الأربعاء 20 آب , 2025 03:29

غزة تهزّ الحكومات الأوروبية: من الشارع إلى صناديق الاقتراع

مظاهرات في أوروبا

منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي الواسع على قطاع غزة في أواخر عام 2023، تعيش أوروبا واحدة من أكثر لحظاتها السياسية والأخلاقية تعقيدًا منذ نهاية الحرب الباردة. فقد مثّلت صور الدمار والمجازر ومشاهد الأطفال تحت الأنقاض مشهدًا يوميًا صادمًا لم يعد بالإمكان التعامل معه كخبر عابر، بل صار عنصرًا ضاغطًا على الضمير الجمعي الأوروبي، ما ولّد موجات غضب عارمة في الشوارع والجامعات والساحات العامة. هذه الموجات لم تقتصر على الاحتجاج الأخلاقي، بل أخذت تتبلور في صورة فعل سياسي ملموس بدأ يهزّ الحكومات الأوروبية ويعيد رسم خريطة التحالفات داخلها.

لقد شهدت القارة العجوز خلال العامين الماضيين سلسلة تظاهرات مليونية، رافقتها حملات مقاطعة واسعة للمنتجات والشركات المتعاونة مع الاحتلال الإسرائيلي، إلى جانب مبادرات أكاديمية لسحب الاستثمارات أو وقف التعاون البحثي مع الجامعات الإسرائيلية. هذا الزخم المجتمعي ترافق مع نقاشات حادة داخل البرلمانات الوطنية والبرلمان الأوروبي نفسه، حيث انقسمت القوى السياسية بين تيارات تدعو لمراجعة العلاقات مع إسرائيل ووقف تصدير السلاح إليها، وأخرى تلتزم بمواقف تقليدية متحيزة لها تحت ذريعة "الأمن" أو "مكافحة الإرهاب".

في دول مثل ألمانيا وإيطاليا، اتسعت الهوة بين الشارع والسلطة التنفيذية. فقد أظهرت استطلاعات الرأي أن نحو 75% من الألمان يؤيدون الضغط على إسرائيل لوقف عدوانها، بينما ظلّت الحكومة مترددة إلى أن أجبرتها المظاهرات والضغوط القضائية على اتخاذ قرار بتجميد تصدير الأسلحة. أما في إيطاليا، فقد قوبل التعاطف الشعبي مع الفلسطينيين ببطء حكومي شديد في تعديل سياساته، وهو ما جعل الحكومة عرضة لموجة انتقادات داخلية وخارجية. وفي المقابل، اتخذت دول أخرى خطوات أكثر جرأة، مثل سلوفينيا التي أعلنت حظرًا شاملًا على تصدير واستيراد السلاح مع إسرائيل، أو إسبانيا التي ذهبت بعيدًا في تعليق التعاون العسكري والبحثي.

هذا التحول لم يكن محصورًا في المجال السياسي الضيق، بل ظهرت الجامعات الأوروبية كفاعل رئيسي في صياغة المواقف الجديدة. ففي هولندا وإسبانيا وبلجيكا، لعبت المؤسسات الأكاديمية دورًا رياديًا في فرض مقاطعة للتعاون مع نظيراتها الإسرائيلية، ورفعت شعارات أخلاقية تضغط على الحكومات لاتخاذ قرارات ملموسة. ومع ذلك، تظل الفجوة قائمة في بعض الدول التي لم تستطع تحويل الشرعية الأخلاقية إلى سياسات تنفيذية ملزمة.

العامل الآخر الذي جعل القضية الفلسطينية تتحول إلى ملف داخلي أوروبي يتمثل في الانتخابات القريبة في فرنسا وألمانيا وبلجيكا. فالضغط الشعبي يتلاقى هنا مع وزن الجاليات المسلمة المتزايد، ومع صعود الإعلام البديل الذي يكشف التناقض بين خطاب "حقوق الإنسان" الرسمي وبين الواقع الميداني في غزة. هذا التناقض يضع الحكومات أمام مأزق حقيقي: إما التكيف مع المزاج العام المتعاطف مع الفلسطينيين، أو المخاطرة بخسارة جزء من قواعدها الانتخابية لصالح أحزاب بديلة.

وفي ظل هذا المشهد، برزت شخصيات سياسية وإعلامية جديدة قادرة على ملء فراغ الخطاب الرسمي. في بريطانيا، مثّل صعود جورج غالاوي وانتصاره الانتخابي مؤشرًا على تحول غضب الشارع إلى فعل سياسي مباشر، فيما يواصل جيريمي كوربن محاولاته لبناء منصة سياسية جديدة تستثمر التعاطف الشعبي مع غزة. وعلى المستوى الإعلامي، أصبح كل من مهدي حسن وأوين جونز أصواتًا مؤثرة تتجاوز حدود بريطانيا لتصل إلى أوروبا وأمريكا الشمالية، مكرّسين شبكة تضامن عابرة للحدود.

هذه التحولات تهدد مباشرة قيادات أوروبية تقليدية، مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي يواجه ضغوطًا متصاعدة من اليسار وزعيمه جان لوك ميلونشون، أو المستشار الألماني أولاف شولتس ووزيرة خارجيته أنالينا بيربوك اللذين تراجعت شعبيتهما بسبب مواقفهما المنحازة لإسرائيل. أما في إيطاليا، فإن جورجيا ميلوني تجد نفسها محاصرة بتصاعد المعارضة الداخلية رغم محاولاتها الحفاظ على خطاب يميني داعم لإسرائيل.

على المدى القريب، من المرجح أن نشهد تغييرات وزارية أو مراجعات في السياسات الخارجية، خاصة في ألمانيا وبلجيكا. وعلى المدى المتوسط، قد تتعرض بعض الحكومات لاهتزازات أعمق تصل إلى سقوط ائتلافات أو صعود تحالفات يسارية أكثر قربًا من القضية الفلسطينية، كما في فرنسا وإيطاليا وربما بريطانيا. الجامعات والإعلام البديل سيستمران في لعب دور متقدم، مما يعزز من قدرة الرأي العام على التأثير المباشر في الأجندة السياسية.

إن ما يجري اليوم في أوروبا ليس مجرد تفاعل مع أزمة خارجية، بل إعادة صياغة للسياسة الداخلية ذاتها. فالقضية الفلسطينية، التي طالما وُضعت في خانة "السياسة الخارجية"، تحولت إلى معيار لاختبار صدقية القيم الأوروبية في الداخل. ومع استمرار المجازر في غزة، ستتعمق هذه التحولات أكثر، وقد تقود إلى بروز جيل جديد من القيادات السياسية والإعلامية القادرة على إعادة تشكيل علاقة أوروبا بالصراع الفلسطيني–الإسرائيلي.





روزنامة المحور