مفهوم "حصر النزاعات" يبرز اليوم بوصفه مدخلًا لفهم التحولات العميقة في طبيعة العلاقات بين الدول، سواء على المستوى الدولي أو الإقليمي. فبعد اللقاء الذي جمع أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني بولي العهد السعودي محمد بن سلمان في الرياض، بدا واضحًا أنّ العلاقات بين البلدين تتجه نحو اعتماد هذا النهج كخيار واقعي لإدارة التناقضات المتراكمة.
فقد أعلن لاريجاني أنّ الطرفين بحثا التعاون الدفاعي والاقتصادي، وتقرّر أن تتم متابعة هذه الملفات عبر مجموعات عمل متخصصة، بما يضمن تنظيمًا أكبر للعلاقة. كما جرى الحديث عن إزالة العقبات التي تعيق التعاون الاقتصادي، ومناقشة التدابير الإقليمية لتحقيق الاستقرار، وهو ما يشير إلى أن الرياض وطهران تسعيان إلى بناء علاقة مركبة، لا تلغي الخلافات، لكنها تضعها في إطار يمكن التحكم به.
هذا التطور يعكس جوهر مفهوم "حصر النزاعات"، أي كيفية إدارة التفاعل بين الدول بعيدًا عن منطق القطيعة أو التحالف الكامل. فالمفهوم يقوم على حصر النزاع في مجالات محددة، غالبًا ما تكون عسكرية أو أمنية، مقابل فتح قنوات تعاون في المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية. والغاية من ذلك ليست إنهاء الخلافات، بل منعها من التصاعد إلى مواجهة مباشرة، بما يتيح للدول الاستفادة من المصالح المشتركة وفي الوقت نفسه الحفاظ على مساحة للتنافس.
النظام الدولي بعد الحرب الباردة قدّم بيئة مواتية لتبلور هذه السياسة. فقد تربّعت الولايات المتحدة على عرش القوة لعقود، لكنها ومع تراجعها وصعود قوى أخرى كالصين وروسيا، دخل العالم أعتاب التعددية. وفي هذه البيئة، لم يعد ممكنًا لأي دولة أن تقطع علاقاتها كليًا مع خصومها، لأن الترابط الاقتصادي والتشابك الاستراتيجي باتا يفرضان صيغة أكثر مرونة. العولمة، الأزمات الاقتصادية المتلاحقة، والحروب بالوكالة، كلها دفعت الدول إلى تبني "حصر النزاعات" كخيار لإدارة علاقاتها.
النماذج التطبيقية توضح هذه الصيغة بشكل ملموس. فالعلاقة بين الولايات المتحدة والصين تمثل المثال الأبرز: نزاع محتدم على التكنولوجيا، تايوان، والهيمنة العالمية، يقابله تعاون اقتصادي ضخم يجعل البلدين أكبر شركاء تجاريين في العالم. العلاقة بين إيران وتركيا بدورها تقوم على تناقضات حادة في ملفات سوريا والعراق والقوقاز، لكنها لا تمنع استمرار تدفق الطاقة والتجارة، ولا تحول دون التنسيق في الملف الكردي. أما إيران والإمارات، فعلى الرغم من الخلافات العميقة حول الجزر الثلاث وحرب اليمن وتطبيع أبو ظبي مع الكيان الإسرائيلي، فقد استمرت دبي في لعب دور بوابة إيران إلى الاقتصاد العالمي، وجرى الحديث حتى عن صيغ للتعاون الدفاعي البحري.
العلاقة الإيرانية – السعودية تمثل اليوم النموذج الأبرز لحصر النزاعات. فمنذ سنوات كانت المواجهة بين الطرفين على أشدها، خصوصًا في اليمن، لكن الضربات التي تلقتها السعودية هناك، إلى جانب تراجع الانخراط الأميركي المباشر في المنطقة، دفعت الرياض إلى مراجعة خياراتها. فجاءت المصالحة بوساطة صينية لتفتح الباب أمام مرحلة جديدة. لقاء لاريجاني وبن سلمان يعكس هذه المرحلة: الخلافات لا تزال قائمة حول قيادة العالم الإسلامي والموقف من الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي، لكن في الوقت نفسه هناك بحث جاد عن تعاون اقتصادي ودفاعي منظم. هنا يتجلى المعنى العميق لحصر النزاعات: التعايش مع التناقضات، وحصرها ضمن سقف لا يؤدي إلى قطيعة أو صدام مباشر.
النموذج السعودي – التركي يوضح بدوره المسار نفسه. فبعد سنوات من الخصومة التي بلغت ذروتها عقب قضية خاشقجي، أعاد الطرفان ترميم العلاقة من بوابة الاقتصاد والدفاع، وتم توقيع اتفاقيات في مجالات الاستثمار والصناعات الدفاعية والطاقة. وتركيا – الإمارات شهدتا مسارًا مشابهًا: عقد من الصراع في ملفات ليبيا ومصر وقطر، انتهى بفتح صفحة تعاون اقتصادي واسع وتوقيع اتفاقيات شراكة استراتيجية.
ما يجمع هذه النماذج كلها هو أن الخلافات لم تختفِ، لكنها أُعيدت إلى إطار يمكن التحكّم به. الصراع يستمر غالبًا بالوكالة، أو ضمن ملفات محددة، لكن التعاون الاقتصادي والاستثماري والثقافي يظل قائمًا، بل يتوسع أحيانًا. وهذا يتيح للدول أن تخفف كلفة المواجهة، وأن تبني لنفسها هامشًا من الاستقرار الإقليمي والدولي.
بناءً على ذلك، يمكن القول إن لقاء لاريجاني – بن سلمان يمثل لحظة مفصلية في مسار العلاقات الإيرانية – السعودية، لكنه في الوقت ذاته حلقة ضمن سلسلة أوسع من التحولات الإقليمية والدولية التي تقوم على منطق "حصر النزاعات". وأتت دعوة أمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم بفتح صفحة جديدة مع السعودية قائمة على الحوار ضمن هذا الإطار.
لقد أصبح الاقتصاد العامل، الجامع الذي يفرض التعاون، فيما تبقى الخلافات محصورة ضمن أطر لا تسمح بالتصعيد الشامل. وهكذا يتشكل أمامنا نظام إقليمي جديد يقوم على التوازن والمصالح المشتركة، لا على الإقصاء أو المواجهة المفتوحة.
بهذا المعنى، لا يُقرأ اللقاء الإيراني – السعودي ودعوة الشيخ قاسم باعتبارهما مجرد حدث بروتوكولي ودبلوماسي، بل بوصفه تجسيدًا عمليًا لسياسة أخذت تتكرّس في الإقليم والعالم، حيث تتجاور النزاعات والشراكات في آن واحد، وحيث يصبح التعاون والدفاع المشترك ممكنًا حتى بين خصمين تاريخيين، ما دام الهدف المشترك هو تجنّب الكلفة الباهظة للصراع الشامل.