في مرحلة ما بعد طوفان الأقصى وما رافقها من حرب إبادة مدمّرة على غزة، برزت حركات المقاومة في المنطقة — من حزب الله في لبنان إلى أنصار الله في اليمن وفصائل المقاومة الفلسطينية — كنماذج حية لما يمكن تسميته بـ التكيّف الإبداعي. لم يكن هذا التكيّف مجرد استجابة ظرفية للضغوط، بل مثّل إعادة إنتاجٍ واعيةٍ لهيكلية التنظيم والميدان، على نحوٍ حافظ على تماسكها الداخلي ووسّع قاعدتها الجماهيرية، بل وحوّل الضربات إلى فرص لتعزيز حضورها السياسي والاجتماعي.
لقد وجدت هذه الحركات نفسها أمام تحديات بنيوية هائلة في ظرف زمني قصير من حصار، إلى تدمير للبنى التحتية، قطع طرق الإمداد، واستهداف ممنهج للكوادر والقيادات. ومع ذلك، لم تتفكك كما كان يُتوقّع وكما كان المخطط الإسرائيلي يقضي، بل طوّرت آليات مرنة ومبتكرة للتعامل مع بيئة الحرب المعقدة. ففي غزة، على سبيل المثال، استطاعت المقاومة أن تعيد تنظيم صفوفها بسرعة لافتة رغم القصف الشامل، وأن تحافظ على تماسكها الميداني والإعلامي في آن واحد، عبر نظام قيادة لامركزي يتيح مرونة التحرك واستقلالية القرار التكتيكي. هذا الأسلوب في القيادة يعكس فهماً عميقاً لضرورة توزيع المخاطر وتجنب الشلل التنظيمي الذي يفرضه فقدان الاتصال أو استهداف القادة. ولذا شاهدنا العمليات النوعية التي نفذتها المقاومة بعد أكثر من سنة على الحرب وحققت فيها نتائج كبيرة.
أما في لبنان، فقد جسّد حزب الله بدوره نموذجاً متقدماً للتكيّف الإبداعي على المستويين العسكري والاجتماعي. فبعد حرب عام 2024، وما رافقها من ضغط استخباري واستهداف للبنى العسكرية، تمكن الحزب من إعادة بناء منظومته الميدانية بسرعة، معتمداً على بنية أمنية مرنة وشبكة اتصالات بديلة، أثبتت قدرتها على الصمود رغم شدة الضربات. لم يكن هذا التكيّف عسكرياً فقط، بل شمل أيضاً البعد الرمزي والجماهيري، حيث شكّل التشييع المليوني للشهيد السيد حسن نصر الله في لبنان حدثاً ذا دلالة عميقة، أظهر مدى رسوخ العلاقة بين القيادة والجمهور، ومدى قدرة المقاومة على تحويل الصعاب إلى فعل تعبئة جماهيرية هائلة. كان ذلك التشييع بحد ذاته تجسيداً لما يمثله حزب الله من حالة لجمهوره وتعزز حينها لدى العدو أن هذا التنظيم ومجتمعه يصعب كسره وتحييده عن الواجهة.
وفي اليمن، مارست أنصار الله التكيّف الإبداعي من خلال الجمع بين الموقف السياسي والبعد التعبوي، إذ استطاعت، رغم ظروف الحصار والحرب الطويلة التي فرضت عليها، أن تنصر القضية الفلسطينية وتخوض إلى جانبها معركة الإسناد، وحولت البحر الأحمر إلى سلاح حين فرضت حظر الدخول على كل السفن المتوجهة إلى الكيان وشلت حركة ميناء إيلات. كذلك المسيرات المليونية التي خرجت مراراً في صنعاء ومدن يمنية أخرى دعماً لغزة، عكست فعلاً سياسياً حافظ على زخم المقاومة وربطها وجدانياً بالقضية المركزية للأمة، مما عمّق شرعيتها الداخلية والإقليمية.
هذا النمط من التكيّف الإبداعي لدى حركات المقاومة يقوم على منظومة فكرية وتنظيمية متكاملة، توازن بين الصلابة والمرونة. فهي لا تتشبث بنمط عمل واحد، بل تطوّر أدواتها بحسب ما يتطلبه الميدان كما حدث لحزب الله بعد سقوط النظام في سوريا، حينها واجه الحزب أزمة فعلية خصوصاً أن الحرب كانت قد انتهت حديثاً، لكنه استطاع تجاوزها وتكييف استراتيجياته بما يتناسب مع الظرف الجديد.
إضافة إلى البعد الميداني، تميّز التكيّف الإبداعي لهذه الحركات في المجال التوثيقي، إذ نجحت في تحويل التغطية إلى سلاح مقاوم بحد ذاته حيث كان مجتمع المقاومة يوثق كل ما يتعرض له من اعتداءات وتهجير وقصف حتى خلال فترة النزوح، بمبادرات فردية قام بها كل شخص عبر حسابه الخاص، وكذلك سعى هذا المجتمع إلى توثيق ما يجري عليه بلغات مختلفة ما أوصل صوته إلى دول العالم أجمع. هذا الخطاب شكّل أحد أبرز وجوه الإبداع، لأنه أعاد تعريف مفهوم الحق والظلم ووثق حجم التضحيات والصمود. وعرّف العالم حينها إلى الجنوب اللبناني والضاحية والبقاع وكيف تهجر الأهالي منها بفعل العدوان الإسرائيلي.
إن ما يجعل تجربة المقاومة فريدة هو أنها تمارس التكيّف الإبداعي كوسيلة لتجديد مشروعها. وهذا ما يفسّر لماذا، وبالرغم من همجية العدوان، خرجت هذه الحركات من الحرب الأخيرة أقوى جماهيرياً وأكثر ترسخاً في الوجدان العالمي.
الكاتب: غرفة التحرير