الجمعة 23 أيار , 2025 03:55

الغرب و"عبء إسرائيل": هل بدأ الانفكاك من الشريك الاستعماري؟

المظاهرات في الدول الغربية

منذ تأسيسها، شكّلت "إسرائيل" الامتداد الأكثر وقاحة وعنفًا للمنظومة الاستعمارية الغربية في المشرق. لم تكن دولة عادية، بل مشروعًا وظيفيًا هدفه ترسيخ السيطرة الإمبريالية على المنطقة، ومواجهة أي نزعة تحررية عربية. وقد وجدت في هذا الدور غطاءً دائمًا من الحصانة الغربية، سياسيًا، وإعلاميًا، وقانونيًا. لكن ما نشهده اليوم – كما تشير التطورات الأخيرة في مواقف أوروبا وأمريكا الشمالية – هو بداية تشققات عميقة في هذه الحصانة، تشي بتحولٍ استراتيجي لا يمكن اختزاله بغضب أخلاقي عابر.

"إسرائيل" كعبء استراتيجي: من "الضمانة" إلى "المشكلة"

لسنوات طويلة، كان دعم "إسرائيل" في الغرب يقدَّم باعتباره مسألة "قيم" و"أمن مشترك". لكن الواقع – كما يوضحه التحليل البنيوي – أن هذا الدعم ارتبط بمنطق الهيمنة، حيث شكّلت "إسرائيل" الحارس الأمين لمصالح الغرب، من قناة السويس إلى حقول النفط، ومن وأد الحركات التحررية إلى محاربة النفوذ السوفييتي. هذه الوظيفة كانت تُبرر كل شيء: الاحتلال، القتل، التمييز العنصري، الحصار، وحتى الإبادة.

لكن هذه العلاقة "الاستراتيجية" دخلت منذ حرب غزة 2023–2025 في أزمة غير مسبوقة. لم يعد بإمكان حلفاء "إسرائيل" في الغرب تبرير دعمهم سياسيًا أمام الرأي العام، ولا حتى أمام مؤسساتهم القانونية. فجأة، تحولت "إسرائيل" من "أصل استراتيجي" إلى "عبء أخلاقي"، ومن حصن الديمقراطية" إلى كيان مارق يتحدى القوانين الدولية ويحرج حلفاءه في كل محفل.

انهيار الجدار الحديدي للدعم الغربي

من يتابع تصريحات وزراء خارجية أيرلندا، النرويج، أو حتى هولندا – وهي دول طالما سارت على حافة الحياد – يدرك أن ما نشهده ليس فقط تغيرًا في اللغة، بل تغيرًا في منطق العلاقة. البيان الأوروبي المشترك الذي وصف تهجير سكان غزة بأنه "جريمة دولية"، وتصريحات منظمة الصحة العالمية حول "الحرمان المتعمّد من الغذاء"، كلها تعبّر عن كسر الصمت التاريخي الذي فرضته "عقيدة الدعم المطلق".

حتى بريطانيا، الدولة التي زرعت المشروع الصهيوني ورعته، خرجت عن صمتها عبر قرارات حقيقية: تعليق مفاوضات التجارة، فرض عقوبات على المستوطنين، ووصف الحصار على غزة بأنه "لا أخلاقي". هذا ليس فقط تحوّلًا في النبرة، بل في المصلحة.

تفكّك الداخل الغربي: ما الذي غيّر المعادلة؟

التساؤل المركزي هنا: لماذا يحدث هذا الآن؟ ما الذي جعل الحلفاء التقليديين "لإسرائيل" يعيدون النظر، ولو جزئيًا، في مواقفهم؟

الجواب – كما يبدو – لا يعود إلى أي يقظة ضمير فجائية. بل هو نتيجة لتراكم ثلاثي: ضغط شعبي كاسح، وثائق حقوقية دامغة، وواقع سياسي "إسرائيلي" بات عبئًا يصعب تحمّله.

منذ أكتوبر 2023، أُجبرت الشعوب الغربية على مواجهة الحقيقة: مجازر جماعية، تجويع ممنهج، قصف للمستشفيات والمدارس، ومقابر جماعية تُبث مباشرة على شاشات العالم. ليس لأن الإعلام الغربي أراد ذلك، بل لأن الإعلام البديل، والنشطاء، ومنظمات الحقوق، فرضوا هذا الخطاب على الفضاء العام.

في الولايات المتحدة، تحولت الجامعات إلى ساحات مقاومة، وشهدنا أوسع حملة مقاطعة أكاديمية لإسرائيل منذ الانتفاضة الثانية. وفي أوروبا، صوتت نقابات عمّالية لسحب استثماراتها، واحتلت التظاهرات العواصم الكبرى، في مشهد أعاد إلى الذاكرة احتجاجات حرب فيتنام.

نتنياهو واليمين: ابتزاز الغرب بورقة "معاداة السامية"

وسط هذا التحول، يحاول نتنياهو – الذي بات رمزًا عالميًا للتطرف والانفلات – أن يواجه العاصفة بالوسيلة الوحيدة التي يجيدها: الابتزاز الأخلاقي. فوفقًا لمنطقه، انتقاد "إسرائيل" يعني معاداة اليهود. هذه المعادلة التي صمدت طويلًا بدأت تتآكل. حتى داخل المجتمعات اليهودية الغربية، ظهر تململ متزايد، خصوصًا بين الشباب، الذين يرون في نتنياهو تجسيدًا للمأساة الأخلاقية التي سقطت فيها "الدولة العبرية".

وبدلًا من أن يستجيب لمطالب الحلفاء الغربيين بتعديل سلوكه، ذهب نتنياهو نحو تصعيد داخلي خطير، بتعيين رئيس جديد للشاباك دون تنسيق مع الجيش، ما دفع بخبراء القانون في "إسرائيل" للحديث عن "أزمة دستورية" حقيقية، تعكس تفاقم الشروخ داخل النظام الصهيوني ذاته.

ولكن، هل يكفي كل هذا لتغيير السياسة الغربية؟

من منظور تحليلي بارد، لا تزال الدول الغربية عاجزة عن اتخاذ خطوة واحدة حاسمة: فرض عقوبات شاملة. لا تزال العلاقات التجارية والعسكرية قائمة، والسلاح يتدفق، والغطاء الدبلوماسي لم يُرفع بالكامل.

بمعنى آخر، ما زال الانفكاك من "إسرائيل" في بدايته. فالتحول الأخلاقي لا يزال محصورًا في الدوائر الثقافية، الحقوقية، وبعض النخب السياسية. أما مؤسسات الحكم الاستراتيجية – في أمريكا وبريطانيا وألمانيا – فلا تزال تعتبر أن الحفاظ على "أمن إسرائيل" أمر لا مساومة فيه، ولو على حساب القانون الدولي وحقوق الإنسان.

والسبب بسيط: "إسرائيل" لا تزال "ضرورية" في معادلة السيطرة على الشرق الأوسط، من سوريا إلى إيران، ومن أمن الطاقة إلى أمن البحر الأحمر. لكن هذه "الضرورة" لم تعد تحظى بشرعية سياسية أو أخلاقية داخل مجتمعات الغرب نفسه.

"إسرائيل" كرهينة: نتنياهو يحتمي بالدمار للبقاء

في نهاية المطاف، يُدرك نتنياهو – كما يلاحظ محللون عديدون – أن بقاءه السياسي مرتبط باستمرار الحرب. فالحرب تؤجل محاكمته، وتمنحه السيطرة على المجال العام، وتُسكت خصومه، وتمنع تشكيل بدائل داخل الحكومة. هو لا يحكم باسم "إسرائيل"، بل يحتجزها كرهينة، ويبتز بها العالم: إما أنا، أو انهيار الجبهة الغربية.

وهذا ما يجعل الغرب في مأزق أخلاقي واستراتيجي: كيف يمكن دعم كيان يتحول إلى كابوس سياسي، ويحكمه زعيم متهم بالفساد، ويقود حربًا تفضح نفاق "القيم الغربية" نفسها؟

بداية الانهيار البطيء للتحالف الصهيوني-الغربي؟

ربما لا يكون ما نشهده اليوم قطيعة فورية، ولا تحوّلًا جذريًا، لكنّه بالتأكيد بداية تصدّع في واحدة من أكثر التحالفات تماسكًا في التاريخ الحديث. هذا التحالف الذي بنى "إسرائيل" ليحكم المنطقة، قد بدأ يرى في بقاء هذا الكيان بهذه الصورة خطرًا على شرعية منظومته بأكملها.

إنها لحظة حرجة، لكنها مليئة بالإمكان. على حركات التضامن، والإعلام المستقل، ومنظمات الحقوق، أن تواصل الضغط، لا لتغيير "إسرائيل" فقط، بل لتغيير طبيعة العلاقة الغربية معها.

وإلا، فإن "إسرائيل" ستبقى – كما قال أحد الخبراء – "عبئًا أخلاقيًا على الغرب"، يدفعه إلى الانهيار من داخله.


الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]




روزنامة المحور