مثّلت جرائم الإبادة الجماعية في كل من رواندا ويوغوسلافيا لحظات فارقة في تاريخ العدالة الدولية، دفعت بالمجتمع الدولي إلى إنشاء محاكم جنائية خاصة لمحاكمة المتورطين في تلك الفظائع. ومع تصاعد الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية، ولا سيما في قطاع غزة، تبرز المقارنة الحتمية بين هذه السياقات الثلاثة. ورغم وجود أوجه تشابه كبيرة في طبيعة الانتهاكات والأساليب المستخدمة في ارتكابها، إلا أن العدالة الدولية تبدو متأرجحة بين الحزم الانتقائي في بعض الحالات، والعجز أو التواطؤ الصريح في حالات أخرى، ما يطرح إشكالية مركزية حول مصداقية النظام القضائي الدولي.
شهدت رواندا في عام 1994 واحدة من أبشع جرائم الإبادة الجماعية في التاريخ المعاصر، حيث قُتل ما يقارب 800 ألف شخص خلال مئة يوم فقط، معظمهم من التوتسي. وقد أنشأ مجلس الأمن المحكمة الجنائية الدولية لرواندا (ICTR) عام 1994 في أروشا بتنزانيا، كمحكمة مؤقتة لمحاكمة المسؤولين عن الجرائم. ورغم نجاح المحكمة في محاكمة عدد من كبار القادة، بمن فيهم رئيس الوزراء السابق جان كامباندا، فإن الانتقادات طالت آليات عمل المحكمة، وغياب المحاسبة على الجرائم التي ارتكبتها القوات الحكومية بعد الإبادة.
مع اندلاع الحروب اليوغوسلافية في التسعينات، والتي شهدت مجازر واسعة مثل مجزرة سريبرينيتشا (1995)، أنشأ مجلس الأمن المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة (ICTY) عام 1993. وأدانت المحكمة شخصيات بارزة مثل سلوبودان ميلوسيفيتش ورادوفان كاراديتش. إلا أن المحكمة، رغم مساهمتها التاريخية في تطوير القانون الدولي الجنائي، وُوجهت بانتقادات تتعلق بتأخر العدالة، واتهامات بالتحيز في بعض القضايا لصالح القوى الغربية المتدخلة في النزاع.
تُعد جريمة الإبادة الجماعية من أخطر الجرائم التي عرفها القانون الدولي، لما تنطوي عليه من استهداف متعمد لجماعات على أساس قومي أو إثني أو ديني بهدف تدميرها كليًا أو جزئيًا. وقد شهد المجتمع الدولي محاكمات بارزة لهذه الجريمة في عدة مناسبات، أبرزها في رواندا ويوغوسلافيا السابقة. وفي السنوات الأخيرة، وخاصة بعد الهجوم الإسرائيلي واسع النطاق على قطاع غزة بين عامي 2023 و2024، طُرحت مسألة الإبادة الجماعية من جديد على الساحة القانونية الدولية، مع اتهامات موجهة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ومسؤولين آخرين بارتكاب أفعال قد ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية بحق المدنيين الفلسطينيين.
يهدف هذا المقال إلى تقديم مقارنة تحليلية بين أبرز قضايا الإبادة الجماعية التي نظرت فيها المحاكم الدولية، وبين الوقائع الجارية في غزة، مع التركيز على مدى انطباق المعايير القانونية لجريمة الإبادة على الأفعال المرتكبة في هذه الحرب.
أولًا: الإطار القانوني لجريمة الإبادة الجماعية
تُعرف الإبادة الجماعية وفقًا لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948 بأنها:
"أي فعل يُرتكب بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية بصفتها هذه". وتشمل الأفعال التي تدخل في نطاق هذه الجريمة:
- قتل أعضاء من الجماعة.
- التسبب في أذى جسدي أو عقلي جسيم لأفراد الجماعة.
- إخضاع الجماعة عمدًا لظروف معيشية يُقصد بها تدميرها فعليًا كليًا أو جزئيًا.
- فرض تدابير تهدف إلى منع الإنجاب داخل الجماعة.
- نقل الأطفال قسرًا من جماعة إلى أخرى.
وقد شهد العالم محاكمات تاريخية بارزة، منها:
- محكمة رواندا الدولية (ICTR): بعد الإبادة الجماعية عام 1994 التي راح ضحيتها حوالي 800 ألف من التوتسي والمعتدلين من الهوتو.
- محكمة يوغوسلافيا السابقة (ICTY): خاصة قضية سربرنيتسا، حيث قُتل أكثر من 8000 مسلم بوسني في يوليو 1995.
- محكمة العدل الدولية (ICJ): تناولت قضايا اتهام دول، كما في دعوى غامبيا ضد ميانمار بشأن الروهينغا، وجنوب إفريقيا ضد إسرائيل بشأن غزة.
ثانيًا: الحرب على غزة (2023–2024): الوقائع والاتهامات
شهد قطاع غزة في أعقاب عملية طوفان الأقصى التي أطلقتها فصائل المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر 2023، حملة عسكرية إسرائيلية وصفت بالأكثر دموية ودمارًا منذ سنوات. وقد وُثّقت خلال هذه الحملة:
- مقتل أكثر من 50 ألف فلسطيني، غالبيتهم من المدنيين.
- تدمير آلاف المباني السكنية والمرافق الصحية والتعليمية.
- استخدام أساليب حصار وتجويع شاملة.
- نزوح أكثر من مليون شخص داخل القطاع.
- تصريحات رسمية تحمل طابعًا تحريضيًا على القتل والتهجير.
بناءً على هذه الوقائع، تقدمت دولة جنوب إفريقيا بدعوى أمام محكمة العدل الدولية في ديسمبر 2023، تتهم فيها الكيان الصهيوني بارتكاب إبادة جماعية في قطاع غزة، وقد بدأت المحكمة في النظر في القضية مطلع عام 2024.
الادعاءات تشمل:
- استهداف المدنيين والبنية التحتية المدنية بشكل ممنهج.
- استخدام التجويع كأداة حرب.
- التصريحات التحريضية من مسؤولين إسرائيليين.
- التهجير القسري والحرمان من الخدمات الأساسية.
ثالثًا: المقارنة بين قضايا الإبادة الجماعية السابقة وحالة غزة
رغم تباين السياقات الجغرافية والسياسية، تتشابه جرائم الإبادة الجماعية في هذه الحالات الثلاثة في استخدام وسائل التجويع والحصار، التهجير القسري، القتل الجماعي، واستهداف الهوية العرقية أو الدينية أو القومية. ففي رواندا، حُرض المدنيون على قتل جيرانهم بوسائل بدائية. وفي البوسنة، ارتُكبت الإبادة تحت غطاء الحرب. أما في غزة، فالإبادة تأخذ طابعًا "حديثًا"، من خلال القصف المكثف العشوائي، والتدمير الشامل للبنية التحتية، والاستهداف المتعمد للمدنيين، بما في ذلك الأطفال والمستشفيات.
رابعًا: الإشكاليات القانونية والسياسية في حالة غزة
فلسطين والعدالة المؤجلة
لم تجد الجرائم المرتكبة في فلسطين، رغم توثيقها بشكل واسع من قبل منظمات دولية مستقلة، استجابة مكافئة من قبل المحاكم الدولية. منذ انضمام فلسطين إلى نظام روما الأساسي عام 2015، فتحت المحكمة الجنائية الدولية تحقيقًا أوليًا في الجرائم المرتكبة في الأراضي المحتلة، وخاصة في الحروب على غزة. ومع ذلك، بقيت الإجراءات بطيئة للغاية، ولم تصدر أي مذكرات توقيف حتى الآن بحق المسؤولين الإسرائيليين، ما يعكس حجم الضغوط السياسية والتهديدات التي تتعرض لها المحكمة، خصوصًا من قبل الولايات المتحدة والكيان الصهيوني اللتين ترفضان اختصاص المحكمة بشكل صريح.
رغم وجود أوجه شبه واضحة بين الجرائم المرتكبة في غزة وبين ما شهدته رواندا أو يوغوسلافيا، إلا أن الملاحقة القانونية للكيان الصهيوني تواجه تحديات خاصة، من أبرزها:
- البُعد السياسي: كون الكيان المحتل حليفًا رئيسيًا لقوى دولية كبرى يحدّ من سرعة أو فعالية المساءلة.
- تعقيدات الإثبات: يتطلب إثبات نية الإبادة أدلة مباشرة، وهو ما قد يُجادل فيه رغم ضخامة النتائج.
- إشكاليات الاختصاص: إسرائيل ليست طرفًا في نظام روما الأساسي، ما يُصعّب اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.
- الحصانة السياسية التي يتمتع بها القادة الإسرائيليون تقيّد فعالية المحكمة الجنائية الدولية.
- تعقيدات الإثبات فيما يتعلق بـ"النية" رغم وضوح النتائج الكارثية.
ومع ذلك، فإن تحرك دولة جنوب إفريقيا، والقبول المبدئي للدعوى من قبل محكمة العدل الدولية، اضافة إلى تحرك المحكمة الجنائية الدولية، حيث أصدرت الغرفة التمهيدية الأولى للمحكمة الجنائية الدولية في 21 تشرين الثاني 2024 أوامر بالقبض على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت على خلفية مسؤوليتهما في عدوان إسرائيل على غزّة منذ 7 تشرين الأوّل 2023. وقد وجدت الغرفة أسبابًا معقولة للاعتقاد بارتكابهما معظم جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية التي كان قد استند إليها المدعي العام كريم خان في طلبه في أيار 2024. يشكّل هذا القرار خطوة تاريخية في مسار السعي لتحقيق العدالة للفلسطينيين بعد عقود من إفلات الاحتلال الإسرائيلي من المحاسبة على الصعيد الدولي، بخاصّة لدى الأخذ بعين الاعتبار التهديدات والضغوطات الكبيرة التي تعرّض لها المدعي العام وقضاة المحكمة من قبل إسرائيل والولايات المتحدّة والتي بقيت من دون أي محاسبة جديّة، فضلًا عن رفض دولة إسرائيل صلاحية المحكمة لملاحقة قادتها.
إنّ تحرك المحكمة الجنائية الدولية يمثل سابقة مهمة في محاسبة الدول على انتهاكاتها حتى أثناء النزاعات المستمرة. لكن واقعا، يصطدم هذا التطور بالتهديدات الامريكية (البلطجة والضغوط على هيئة القضاة وعمل المحكمة)، واللامبالاة الاسرائيلية.
تؤكد المقارنة التحليلية بين جرائم الإبادة الجماعية التي نُظرت أمام المحاكم الدولية وبين ما يجري في غزة أن هناك عناصر قوية قد تُسند تهمة الإبادة الجماعية إلى الكيان الصهيوني خصوصًا من حيث النية المعلنة، طبيعة الضحايا، والأساليب المتبعة. ورغم اختلاف السياقات والوسائل، فإن المؤشرات القانونية تُظهر أن ما يجري في غزة قد يرقى إلى جريمة إبادة جماعية إذا ثبتت النية الواضحة للتدمير، وهو ما بدأت محكمة العدل الدولية بدراسته فعليًا. ويبقى السؤال: هل سيتكرر سيناريو رواندا وسربرنيتشا مع تأخير العدالة، أم أن المجتمع الدولي سيتحرك قبل أن تُطوى الصفحة من دون محاسبة؟ ومع أن السياق السياسي يلعب دورًا جوهريًا في إعاقة العدالة، فإن تراكم الأدلة وتنامي الضغط الدولي قد يُفضي في نهاية المطاف إلى محاسبة مرتكبي هذه الجرائم، كما حدث في رواندا ويوغوسلافيا. يبقى أن الزمن وحده كفيل بالإجابة على ما إذا كان القانون الدولي سينتصر، أم أن الاعتبارات السياسية ستبقى الحاجز الأكبر أمام تحقيق العدالة.
خامسا: العدالة الدولية تحت التهديد
تُظهر هذه المقارنات أن العدالة الدولية ليست فقط مسألة قانونية، بل سياسية بالدرجة الأولى. فبينما تم إنشاء محاكم خاصة لمحاكمة المسؤولين في رواندا ويوغوسلافيا بسرعة نسبية، لا تزال الجرائم في فلسطين دون محاسبة تذكر. ويعود ذلك إلى الهيمنة الغربية على المؤسسات الدولية، وتسييس مسار العدالة، ما يفرغها من مضمونها ويضعها في موضع التشكيك. كما أن ازدواجية المعايير، ورفض بعض الدول تنفيذ قرارات المحكمة أو الاعتراف بها، يقوض من شرعية المحكمة الجنائية الدولية، ويعمق شعور الضحايا بأنهم خارج منظومة العدالة.
ختاما، تُبين التجارب المختلفة في رواندا، ويوغوسلافيا، وفلسطين أن العدالة الدولية ما تزال انتقائية، وغير متكافئة في التعامل مع مختلف النزاعات. ففي حين أن بعض الضحايا وجدوا سبيلًا - ولو متأخرًا - إلى العدالة، فإن ضحايا الإبادة في فلسطين ما زالوا يُتركون في العراء أمام آلة الحرب دون مساءلة. ولا يمكن للمجتمع الدولي الحديث عن نظام قانوني عادل ما لم تُكسر حلقة الحصانة السياسية التي تحيط ببعض الدول، ويُعاد الاعتبار للمحكمة الجنائية الدولية كمرجعية قانونية مستقلة لا تخضع لموازين القوى.