يرى البروفيسور عوزي رابي الخبير في الجيوسياسة الإقليمية، في هذا المقال الذي نشره موقع قناة الـ 12 الإسرائيلية وترجمه موقع الخنادق الالكتروني، أنه في الوقت الذي لا تزال فيه عملية التطبيع السياسي مع السعودية عالقة بسبب الحرب على غزة، فإن "التطبيع الواقعي" ما زال يحصل تحت السطح، والقنوات التي أُغلقت يبدو أنها تُفتح من جديد. مضيفاً بأن هناك تقاطع للمصالح، وأن العجلة تدور نحو "تطبيع مدني تدريجي". مستخلصاً بأنه بدلاً من الحديث عن "سلام شامل"، يجدر البدء بالتفكير بمصطلحات مثل "السلام العملي".
النص المترجم:
يواجه الشرق الأوسط عام 2025 نقطة تحول حساسة ومفصلية: فمن جهة، لا يزال العصر القائم على الوقود الأحفوري يشكّل الأساس للاقتصاد العالمي؛ ومن جهة أخرى، تشهد المنطقة ثورة تكنولوجية وطاقوية تُعيد تشكيل اقتصاد جديد ذكي وأخضر ومتصّل. بين هذين القطبين يتبلور واقعٌ سياسي-اقتصادي جديد، تتقارب فيه إسرائيل والسعودية – كلٌّ لأسبابها الخاصة – ليس عبر لفتات سياسية، بل عبر مصالح متقاطعة.
الزيارات المتكررة لكبار المسؤولين الأمريكيين إلى كل من إسرائيل والرياض تُبرز عمق هذا التحوّل: فالولايات المتحدة تسعى لإعادة هندسة الفضاء الإقليمي حول ممرّ اقتصادي–استراتيجي يربط الهند والشرق الأقصى بالبحر المتوسط وأوروبا. وضمن هذه المعمارية الجديدة، لم تعد إسرائيل مجرّد شريك أمني؛ بل تتحوّل إلى عقدة للمعرفة والبنى التحتية – مزيج نادر يجمع بين الجغرافيا والتكنولوجيا والقدرة الهندسية.
التطبيع قائم بالفعل، لكنه ليس سياسياً
في قلب الصورة يقف ولي العهد السعودي محمد بن سلمان (MBS) رغم أنه لم يصبح ملكاً بعد، فقد صاغ لنفسه سردية قيادة تحوّلية: قيادة قائمة على التضحية بالراحة، وكسر التقاليد، وقيادة رؤية حديثة وجريئة، تنتقل فيها السعودية من الاعتماد على الموارد الطبيعية إلى اقتصاد قائم على المعرفة والابتكار.
إن "رؤية 2030" ليست مجرّد وثيقة سياسات، بل إعلان هوية وطنية جديدة، تسعى لدمج الثراء التقليدي بالطموح نحو التقدّم.
ورغم أن اتفاق تطبيع كامل مع إسرائيل لا يبدو في الأفق ما دامت القضية الفلسطينية قائمة، فإن العجلات بدأت بالدوران فعلاً. تُبنى بنية تحتية إقليمية للتعاون في مجالات التكنولوجيا المالية، والتقنية، والأمن السيبراني، والطاقة. السعودية تبحث عن أدوات، وإسرائيل تقدّم القدرات. وفي قلب هذه القدرات يكمن عنصر استراتيجي هو البنية التحتية الطاقوية.
تُدرك إسرائيل أن قوتها الحقيقية لا تنبع فقط من جيشها أو من قطاع التكنولوجيا المتقدمة، بل من قدرتها على دمج الاثنين داخل منظومة بنيوية متطورة. فشركة "كاتسا"– على سبيل المثال – يمكن أن تصبح مكوناً مركزياً في إعادة تعريف الاستقلال الطاقوي الإسرائيلي: ليست كشركة نفط فحسب، بل كنقطة تقاطع متعددة الأبعاد – مادية وتكنولوجية ولوجستية – تربط بين البحر الأحمر والبحر المتوسط، وبين الطاقة الأحفورية والخضراء، وبين إسرائيل والممرّ الاقتصادي المتبلور جنوباً وشرقاً.
إن مغادرة وفد مهني إسرائيلي كبير إلى السعودية تشكّل إشارة لما هو آتٍ – دلالة واضحة على أن القنوات التي أُغلقت مع اندلاع الحرب تُفتح من جديد. خلف الكواليس، تُسجَّل حركة حذرة ولكن ثابتة نحو تطبيع مدني تدريجي، يركّز على الاقتصاد والتكنولوجيا والسياحة الدينية. وفي هذا السياق، قد تتحوّل الزيارة المقرّرة للأمير محمد بن سلمان في 18 تشرين الثاني/نوفمبر 2025 (زيارة بن سلمان الى أمريكا) إلى لحظة رمزية – ليست سلاماً كاملاً، بل "سلاماً عملياً": تطبيع جزئي يُضفي غلافاً علنياً على علاقات قائمة فعلاً، ويُشير إلى أن السعودية وإسرائيل تتقدّمان، كلٌّ بطريقتها، نحو عصر جديد في الشرق الأوسط.
القوة لم تعد تُقاس بالصواريخ فقط، بل بأنابيب البيانات والطاقة
بهذا المعنى، لا تُجرّ إسرائيل إلى مشروع أمريكي-سعودي، بل تُعيد تموضعها كحلقة حيوية داخله. فهي لا تجلب إلى الطاولة المعرفة والابتكار فحسب، بل أيضاً بنية تحتية قائمة يمكنها أن تخدم المحور الاقتصادي–الطاقوي الجديد الممتد من خليج عُمان حتى البحر المتوسط، ما يعزز استقلالها وسيادتها الطاقوية في بيئة متحوّلة.
ربما لا يكون التطبيع السياسي قاب قوسين، لكن تطبيع الواقع قائم بالفعل. حول المحور الطاقوي–التكنولوجي تتكوّن تحالفات إقليمية جديدة: السعودية تقود، إسرائيل تندمج، والولايات المتحدة توفّر الغطاء الاستراتيجي. لم تعد هذه "دبلوماسية الأعلام"، بل دبلوماسية الأنظمة والمسارات والبنى التحتية.
وفي عصرٍ بدأ فيه النفط يفسح المجال أمام المعرفة دون أن يختفي تماماً، تقدّم إسرائيل إلى الطاولة التركيب والتخطيط الانتقالي. فكيان مثل "كاتسا" يرمز إلى قدرة دولة صغيرة على تحويل بنيتها التحتية المادية إلى رافعة سياسية، وتحويل انتقالها الطاقوي إلى ميزة جيوسياسية. في الشرق الأوسط الجديد، لم تعد القوة تُقاس بالصواريخ وحدها، بل بأنابيب البيانات وتدفّقات الطاقة، وبالعلاقة بين المعرفة والموارد.
وإسرائيل، التي ترتكز على البحرين الأحمر والمتوسط، تقف في قلب هذه المنظومة، ويُفترض بها أن تكون جسراً بين عصرين.
الكاتب: غرفة التحرير