تُظهر التطورات الأخيرة المرتبطة بالحرب الروسية-الأوكرانية أن الإدارة الأميركية برئاسة دونالد ترامب انتقلت إلى محاولة هندسة تسوية شاملة. فترامب لا يكتفي بإعادة توجيه النقاش الدولي حول الحرب، بل يفرض إيقاعاً تفاوضياً جديداً على أوكرانيا وحلفائها الأوروبيين، منطلقاً من قناعة راسخة بأن الولايات المتحدة قدّمت ما يكفي من الدعم العسكري والمالي خلال السنوات الماضية، وأن استمرار النزاع لم يعد يتماشى مع مصالح واشنطن أو أولوياتها الاستراتيجية.
منشورات ترامب الأخيرة على منصة "تروث سوشيال" تعكس هذا التوجّه بوضوح. فالرئيس الأميركي يهاجم القيادة الأوكرانية والدول الأوروبية معاً، متهماً كييف بانعدام الامتنان، ومحملاً العواصم الأوروبية مسؤولية استمرار الضغط على واشنطن لتمويل الحرب، بينما هي تواصل شراء النفط الروسي. وفي الوقت ذاته، يكرر ضرباته السياسية ضد سلفه جو بايدن، مُتهماً إياه بأنه قدّم مساعدات "مجانية" لأوكرانيا وسمح للحرب بأن تطول عبر سياسة الدعم المفتوح بدون شروط.
هذا المناخ التصادمي يوازيه حراك تفاوضي يجري خلف الأبواب المغلقة. ففي جنيف، تناقش وفود أميركية وأوروبية وأوكرانية خطة سلام مكوّنة من 28 بنداً، كشفها موقع "أكسيوس" في 21 تشرين الثاني/ نوفمبرعام 2025، وتُعدّ حتى الآن أكثر المقترحات الأميركية تفصيلاً وشمولاً بشأن مستقبل الحرب. جوهر الخطة يقوم على مقايضة كبيرة: تنازلات أوكرانية إقليمية واضحة مقابل نظام ضمانات غربية- روسية -أميركية تحاول رسم توازن جديد يضمن عدم استئناف القتال مستقبلاً.
البندان الأكثر إثارة للجدل هما الاعتراف الفعلي بسيطرة روسيا على دونيتسك ولوغانسك، وتثبيت وضع القرم والمناطق الأخرى ضمن إطار قانوني جديد تُعد الولايات المتحدة جزءاً منه. هذا البعد يضع كييف أمام معادلة صعبة، عبر عنها الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلنكسي وهي الحفاظ على الشراكة الاستراتيجية مع واشنطن مقابل التخلي عن أجزاء من أراضيها، في لحظة سياسية داخلية متأزمة تتداخل فيها فضائح الفساد، وخسائر ميدانية، واقتراب شتاء جديد مع هجمات روسية مستمرة على البنية التحتية للطاقة.
الرئيس زيلينسكي عبّر عن هذا المأزق قبل أيام بقوله إن بلاده تواجه خياراً "بين فقدان الكرامة أو فقدان شريك رئيسي". وهو كلام يعبّر عن رفض علني للتنازلات، يقابله إدراك بأن الارتباط العسكري-المالي بواشنطن غير قابل للكسر، خصوصاً بعد تعليق المساعدات الأميركية في وقت سابق من هذا العام عقب انتقادات ترامب ونائبه جيه دي فانس لما اعتبراه "نقص امتنان" من كييف.
الخطة لا تقف عند البعد الإقليمي. فهي تعيد رسم موقع أوكرانيا داخل البنية الأمنية الأوروبية، عبر إلزامها بتحجيم قواتها المسلحة إلى 600 ألف جندي، وتعديل دستورها لمنع الانضمام إلى الناتو، مقابل ضمانات أمنية غربية مشروطة وسهلة الإلغاء إذا ما خالفت كييف أو موسكو بنود الاتفاق. كما تشمل حظراً على نشر قوات الناتو في أوكرانيا، وتحديداً بنوداً واضحة تتعلق بالتصعيد النووي، وتمديد اتفاقات حظر الانتشار.
من جهة أخرى، تمنح الخطة روسيا عودة تدريجية إلى الاقتصاد العالمي، بما في ذلك احتمال العودة إلى مجموعة الثماني، بما يجعل الاتفاق أوسع من مجرد تسوية بين دولتين متحاربتين. ويقابل ذلك آلية اقتصادية معقدة لإعادة إعمار أوكرانيا، تشمل استثمار 200 مليار دولار مستخلصة من الأصول الروسية المجمدة، على أن تحصل واشنطن على نصف الفوائد الناتجة عن الجزء الأميركي. هنا يتضح أن ترامب لا يطرح تسوية سياسية فقط، بل يعيد توزيع الأدوار الاقتصادية والمالية على نحو يمنح الولايات المتحدة نفوذاً مباشراً في مرحلة إعادة الإعمار.
أما موسكو، فقد أبدت استعداداً للنظر في الخطة. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قال إن المقترح يمكن أن يكون "أساساً لتسوية نهائية"، لكنه حذّر بأن رفض أوكرانيا سيعني استمرار السعي لتحقيق الأهداف عبر العمل العسكري. هذه الإشارة المزدوجة، تعكس موقفاً روسياً يحاول الاستفادة من التحول الأميركي من الضغط إلى إدارة الملف.
المشهد العام يكشف عن تسوية ثقيلة تتجاوز حدود الساحة الأوكرانية. فواشنطن تريد إنهاء الحرب، وموسكو مستعدة لاستثمار اللحظة، والدول الأوروبية تترقب اتفاقاً يخفف عنها كلفة نزاع طال أكثر من أربع سنوات. أما كييف، فتقف أمام معادلة مفصلية، قبول بنود شديدة القسوة مقابل الحفاظ على الشراكة مع الولايات المتحدة، أو رفضها مع ما يحمله ذلك من مخاطر سياسية وعسكرية واقتصادية.
بهذه المعادلة، تصبح خطة ترامب أكثر من مبادرة دبلوماسية. إنها اختبار لإعادة تشكيل النظام الأمني الأوروبي، وتحديد موقع أوكرانيا ضمنه، ورسم حدود النفوذ الأميركي والروسي في مرحلة ما بعد الحرب.
الكاتب: غرفة التحرير