هذه الفئة شن حملة من الاتهامات المعلّبة، في محاولة لإسقاط صورة المقاومة وتشويه مشروعها، متناسية أن البديل الحقيقي عن المقاومة ليس "السلام" بل الاستسلام، وأن ما يُعرض على لبنان، في حال تخلى عن مقاومته، هو أن يتحوّل إلى مجرد هامش تابع، أو حديقة خلفية للعدو.
وعي مضاد
واجهت البيئة الحاضنة محاولات لخرق وعيها، فتمت المواجهة من خلال التحصين الثقافي، حيث كان للمقاومة دور في تعزيز الوعي الجماعي، والتبيين المستمر لطبيعة حركة هذا العدو الاستعمارية وغدره، ما جعل لدى هذه البيئة حصانة راسخة. وقد تجلّى ذلك عبر إنجازات متراكمة، منها تحقيق الأمن، وكشف شبكات التجسس والعملاء، فضلاً عن إحباط محاولة جديدة مؤخراً، تمثلت في السعي لإدخال شحنة مفخخة أُخرى من أجهزة "البايجر". إلى جانب ذلك، تمسكت هذه البيئة برفض التطبيع، والتأكيد الدائم على أحقية القضية الفلسطينية، وعلى ضرورة التمييز بين الحق والباطل، وبين ما يخدم العدو وما يؤذيه، مع التشديد على أن هذا العدو دخيل على المنطقة، ولا يمكن أن يصبح يوماً مألوفاً فيها. كما رفضت وجوده وسياساته واعتداءاته، ووقفت إلى جانب غزة في الحرب الأخيرة، وساهمت في رفع الخطر عن لبنان. ومن المهم الإشارة إلى أن الخرق حاصل حتى في أكبر المنظومات، لكن الهدف يكمن في تقليل نسبته، والتعامل معه من خلال إنشاء وعيٍ مضاد يحاربه. وهنا تتجلى أهمية البيئة الحاضنة التي أصبحت تملك هذا "المضاد"، ما يعيق عمل العدو في كل مرة ويُفشل مخططاته.
الكاتب: غرفة التحرير