الجمعة 16 تموز , 2021 08:43

الحريرية السياسية والانهيار الكبير

الحريرية السياسية

"إذا مفكر أي حدا انو الكهرباء رح ترجع ثاني يوم، لا مش رح ترجع، ما في أي نظرة لقدام كيف ممكن تنحل الأمور!" أدرك الرئيس سعد الحريري متأخرًا هذا الواقع، بعد توليه 3 حكومات منذ عام 2009 واعتذاره عن عدم تشكيل الحكومة بعد 9 أشهر على تكليفه.

ولربما أبرز ما قاله الحريري في مقابلته أمس، ان "حزب الله منذ العام 1992 وحتى اليوم يعارض السياسة الاقتصادية الحريرية"، فهو بهذا التصريح قد "اعترف" ببراءة الحزب من كل ما أتت به "السياسة الحريرية" وما جنته يدا "كهنة الهيكل"، والذي كان الحزب نفسه قد تبرأ منها منذ زمن، ولكن لماذا ينظر اللبنانيون إلى الحريرية السياسية "كتهمة"؟

 هذا الواقع "الانهيار الكبير" الذي وصل إليه لبنان، لم يكن نتاج مرحلة ما بعد 17 تشرين فحسب، بل هو صنيعة نظام سياسي منذ أواخر التسعينات، بالتعاون مع حاكم المصرف المركزي، ونتيجة مباشرة للسياسة الحريرية التي بدأ لبنان يشهد آخر فصولها مع اعتذار الحريري.

فكيف هندس القائمون على النظام السياسي هذا الانهيار؟

في العام 1982 ونتيجة احتلال "إسرائيل" أجزاء من العاصمة بيروت لحق بالاقتصاد اللبناني خسائر هائلة أصابته في الصميم، تحديدًا في البنية الاقتصادية الارتكازية، وبهذا الواقع ذهب لبنان إلى اتفاق الطائف الذي رسم له وعوداً تنتهي بالخروج من الأزمة إضافة إلى قوانين حّددت السياسية العامة للدولة، والخطط الاقتصاديّة والتنمويّة وتنظيم قانون انتخاب وتحديد مواقع الرئاسات الثلاث ومسؤولياتها مع التوزيع الطائفي الذي اعتبر الروح الميثاقية للطائف.

في تلك المرحلة كان التّوجه إلى خوض (فترة انتقالية) تكون من دون زعماء المليشيات في الحرب الأهلية، فتم الاتفاق على رينيه معوض رئيسا للجمهورية الذي اغتيل بعد أيام واستلم الياس الهراوي بديلا عنه، إضافة إلى سليم الحص رئيسًا للحكومة، وحسين الحسيني رئيسًا لمجلس النواب، مع هذه التركيبة ومع الإجراءات الأولية التي اتخذتها والتي لم تقر شيئا من القوانين التطبيقية الذي أتى على ذكرها الرئيس الحسيني عند تقديمه لاستقالته عام 2008، شهدت البلاد عام 1992نتيجة هذه الإجراءات انهيارًا للوضع المالي الذي تمثّل بتراجع قيمة العملة الوطنية من 900 ليرة مقابل الدولار إلى 2900 بوقت قصير، ليخرج حاكم مصرف لبنان على اللبنانيين ببيان يقضي بعدم التدخل، ليكون بذلك قد فتح باب المضاربات والسوق السوداء.

تحت ضغط الشارع استقالت الحكومة، وتشكّلت حكومة رشيد الصلح، التي رأت الحل بانتخابات نيابية مبكرة، بناء على اقتراح رئيس الحزب الاشتراكي وليد جنبلاط والنائب نبيه بري -بداعي المرحلة الانتقالية- والتي نتج عنها تولّي الرئيس رفيق الحريري رئاسة الحكومة، وتثبيت سعر الصرف على 1500 ليرة.

بذلك عُلّق العمل باتفاق الطائف حتى لو لم يُعلن عن ذلك بشكل صريح، فكل الإجراءات التي نص عليها الاتفاق لم يعمل بها إلا الشق الميثاقي الذي ينص على توزيع المناصب حسب الطوائف.

باستلام الرئيس الحريري رئاسة الحكومة استلم فؤاد السنيورة وزارة المالية ليبدأ العمل بشكل مختلف، وبحجة ضياع الأوراق واحتراق بعضها الآخر في الحرب، تم تصفير الحسابات وليس تسويتها كما يحصل في أي بلد آخر.

من عام 1993 إلى عام 1997: وهي المرحلة التي انطلقت بها الترويكا، والتي كان هدفها بناء بنية اقتصادية ضخمة في بيروت، ولإتمام هذا الأمر سُلّمت هذه الأعمال إلى شركة خاصة تسمى "سوليدير" قامت بوضع يدها على أملاك خاصة واستباحت الأملاك العامة، الشيء الذي خلق رأسمالاً كبيراً جدا، وللحفاظ على التوازنات القائمة ولِكم أفواه المعترضين أُنشئت العديد من الصناديق مع صلاحيات واسعة ووزعت طائفيًا (مجلس الانماء والاعمار، صندوق المهجرين ومجلس الجنوب) ليبدأ بعدها الانفاق الهائل، والذي غالبًا ما صرف من خارج الموازنة.

1995 عرف لبنان أول مشكلة مالية كبيرة خلقت حاجة للاستدانة فما كان من الدولة إلا ان فتحت الباب أمام سندات الخزينة بمعدل فائدة خيالي وصل إلى 48% على سنتين.

هذا الأمر خلق مشاكل اجتماعية وتفاوت طبقي كبير، نتج عنها تحركات شعبية فما كان من الدولة إلا قمع هذه التحركات وغض النظر عنها، وهنا نذكر وضع الاتحاد العمالي العام في الإقامة الجبرية في مبنى النقابة لساعات متأخرة من الليل لمنعه من التظاهر أثناء زيارة الرئيس الفرنسي جاك شيراك. وللتخلص من فكرة القمع على المدى الطويل قامت الطبقة السياسية بتشتيت الاتحاد الذي انقسم فيما بعد.

وهنا بظل إنفاق كبير زاد الدين العام من 1.7 مليار دولار عام 1992 إلى 15.5 مليار دولار عام 1997 أي خلال 5 سنوات فقط، ولتفادي الوقوع بأزمة جلب الأموال الخليجية وتنشيط السياحة، تم تثبيت سعر الصرف مع إقرار جملة من القوانين التي توفر ظروفًا مواتية للاستثمار مثل إقرار قانون السرية المصرفية مع إهمال قطاعي الصناعة والزراعة لتبدأ بذلك عملية "تهجير" أبناء الجنوب والبقاع من قراهم للعمل في بيروت.

1997: أول أزمة بسبب الشح بالدولار نتيجة مشكلة بنيوية، فالدولار يأتي إلى البلاد بطريقة اصطناعية وليس من الاقتصاد المحلي الذي أصبح ريعيًا بامتياز وليس منتجًا، وذلك نتيجة السياسات الاقتصادية المتبعة.

في هذا العام عقدت "خلوة فقرا" بين الرئيس الحريري والسنيورة ورياض سلامة، نتج عنها إجراءات تشبه ما كان يتحذ دائما: تجميد الأجور، وقف التوظيف في القطاعين، التقشف بكل القطاعات، وبحجة ان الفائدة أقل بدأ الدين بالدولار، غير ان الدولة حينها أغفلت -او ربما عمدًا- عن سؤال أساسي: من أين ستأتي بالدولار لتسديد الديون المستحقة؟ نتج عن هذه الخطوة إعادة هيكلة الدين العام بالعملة الأجنبية، والذي ارتفع من 15.5 مليار دولار عام 1997 إلى 18.2 مليار دولار عام 1998.

وبدأت الاستدانة بالدولار كحل أسهل للأزمات وباتت الأمور على هذه الشاكلة: دين كبير جدًا بعملة لا تمتلكها الدولة، ولا يمكن ان تحصل عليها نتيجة الاقتصاد الريعي، لتحمّل بذلك مسؤولية إيفاء الدين للأجيال اللاحقة، وهذا ما وصلنا إليه الآن.

شهد لبنان مؤتمرات استدانة كانت في كل مرة تراكم ديونًا إضافية يقابلها طلب بتنفيذ "إصلاحات" وتثبيت الوصاية الأجنبية في الدولة العميقة التي حكمت لبنان طيلة عقود، والتي ظلت تُترجم عمليًا من خلال سياسات مالية يصدرها رياض سلامة تشد الخناق على اللبنانيين، ومناكفات سياسية دون أدنى قدر من المسؤولية والتي كانت آخرها اعتذار الحريري.

ثمة رأي بان هذا الانهيار الذي ضرب كافة القطاعات قد يسدل الستار على آخر فصول السياسة الحريرية في لبنان مع تخلي السعودية عن تمويل هذا "البيت"، وكثرة اللاعبين الجدد الطامحين لتولي الرئاسة السُنية.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور