الأربعاء 15 تشرين أول , 2025 03:55

اللغة كسلاح في حرب غزة: كيف هُزمت إسرائيل في القاموس قبل الميدان؟

الأسرى الفلسطينيين وعناصر من حماس

عندما يأتيك إعلان النصر من الإعلام الإسرائيلي أو من أفواه المراسلين الغربيين المتحمسين، فاعلم أنك أمام مشهد من التزييف المتقن، لا من الحقيقة. فحين يصفق العالم لانتصارٍ معلنٍ على غزة، تكون الحقيقة مطمورة في المقابر الجماعية، وتكون العدالة قد أُغلقت عليها الأبواب الحديدية. النصر في هذا العالم ليس ما يعلنه المنتصرون، بل ما يصمد في وجه آلة الإبادة ويحتفظ بإرادته في الحياة.

في 7 أكتوبر، لم تخطئ حماس بقدر ما أخطأ العالم في فهم معنى الحرية. ففي زمنٍ صار فيه القاتل يعرّف الأخلاق، والمستعمر يكتب التاريخ، والمحتل يُمنح شرعية الدفاع عن النفس، يصبح الدفاع عن الحرية جريمة. والسؤال لم يعد: هل كان طوفان الأقصى صائباً؟ بل: كيف وصلنا إلى عالمٍ يرى في المقاومة ضد الاحتلال فعلاً غير أخلاقي، بينما يبرر تدمير مدينة بأكملها بذريعة الأمن؟

بين الحقيقة وسرديات القوة

ما لم يفهمه الغرب – أو لم يرد أن يفهمه – أن الحرية ليست ترفاً سياسياً، بل لحظة انفجار للكرامة بعد سبعة عقود من الحصار. فحين تنفجر غزة، لا تفعل ذلك لأنها تعشق الحرب، بل لأنها خُنقت حتى لم يعد ثمة خيار آخر. أما الإعلام الغربي، الذي يستمد معاييره من مقاييس الهيمنة لا من ضمير الإنسان، فقد أعاد إنتاج الرواية "الإسرائيلية" كما لو كانت نصاً مقدساً، بينما دفن الحقيقة تحت أنقاض المستشفيات والمدارس.

بل إن بعض الإعلام العربي صار اليوم يدافع عن هذه الرواية أكثر من إعلام العدو نفسه. فبينما بدأت أصوات من داخل "إسرائيل" تتساءل: "أين النصر نتنياهو؟"، بينما ما زالت بعض منابر عربية تكرّر الأكاذيب ذاتها حول "جنون المقاومة" و"الدمار العبثي"، متناسية أن من يملك الطائرات ليس من يملك الحقيقة.

"إسرائيل" تحتفل بالهزيمة

حين نشر البروفيسور الإسرائيلي جاي هوكمان مقاله في يديعوت أحرونوت، كان كمن يعلن أن الإمبراطورية فقدت ثوبها. ف"إسرائيل" – كما كتب – عادت إلى النقطة نفسها التي كانت عليها في السادس من أكتوبر: بلا ردع، بلا أمن، بلا نصر. عاد الأسرى، نعم، لكن من دون كرامة سياسية أو إنجاز استراتيجي. فبعد حربٍ دامت عامين وخلّفت آلاف القتلى والجرحى ومجتمعاً مصاباً بالشلل النفسي، ما الذي بقي للاحتفال؟

يقول هوكمان إن ما تسميه الحكومة "انتصاراً" ليس سوى إعادة تدويرٍ لفشلٍ قديم. فلو قبلت "إسرائيل" صفقة تبادل قبل عامين، لكانت اليوم في الوضع ذاته دون دماء ولا خراب. لكنه منطق الغطرسة: حين تفضّل دولة أن تدمر مدينة على أن تعترف بفشلها الأخلاقي.

وفي هذا السياق، لم يكن هوكمان وحيداً. محللون كثر من داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية – من غيورا آيلاند إلى يسرائيل زيف – أكدوا أن الحرب انتهت، وأن حماس خرجت متماسكة أكثر من أي وقتٍ مضى. لا ردع، لا نصر، ولا حتى خطة لما بعد الحرب. أما إسرائيل، فتغرق في أوهامها القديمة، تكتب على جدران الخراب شعاراتٍ عن القوة، بينما الحقيقة تكتب على قبور جنودها.

هل انتصرت حماس أم انتصر معنى المقاومة؟

في تعريفات القوى الكبرى، النصر يقاس بعدد المدن التي تُهدم، والرايات التي تُرفع على الركام. أما في تعريف الشعوب، فالنصر يقاس بعدد المرات التي لم تمت فيها الإرادة. وفي هذا المعنى، لم تنتصر حماس فقط، بل انتصر مفهوم المقاومة نفسه، بوصفه فكرةً عصية على الإبادة.

لقد أرادت "إسرائيل" أن تُنهي المقاومة عسكرياً، فإذا بها تعيدها إلى الوعي العالمي سياسيّاً وأخلاقياً. أعادت غزة – بجراحها – فلسطين إلى الطاولة الدولية بعد أن دفنها التطبيع في مقابر النسيان. فجأة، عاد العالم ليتحدث عن "الاحتلال" بعد أن غاب المصطلح لعقود، وعادت الشعوب الغربية إلى الشوارع، تطالب بالعدالة التي تخلى عنها حكامها.

في مقابل ذلك، تبدو "إسرائيل" اليوم ككيانٍ محاصر داخل ذاته:

- مجتمعه ممزق.

- قيادته متناحرة.

- اقتصاده متآكل.

- وجيشه غارق في الوحل الغزّي.

وكما قال أحد المحللين "الإسرائيليين" في هآرتس: "إسرائيل لم تعد أكثر من قرية صغيرة تمتلك سلاح جوٍّ متطور".

النصر بالأرقام… حين تتكلم الاستراتيجية لا الدعاية

قد يبدو الحديث عن "النصر بالأرقام" نوعاً من التناقض في حربٍ تُقاس فيها الخسائر بالدماء، لا بالإحصاءات، لكن السياسة الحديثة لا تفهم إلا لغة الأرقام. وإذا كانت "إسرائيل" تتباهى بأنها دمّرت آلاف المباني، فإن الأرقام الاستراتيجية والتكتيكية تروي قصة معاكسة تماماً.

فمن الناحية الاستراتيجية، فشلت "إسرائيل" في تحقيق أي من أهدافها الأربعة المعلنة: إسقاط حماس، استعادة الردع، إعادة الأسرى بالقوة، وفرض نظام سياسي جديد في غزة. بعد عامين من القصف، ما زالت حماس تسيطر على نحو ما يقارب ٧٠% من الشريط الساحلي، تحتفظ بقدرتها الصاروخية وإن كانت محدودة، وتدير – من تحت الأرض – شبكة أمنية وتنظيمية صلبة. هذا وحده كافٍ ليقول إن الردع "الإسرائيلي" سقط بالمعنى العسكري والنفسي معاً.

أما في البعد التكتيكي، فإن نتائج المعارك الميدانية كشفت خللاً غير مسبوق في أداء "الجيش الإسرائيلي": وحدات النخبة مثل "جفعاتي" و"غولاني" تكبّدت خسائر تفوق ٢٥٠٠٠ ما بين قتيل ومعاق جسدي ونفسي، بحسب التقديرات المسربة من الإعلام "الإسرائيلي"، فيما أُجبرت القوات على الانسحاب من مناطق ظنّت أنها سيطرت عليها. أكثر من 12 ألف عملية مقاومة نُفذت خلال عامين، تراوحت بين الكمائن والتفجيرات والاشتباكات القريبة، ما جعل "الحسم الميداني" وهماً تكرّره القيادة السياسية لغايات انتخابية.

وفي المقابل، سجّلت المقاومة – رغم محدودية مواردها – مستوىً نادراً من المرونة العملياتية. فالتنظيمات أعادت بناء بنيتها الميدانية خلال أسابيع، ونجحت في إدارة الحرب من دون انهيار أمني، مع الحفاظ على الجبهة الداخلية في حدها الأدنى من الانضباط. كل ذلك جعل "إسرائيل" عاجزة عن فرض صورة "النصر الكامل"، ومضطرة إلى خفض سقف أهدافها من "القضاء على حماس" إلى "تقليص قدراتها"، وهي العبارة التي تُستخدم عادة لتغطية الفشل العسكري.

وهكذا، بينما كانت "إسرائيل" تتحدث بلغة "الهيمنة"، كانت الوقائع الميدانية تُعيد تعريف النصر: فالمقاومة التي تصمد لعامين أمام أقوى جيوش المنطقة ليست مجرد "ناجية"، بل فاعلة في المعادلة الإقليمية.

وفي النهاية، الحرب ليست أرقاماً، بل معنى. والمعنى اليوم يقول إن المقاومة، رغم كل شيء، لم تُهزم. لأن من يملك الحق لا يُهزم، حتى لو دفنوه تحت الأنقاض. أما إسرائيل، فمهما رفعت راياتها، تبقى تحتفل بالهزيمة وتطلب التصفيق، كإمبراطوريةٍ مهزومة تحاول إقناع نفسها بأن الجنازة التي تراها هي موكب نصر.


الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]




روزنامة المحور