فشل المخططون للعدوان الإسرائيلي الأمريكي على الجمهورية الإسلامية في إيران، في تحقيق ما كانوا يطمحون إليه من أهداف لهذا العدوان، وعلى رأسها إخضاع النظام الإسلامي، من خلال تدمير البرنامج النووي، والقضاء على القدرات العسكرية الصاروخية المتطورة.
وبالإضافة الى ذلك، فإن مسلسل خيباتهم وخسائرهم لن يقف عند الحد الذي انتهت اليه المواجهة العسكرية المباشرة فقط، بل سيستمر بالتزايد في المرحة المقبلة، لأن إيران بشعبها ونظام حكمها، خبروا خلال هذه الحرب غدر المعسكر الأمريكي الغربي، الذي استخدم وكالة الطاقة الذرية الدولية كأداة لتحوير الحقائق وتبرير العدوان، وبالتالي صار من حق الجمهورية الإسلامية الرد على هذا الأمر بسحب الثقة من هذه الوكالة الدولية، وأن تشرع بسياسة الغموض النووي.
فبعد عقد من سياسة الشفافية القصوى من الجمهورية الإسلامية في إيران، والتفاوض والاتفاقات والالتزام فوق المطلوب - بكل المعاهدات الدولية المتعلقة بالحد من انتشار الأسلحة النووية، لم تحصل إيران إلا على الاغتيالات والعقوبات (الأحادية الجانب) والحرمان من حقوقها المكتسبة وأخيراً على العدوان (الذي لم تصدر أي إدانة من قبل مؤسسات المجتمع الدولي). والأمر المثير للسخرية أكثر مما يُسمى بالمجتمع الدولي، هو أن الطرف الذي نفّذ العدوان على إيران هو الكيان المؤقت، الذي يمتلك سلاحاً نووياً والذي لم يمتثل لأي قوانين ومعاهدات دولية حول هذا الأمر.
لذلك كانت أولى خطوات طهران في هذا الشأن، إحاطة برنامجها بجدار كثيف من الغموض غير المسبوق، وأن تحدّ من دائرة الرقابة الدولية، وتسحب مفتشي الوكالة الذرية، وتنقل مخزونها النووي إلى "أماكن آمنة"، تاركة المعتدين في حيرة مما تمتلكه ومما قد تخطط له. فسياسة "الغموض النووي" تشير إلى حالة تتعمد فيها دولة ما، عدم الإفصاح الكامل عن قدراتها ونواياها النووية، أي الانتقال من برنامج شفاف خاضع للرقابة الدولية إلى إبهام يصعب فيه تحديد العديد من النقاط لا سيما: حجم التقدم التقني أو كمية المواد الانشطارية، أو نوايا الاستخدام المدنية أو العسكرية، وهو ما يعرف في الأدبيات الإستراتيجية بـ"مرحلة العتبة النووية الغامضة".
بعض الملاحظات المهمة حول سياسة الغموض النووي
1)من المعلوم بأن إيران بارعة في إحاطة قدراتها الحقيقية بالغموض – في كل المجالات لا سيما الحيوية والعسكرية منها – إلا أنها كانت صريحةً وشفافة بشكل كبير في الموضوع النووي، ولأنها لا تريد استخدام البرنامج إلا في الجوانب السلمية منه. لكن بعد اندلاع الحرب المفروضة عليها، ستمتد سياسة الغموض الى الجزء النووي، بما سلسلة الصناعة النووية بأكملها، وكان أبرز تجلياتها وقف التعاون مع الوكالة.
2) فيما يتعلق بالحفاظ على الردع النووي، هناك احتمالٌ أيضًا أن تتجه البلاد نحو اعتماد تكتيكات جديدة (لا يُقصد من هذا الأمر موضوع صناعة السلاح النووي، لأن هذا الأمر مرتبط فقط بقرار قائد الثورة الإسلامية الإمام السيد علي الخامنئي)، لأن الخطط في هذا المجال متنوعةٌ أيضًا.
3)مرحلة الغموض النووي ستعقد الحسابات الأمنية الإقليمية، وتضع مفاوضات الاتفاق النووي -إن أعيد إحياؤها- على مسار مختلف كليا عن الجولات السابقة. وما بين احتمالات التصعيد وسوء التقدير الإستراتيجي وسباق التسلح المحتمل، عندها ستواجه المنطقة سيناريوهات مفتوحة.
4)هذه السياسة ستجعل أجهزة الاستخبارات الغربية والاسرائيلية عمياء تمامًا. والجميع يعلم بأن إسرائيل – وأمريكا - استفادت من الشفافية الإيرانية في تعاملها مع وكالة الطاقة الذرية الدولية لكي تعلم حقائق وأسرار البرنامج النووي الإيراني، ولكي تحصّل معلومات استخباراتية حول مدى تطوّر القدرات الفنية، وحول العلماء الذين تم اغتيالهم خلال الأعوام السابقة أم حتى خلال العدوان الأخير.
5)هذا "الغموض المتعمد" سيستخدم حتماً كأداة لتعزيز القوة التفاوضية، وكأداة ردع من خلال خلق حالة من الشك لدى الخصوم، بحيث يؤدي غياب المعلومات الدقيقة إلى عجزهم عن اتخاذ قرارات حاسمة بشأن مستوى التهديد، وهذا ما يزيد من تكلفة أي عدوان محتمل، ويجعل الغموض أداة ردع وضغط دبلوماسي فعالة.