بعد مرور عام ونصف على الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، يقف الكيان عند مفترق طرق، وعليه صياغة استراتيجية دقيقة لمستقبل القطاع. فأمام "إسرائيل" مجموعة من البدائل الغامضة، وتثير إشكاليات كبرى بتأثيراتها على المدى القريب والبعيد. إذا لا تزال مسألة "اليوم التالي لغزة" بدون إجابة حاسمة، في ظل تعقيدات ميدانية وسياسية عديدة.
يسعى هذا التقرير إلى استعراض دراسة صادرة عن "معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي" (INSS)، بعنوان "البدائل الاستراتيجية في قطاع غزة". تكمن أهمية هذه الورقة بكونها تعكس تصورات النخب الأمنية الإسرائيلية بشأن مستقبل غزة.
تفترض الدراسة بأن استعادة الأسرى الإسرائيليين أولوية لدى صناع القرار في إسرائيل على حساب هدف إسقاط حركة حماس. كذلك، وتقترح 4 بدائل للتعامل مع سيناريو "ما بعد حماس". وتسلط الضوء على أزمة الرؤية الاستراتيجية الضبابية داخل الكيان، التي تتمثل بالافتقاد إلى تصور واقعي أو إجماع داخلي حول طبيعة العلاقة المستقبلية مع قطاع غزة. وتوصي بتبنّي "استراتيجية ثنائية الرأس" تقوم على مزيج من العمل العسكري والسياسي لبناء بديل فكري لحركة حماس، بدعم عربي ودولي.
تفتتح الدراسة بعرض الأهداف الرئيسة التي وضعتها "إسرائيل" في بدايات الحرب على غزة، وانطلاق عملية "السيوف الحديدة" وهي: إسقاط حكم حماس، وتفكيك بنية الحركة العسكرية، واستعادة الأسرى الإسرائيليين. وتعتبر الدراسة بأن احتلال قطاع غزة يُعدّ خياراً مكلفاً بالنسبة لإسرائيل، كما أنه لا يحمل ضمانات حقيقية للقضاء على حركة حماس. بل قد يُفضي هذا الطرح إلى نتائج متناقضة، بتعزيز موقع حركة حماس في الحكم، وترسيخ سردية النصر في الوعي الفلسطيني، وتكريس ثقافة المقاومة، مما يمثّل معضلة استراتيجية عميقة بالنسبة لإسرائيل.
ترى الدراسة أن حماس لا زالت قادرة على الاحتفاظ بالحكم في غزة، رغم الخسائر التي منيت بها في الحرب. فقد تعرضت بنيتها العسكرية لأضرار جسيمة. إلا أن ذلك لم يؤدّ إلى شلّ قدراتها البرية والصاروخية بشكلٍ كلي، إذ ما زالت تمتلك القدرة على تنفيذ هجمات بأسلوب حرب العصابات.
تفترض الدراسة أن محاولة تحديد المصالح الإسرائيلية في قطاع غزة حالياً مسألة معقدة، وذلك لسببين:
أولاً، صعوبة فصل تعريف المصالح عن الحيز الإدراكي في الخطاب العام بشأن البدائل المستقبلية المطروحة، بدايةً من إقامة دولة فلسطينية، مروراً بإدارة دولية، ووصولاً إلى الهجرة الجماعية. هذا التحديد للمصالح لا ينطلق من رؤية قيمية واضحة، بل من مقاربة وظيفية–ذرائعية تهدف إلى تحسين تموضع إسرائيل الاستراتيجي بأقل كُلف ممكنة، ويُراعي كذلك التغيرات في المزاج الشعبي الإسرائيلي، خاصة في أعقاب صدمة 7 أكتوبر.
ثانياً، غياب إجماع سياسي داخلي حول جوهر المصالح الوطنية، في ضوء الانقسام في المجتمع والسياسة الإسرائيلي، حول ماهية المصالح ذاتها، أو بشأن ما يُعد مقبولاً أو مرفوضاً من ناحية المسموح والممنوع في إطار البدائل التي قد تحقق تلك المصالح.
في هذا السياق، تقترح الورقة أن يتم تعريف المصالح الإسرائيلية الأساسية في قطاع غزة على النحو التالي:
أولاً، استعادة الأسرى من قطاع غزة.
ثانياً، تدمير حركة حماس في قطاع غزة، أو على الأقل تحويلها إلى جهة هامشية من حيث التأثير العسكري والسياسي، ومنع دمجها في آليات الحكم في القطاع.
ثالثاً، الحفاظ على الاستقرار وتعزيزه لصالح إسرائيل، مع التركيز على سكان غلاف غزة، وإزالة التهديدات الأمنية الصادرة عن القطاع سواء من حماس أو أي جهة أخرى.
رابعاً، تحقيق استقرار مدني ومنع الانهيار الإنساني في القطاع، كأساس لتقليص التهديدات الأمنية والأزمات الإنسانية التي قد تنعكس على إسرائيل.
خامساً، تحجيم الموارد العسكرية المُستثمرة في قطاع غزة، بما يتيح تخصيص الموارد لجبهات أخرى، لاسيما إيران والجبهة الشمالية.
سادساً، تقليص الموارد الاقتصادية التي تُستثمر في القطاع، وتقاسم عبء الاستقرار وإعادة الإعمار مع جهات أخرى، خصوصاً في ظل التكاليف الباهظة للحرب، والتكاليف الكبيرة لإعادة إعمار القطاع.
سابعاً، تقليص مسؤولية إسرائيل عن قطاع غزة وتقليل اعتماد القطاع على إسرائيل.
ثامناً، منع التداعيات السياسية والقانونية السلبية على دولة إسرائيل، على خلفية سياساتها وإجراءاتها في القطاع، مثل الدعاوى القضائية أمام المحاكم الدولية.
تاسعاً، الحفاظ على الاتفاقيات القائمة مع الدول العربية، وتحجيم القضية الفلسطينية - بما في ذلك مشكلة قطاع غزة - كعائق أمام التوصل إلى اتفاق تطبيع مع المملكة العربية السعودية، والدفع نحو تحالف أمني- اقتصادي إقليمي مع الدول العربية المعتدلة.
عاشراً، تقليص تأثير كل من إيران وقطر وتركيا في القطاع.
"البدائل الاستراتيجية" الأربعة لقطاع غزة
تُقدّم الورقة تصوراً لأربعة "بدائل استراتيجية" رئيسة بشأن مستقبل قطاع غزة، في ظل التحديات الأمنية والسياسية المتفاقمة بعد حرب 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وتتمثّل هذه البدائل في النحو التالي:
أولاً: تشجيع التهجير الطوعي
تعتبر هذه الرؤية هي الأبرز في الطروحات الإسرائيلية - الأميركية، حيث تقوم على إفراغ القطاع من سكانه، وتحويله إلى منطقة استثمارية برعاية أميركية، بينما تتولى إسرائيل مسألة التهجير.
ثانياً: الاحتلال والإدارة العسكرية
يُشير هذا الطرح المرتبط بإعادة فرض الاحتلال المباشر والإدارة العسكرية على قطاع غزة، إلى سيناريو يتولى فيه الجيش الإسرائيلي السيطرة الكاملة على القطاع، بهدف تفكيك بنية حماس، ونزع سلاحها، ومنع نشوء بدائل راديكالية، من دون تحمّل مسؤولية السكان مباشرة.
ثالثاً: استمرار الوضع القائم
يُعتبر هذا الخيار ما يمكن وصفه بفشلٍ مركّب، إذ يُبقي على حماس كسلطة الأمر الواقع في القطاع، ويضع إسرائيل أمام واقع التعامل مع تهديد دائم من دون تقدم سياسي أو ضمان استقرار أمني.
رابعاً: إقامة حكم فلسطيني بديل
يتناول الخيار الرابع سيناريو تلتزم فيه إسرائيل بعدم تنفيذ احتلال أو عملية عسكرية شاملة في قطاع غزة، وتمتنع في الوقت ذاته عن الدفع بمبادرات سياسية حقيقية لإزاحة حماس، مكتفية بضبط المساعدات وتنفيذ ضربات محدودة.
تلخّص هذه الورقة التقييم الاستراتيجي لخيارات إسرائيل بشأن مستقبل قطاع غزة، وتبيّن أن البدائل المطروحة، من الاحتلال الكامل إلى إقامة إدارة فلسطينية معتدلة، تبقى جميعها محاطة بإشكاليات ومخاطر عالية. ويُعد خيار "استمرار الوضع القائم" الاحتمال الأكثر واقعية، بالرغم من سلبياته، بينما تمثل "الهجرة الطوعية" مشروعاً مغرياً من حيث الهدف، ولكنه مستحيل التنفيذ سياسياً ولوجستياً.
في المقابل، توصي الدراسة باتباع "استراتيجية ثنائية الرأس"، تتمثل بمزج الضغط العسكري المكثف على حماس، بهدف تفكيك قدراتها وتمهيد الأرضية لبناء بديل، جنباً إلى جنب مع مبادرة سياسية لتشكيل حكم فلسطيني معتدل مدعوم عربياً ودولياً، يُسهم في استقرار قطاع غزة وإعادة إعماره بصورة مدروسة، ويُربط في ذات الوقت بعملية تطبيع مع المملكة العربية السعودية ضمن هندسة إقليمية جديدة.
تنبع أهمية هذه الاستراتيجية -بحسب الكاتب- من قدرتها على تحقيق توازن بين الأمن والسياسة، أي بين الضرورات العملياتية والمصالح الدبلوماسية، بما يعزز مكانة إسرائيل الإقليمية والدولية، ويجنّبها الاستنزاف الاستراتيجي الناجم عن سيناريوهات الاحتلال الطويل أو الفوضى المستدامة.
الكاتب: حسين شكرون