الإثنين 04 آب , 2025 03:18

"إسرائيل" تحاصر أسراها وتحاكم من لا يملك الطعام

أسير إسرائيلي مجوع لدى حماس

في سردية محكمة ومتكاملة، غالبًا ما تروّج "إسرائيل" لنفسها كمنارة للديمقراطية في "شرق أوسط مضطرب". لكنها، في حقيقتها البنيوية، تعبير معاصر عن نظام استعماري استيطاني إحلالي يتقن التلاعب بالصور والمفاهيم، ويحوّل الضحية إلى جلاد، والمحتل إلى ضحية، والمقاوم إلى إرهابي. المشهد الأخير من هذه المسرحية السوداء تمثل في "محاكمة" حماس على تجويع أسرى "إسرائيليين"، بينما الحقيقة أن من جاع فعلًا هو شعب بأكمله، محاصر منذ قرابة أكثر من عام ونصف تحت القصف والدمار والحصار، دون طعام أو دواء أو ماء… أو حتى هواء.

لكن الأسوأ أن "إسرائيل"، لا تكتفي بتجويع غزة، بل تجوّع حتى أسراها هناك. إنها مأساة داخل مأساة، مسرح عبثي ينكشف فيه نظام كولونيالي يحاصر أسراه داخل حصاره لغزة، ثم يصرخ طالبًا "الرعاية الطبية" لمن هم في قلب هذا الجحيم من صنعه.

مسرحية الأسرى: إسقاط أخلاقي مريع

في تصريحات أبو عبيدة، الناطق العسكري باسم كتائب القسام، ما يكفي لهدم كل ادعاء "أخلاقي إسرائيلي". فالرجل لم يعلن فخرًا بإذلال الأسرى، بل أعلن استعدادًا لتسليمهم مساعدات إنسانية شريطة أن تفتح "إسرائيل" الممرات الإنسانية لأبناء غزة. أي أن فصائل المقاومة في غزة لا تساوي بين الأسرى وشعبها فقط، بل تطالب بمعاملة إنسانية موحّدة في شروط الموت.

من جهة أخرى، تُظهر مشاهد الفيديو التي بثتها القسام وسرايا القدس مشهدين لهزال إنساني فادح. لا يشبه ذلك التعذيب "الإسرائيلي" في سجون النقب وجلبوع وعسقلان، حيث يُضرب الفلسطينيون يوميًا، بل يُظهر ما قد يتعرض له إنسان حين يُحاصر ويُمنع عنه الطعام. الأسرى "الإسرائيليون" في غزة ليسوا مستهدفين، بل هم مجرد جزء من نظام عقاب جماعي فرضته "إسرائيل" على الجميع.

هنا تنقلب المعادلة: ليس حارس السجن من يقرر توزيع الطعام، بل السجين الذي يحاول اقتسام فتات الخبز بين من معه، سواء كان فلسطينيًا أم "إسرائيليًا". هل هناك ما هو أكثر نزعًا للإنسانية من ذلك؟ وهل ثمة ما هو أعمق في كشف البنية الأخلاقية المتهاوية لدولة الاحتلال؟

الإعلام الغربي: تعمية متعمدة

تلقفت معظم وسائل الإعلام الغربية فيديوهات الأسرى "الإسرائيليين" بنبرة هستيرية: "هذا إثبات على جرائم حماس"، "يجب التدخل فورًا لإنقاذ الرهائن"، "الوقت ينفد". لكنها تتجاهل السياق الأوسع: غزة تحت الحصار منذ أكثر من عام، والمجتمع هناك مهدد بمجاعة جماعية بحسب تقارير الأمم المتحدة، والصليب الأحمر نفسه ممنوع من الوصول.

حين تنقل كاميرات القسام مشهد أسير هزيل، فذلك لا يختلف عما تنقله كاميرات البي بي سي عن أطفال الشجاعية وهم يبحثون عن رغيف خبز، أو عن أطفال مستشفى كمال عدوان الذين يُحرمون من الحليب والأكسجين. بل المفارقة أن الأسرى "الإسرائيليين" قد يكونون أفضل حالًا من بعض سكان المخيمات، لأن مقاتلي المقاومة يتشاركون معهم القليل من الطعام.

ورغم هذا، تصر "إسرائيل" على تصوير حماس ككيان وحشي، وتتجاهل ما هو موثق بالأقمار الصناعية: أن "الجيش الإسرائيلي" قصف آلاف الشاحنات المحملة بالغذاء والدواء، ونسف البنية التحتية للمياه والكهرباء، ومنع إدخال الوقود حتى لمستشفيات الأطفال.

فأي جريمة أكبر من هذه؟ وهل من المعقول أن تحاصر بلدًا، ثم تتهم المحاصَرين بالتقصير في إطعام أسراك؟

نتنياهو: استخدام الأسرى كسلاح سياسي

تُظهر التصريحات الأخيرة لرئيس الوزراء "الإسرائيلي" بنيامين نتنياهو، خصوصًا بعد لقائه مع رئيس بعثة الصليب الأحمر، أنه لا يرى في الأسرى سوى أوراق سياسية. إنه لا يتحرك من دافع إنساني، بل من قلق على شعبيته السياسية المتهاوية، خصوصًا في ظل مظاهرات أهالي الأسرى "الإسرائيليين"، الذين يتهمونه صراحة بالخداع والتضليل، ويطالبون بصفقة تبادل تضع حدًا للحرب.

وهذا يعيدنا إلى جذر المسألة: نتنياهو يرفض كل اتفاق إنساني عقلاني لأنه لا يريد وقف الحرب، بل يريد فرض استسلام شامل يضمن بقاءه سياسيًا. وفي هذا السياق، فإن استمرار معاناة الأسرى يصبح أداة ضغط – لا على حماس – بل على الداخل "الإسرائيلي"، الذي يُطلب منه التحمل حتى يأتي "النصر". غير أن هذا النصر لا يأتي، بل تنهار كل المؤشرات العسكرية والسياسية على أرض الواقع.

"إسرائيل" تحاصر أسراها مرتين

الحصار الأول كان حين قررت "إسرائيل" قصف غزة بطريقة عشوائية شاملة، وقطعت عنها الماء والطعام، ظنًا منها أنها تستطيع "إخضاع" المقاومة. الحصار الثاني هو حين رفضت إدخال المساعدات، بل ومنعت حتى الصليب الأحمر من القيام بمهامه الأساسية. بل إن عشرات الشهادات تتحدث عن قصف متعمد لمعابر المساعدات، وعن استهداف متكرر لشاحنات الغذاء في جنوب القطاع.

من هنا، يصبح ما يجري ليس فقط مأساة إنسانية، بل مفارقة وجودية: الدولة التي تدّعي الدفاع عن أسراها، تمنع وصول الطعام إليهم. والجيش الذي يدّعي السعي لإنقاذ جنوده، يدفنهم تحت أنقاض الحصار الذي فرضه بنفسه.

أي نظام هذا الذي يحاصر أسراه، ثم يتباكى على "ظروفهم القاسية"؟!

العدالة المقلوبة: عندما يُحاكم الجائع

العالم اليوم، في صورته السائدة، لا يعترف بالعدالة حين تكون في صف الضعفاء. حين تُقتل عائلة فلسطينية تحت الركام، يُسكت الضمير العالمي. لكن حين يظهر "أسير إسرائيلي" نحيل الجسد، تشتعل محافل "الضمير الإنساني". غير أن العدالة الحقيقية لا تُقاس بهوية الجائع، بل بمن حاصره.

وبهذا المنطق، فإن من يجب أن يُحاكم ليس حماس، بل نظام الاحتلال الذي حاصر الفلسطينيين – ومعهم "الأسرى الإسرائيليين" – وخلق مجاعة شاملة، لا تميز بين طفل وأسير. بل الأدهى أن "إسرائيل" تمنع حتى المساعدات الطبية من الوصول إلى الأسرى "الإسرائيليين" في غزة، ثم تلوم حماس على عدم معالجتهم.

نحن أمام نظام يريد أن يحتفظ باحتكاره للضحايا وللأخلاق وللمأساة، حتى حين تكون المأساة من صنيعه.

في ختام المشهد: من المسؤول عن الجحيم؟

ليس ثمة ما هو أوضح من هذا: "إسرائيل" مسؤولة عن كل ما جرى. هي من رفضت وقف إطلاق النار، هي من انسحبت من مفاوضات الدوحة، هي من وضعت شروطًا مستحيلة، وهي من قصف الممرات الإنسانية. وفي المقابل، أعلنت حماس – أكثر من مرة – استعدادها لتسليم الأسرى، بشرط إنهاء الحرب وإنقاذ من تبقى حيًا من أهل غزة.

إن تصوير حماس كوحش متعطش لتعذيب الأسرى، بينما تتقاسم معهم القليل من الطعام، هو قلب للواقع، لا يمر إلا في إعلام خاضع للمنظومة الغربية التي تحمي الاحتلال وتدين المقاومة.

أما الحقيقة فهي كالتالي:

من جاع في غزة، جاع معه الأسير "الإسرائيلي".

ومن عانى من الحصار، عانى معه الطفل والأسير والجريح.

ومن قتل الحياة، ليس من حمل البندقية، بل من منع الهواء والماء عن مدينة كاملة.

فمن يملك أن يحاكم من لا يملك؟

ومن يستطيع أن يتهم من يقاتل ليحيا؟

وهل يجوز لمن صنع الجحيم أن يطلب الرحمة من قاطنيه؟

هذا هو قلب المأساة. مأساة تُنتجها "إسرائيل" وتحاكم عليها غيرها.

مأساة داخل مأساة… حيث يصبح الجائع مُدانًا، ويصبح السجان شريكًا في البكاء.


الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]




روزنامة المحور