الأربعاء 01 شباط , 2023 04:27

هكذا رأت السعودية إيران والعالم خلال العام 2022

معهد رسانة للدراسات الإيرانية المموّل سعودياً

أصدر المعهد الدولي للدراسات الإيرانية "رصانة" (مركز الخليج للدراسات الإيرانية سابقاً) - أحد "مراكز التفكير" التي ترعاه الدولة السعودية وبعض الدول الخليجية، والذي لا يخفي رئيسه الدكتور محمد السلمي عداءه للجمهورية الإسلامية - تقريره الإستراتيجي السنوي السابع للعام 2022، تحت عنوان "اضطراب النظام الدولي وارتداداته الإقليمية".

وبطبيعة الحال، فإن أكثرية انتاج هذا المركز ستكون بما يتناسب مع الأجندة الخارجية لحكام السعودية، أي بما يتناسب ويتوافق مع سياسات ولي العهد محمد بن سلمان.

عرض عام للتقرير

بداية، استهل التقرير ملفاته باستعراض السياسة الخارجية السعودية، واصفاً إياها بالقوة الإقليمية المؤثرة في الشؤون الإقليمية والدولية، وبأنها استطاعت خلال العام 2022 أن تمارس سياسة خارجية فعالة ومؤثرة على الصعيدين الإقليمي والدولي مثل: الاختبارات التي تعرضت لها العلاقات السعودية - الأمريكية بالتحولات تجاه الحليف الأمريكي والتوازنية القطبية، وموقفها إزاء الحرب الروسية - الأوكرانية وفي "أوبك بلس"، وتطورات المواقف بشأن اليمن والعراق ولبنان وإيران. كما تحدث التقرير عما وصفه بمساعي الوساطة التي بذلتها السعودية في الأزمات، واصفاً بعض المشاريع التي أطلقها بن سلمان بالمبادرات النوعية واللانمطية، مثل مبادرتي السعودية الخضراء والشرق الأوسط الأخضر. وكل هذا بالتزامن مع "الانشغال السعودي منذ سنوات بالتحول الداخلي وتعزيز الهوية الوطنية، وتنويع مصادر الاقتصاد، وترسيخ مكانة المملكة في العالمين العربي والإسلامي، في ظل واقع جيوسياسي مضطرب".

الملخص التنفيذي

انطلق التقرير من الافتراض بوجود تحولات جوهرية طرأت على العلاقات بين القوى الكبرى، تعيد طرح التساؤل بشأن ما إذا كان اشتعال المنافسة الإستراتيجية، والعودة إلى أجواء الصراع بين القوى الكبرى، كمقدمة نحو تغييرات هيكلية في النظام الدولي بما في ذلك زعزعة الأحادية القطبية والهيمنة الأمريكية، ومراجعة النظام الدولي الراهن بصورة تضمن لقوة صاعدة كالصين الاستحواذ على نصيب أكبر من الموارد، بل ربما التمهيد لتبوئها مركز الصدارة في المستقبل. فضلا عن عودة مؤثرة لقوة مؤثرة كروسيا، بعد أن أدخلت العالم في أجواء صراع غير مسبوق لم يشهده العالم منذ الحرب العالمية الثانية.

كانت الحرب الروسية الأوكرانية الحلقة الأولى في التحولات التي شهدتها البيئة الدولية خلال 2022، إذ مثلت أوج المواجهة بين القوى الكبرى منذ نهاية الحرب الباردة، وعدت أكبر حدث دولي خلال هذا العام، بالإضافة إلى أنها اعتبرت من الصراعات التي لها تأثير جيوسياسي واسع النطاق. وتحت عنوان تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على الأمن والنظام الدوليين، تطرق التقرير إلى الدوافع الأمنية والجيوسياسية وراء قرار روسيا بالحرب على أوكرانيا، وتقييم مكاسب وخسائر الطرفين من هذا الصراع، وتداعيات غزو أوكرانيا على الأمن والنظام الدوليين، بما في ذلك التأثير في مكانة الولايات المتحدة ودورها العالمي. ولا شك أن الحرب كانت اختبارًا مهما لمدى فاعلية النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، واختبارًا لكفاءة الشراكة عبر الأطلسي في مواجهة التحديات، فقد تركت هذه الحرب تأثيرًا عالميا واسع النطاق لا تزال تأثيراته ممتدة على المدى المنظور، ويخشى أن تتطور الحرب في أي لحظة نتيجة تقديرات خاطئة إلى سيناريو كارثي على العالم أجمع.

ورغم صعوبة التنبؤ بأي السيناريوهات أكثر احتمالا فإنه على الأرجح قد يستمر تصعيد الطرفين على المدى القصير من أجل تحقيق أكبر قدر من المكاسب لتحسين موقعهما التفاوضي. وعلى المدى المتوسط، قد تتجه الحرب نحو التراجع، إما بالتسوية وإما على الأقل بالهدنة طويلة الأمد، ويبقى سيناريو الحرب العالمية الأكثر استبعادًا، لكن لا يمكن نفيه إطلاقًا.

وطالت أول تأثيرات الحرب الروسية على أوكرانيا الساحة الأوروبية بكل ما حملته من تداعيات جيوسياسية وأمنية واقتصادية وسياسية، ومن ثم كان المحور الثاني في التفاعلات الدولية يدور حول "المأزق الأوروبي وأنماط الاستجابة للتحديات المتصاعدة، باعتبار أن التحدي الروسي فرض واقعا جديدًا أمام الأوروبيين الذين كان بعضهم يتطلع إلى المضي قدما في استقلال إستراتيجي بعيدا عن الولايات المتحدة. تبدد هذا الطموح مع تغيير روسيا للواقع الجيوسياسي في أوروبا، وأصبحت أوروبا أكثر احتياجًا إلى الأمريكيين، وتبدد حلم قوى الاستقلال الأوروبي، بل إن المواقف عبر الأطلسي قد تقاربت في مواجهة الصين، وأصبح الحوار الأمريكي - الأوروبي أكثر اهتمامًا بتثبيت أركان النظام الدولي الذي ترعاه الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون. ومع ذلك فقد واجه الأوروبيون أعنف أزمة سياسية واقتصادية منذ الحرب العالمية الثانية، خصوصا في ظل نقص إمدادات الطاقة، وتنامي الغضب الشعبي من الحكومات نتيجة تدهور الأوضاع، الأمر الذي أسفر عن رحيل عدد من الحكومات، وباتت أوروبا في معضلة حقيقية بشأن الصراع في أوكرانيا، إذ تجاذبت القرار الأوروبي ثلاث اتجاهات عكست الانقسام الأوروبي بشأن التعاطي مع الصراع الأول دعم السلام، والثاني الوساطة الدبلوماسية، والثالث دعم النصر العسكري الأوكراني. ونظرًا إلى هذا الانقسام، يرجح أن تستمر الحال القائمة في أوكرانيا بالنسبة إلى خط المواجهة وعلى مستوى العقوبات المفروضة من قبل الاتحاد الأوروبي، نظرًا إلى استحالة الاتفاق على وجهة نظر واحدة في أوروبا بخصوص فرض عقوبات اقتصادية جديدة على روسيا.

أما الحلقة الأهم في التحولات التي شهدتها البيئة الدولية فكان تصاعد الصراع الأمريكي - الصيني في منطقة "الإندو- باسفيك"، الذي حمل عنوان "معضلة تايوان وتفاقم الصراع الأمريكي الصيني في الإندو- باسفيك". هذا الصراع الذي كان يُخشى أن يتحول إلى حرب شاملة بين الجانبين، وذلك نظرًا إلى تحولات القوة التي قربت الصين صاحبة الرغبة التعديلية، من حيث مؤشرات القوة الشاملة من غريمتها الولايات المتحدة المهيمنة على قمة النظام الدولي. فهذا الصراع بات يعكس تداعيات التوجه الأمريكي لنقل ثقلها الإستراتيجي نحو الشرق لمواجهة الصعود الصيني على الساحة العالمية، إذ تعتبر الولايات المتحدة أن بقاء هيمنتها على النظام الدولي لن يستمر ما لم تضمن الولايات المتحدة تحقيق نفوذ فاعل في هذه المنطقة، بما يحد من صعود الصين لأن الاعتقاد السائد هو أن من يهيمن على "الإندو باسفيك" في المستقبل ستؤول إليه قيادة النظام الدولي، والسيطرة على تايوان هي خطوة مهمة في هذا الطريق. ومع أن الصراع قد بلغ ذروته خلال 2022، لكن يبدو أن الأمور بين الجانبين تميل إلى الحفاظ على منافسة منضبطة لا تقود إلى الحرب، مع تأكيد الجانبين على النهج السلمي لمعضلة تايوان وإبقاء التصعيد قيد السيطرة، وهو ما ظهر في لقاء الرئيسين الصيني والأمريكي على هامش قمة العشرين في إندونيسيا، والحوار الجاري بين واشنطن وبكين. وبطبيعة الحال تُلقي هذه التفاعلات المتسارعة بالعبء الأكبر على الولايات المتحدة، فتزايد الرغبة التعديلية لدى الصين، والرغبة الروسية في استعادة المكانة الدولية على الساحة العالمية، والاستقطاب الداخلي والانقسام السياسي في الداخل الأمريكي، تمثل أهم التحديات أمام احتفاظ الولايات المتحدة بهيمنتها الدولية، وبالتالي كان عنوان هذا المحور الولايات المتحدة والدفاع عن مكانتها في مواجهة التحديات الدولية، إذ استجابت الولايات المتحدة للتحديات بالتركيز على تأكيد القيادة الأمريكية بوصفها أداة رئيسية للتغلب على التهديدات والتحديات العالمية ومحاربة صعود الاستبداد، إضافة إلى تعزيز التحالفات، وتحقيق التوازن بين التعاون والمنافسة، وتأكيد التعددية. وقد ظهرت نتائج الإستراتيجية الأمريكية في منطقة "الإندو – باسفيك" وكذلك على الساحة الأوروبية بعد الحرب الروسية على أوكرانيا. وتُجرى الولايات المتحدة تغييرات مهمة في إستراتيجيتها تجاه بقية الأقاليم، بما في ذلك إفريقيا، فضلًا عن إعادة النظر في التوجهات نحو الشرق الأوسط وعلى الساحة اللاتينية. وما يمكن استنتاجه بشأن الولايات المتحدة هو أنها لا تزال القوة المهيمنة على الساحة الدولية، ولديها القدرة على تحمل عبء القيادة، ودفع تكلفتها في غياب أي قوة منافسة على هذا الصعيد، بما في ذلك الصين. لكن تنامي التنافس مع الصين وروسيا أتاح للقوى المتوسطة مجالا للمناورة والمساومة وتحقيق توازن في العلاقات مع الأمريكيين، والتحرر من بعض القيود والضغوط (وهذا ما يوضّح ويفسر بعض السياسات التي قام بها بن سلمان، والتي عُدت خروجاً من تحت العباءة الأمريكية، لناحية مواقفه الداعمة للدولة الروسية من خلال أوبك +، ولناحية استقباله للرئيس الصيني "شي جين بينغ" بطريقة أفضل بكثير، مما استقبل بها الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن).

هذه التحولات الهيكلية طالت بدورها الاقتصاد العالمي، الذي يُعد أحد الجوانب الأساسية للصراع المحتدم بين القوى المتنافسة، فإضافةً إلى أنه محرك أساسي للصراع فإنه قد تأثر بما جرى خلال عام 2022 وربما ما قبله من هذا المنطلق جرى التركيز على هذه القضية تحت عنوان "أزمات الاقتصاد العالمي في ضوء الصراع بين القوى الكبرى"، إذ جرى التركيز على ثلاث أزمات رئيسية هي : ارتفاع أسعار الغذاء، وارتفاع أسعار الطاقة، بالإضافة إلى تهديدات الركود الاقتصادي، ومن ثم تحليل اتجاهات الاقتصاد العالمي المستقبلية في ضوء التغييرات المتسارعة. فعلى الرغم من أن الحرب الروسية - الأوكرانية كانت وما زالت من أهم أسباب ارتفاع أسعار الغذاء لثقل أثر البلدين الغذائي، فإنّ الأزمة كان لها أسباب قديمة كجائحة كورونا والجفاف، وغيرها من المسببات. ستعاني عشرات الدول ومليارات الأشخاص بسبب تضخم أسعار الغذاء من انعدام الأمن الغذائي بدرجات متفاوتة حول العالم، مع سيناريوهات مستقبلية تميل إلى اتباع الدول السياسات حمائية متنامية. كما تسببت الحرب وما تبعها من عقوبات أوروبية - أمريكية على روسيا في اشتعال أسعار الغاز والنفط، التي صبت في صالح بعض الدول، في مقابل تضرر أخرى، وضربت رفاهية الشعوب الأوروبية على وجه الخصوص. ومن المحتمل أن نشهد تغيرات جوهرية في خريطة الفاعلين الدوليين بمجال الطاقة في المستقبل، خصوصا بمجال الغاز. كما حدثت تطورات مهمة في بيئة الاقتصاد الدولية، كتغير تراتب القوى الاقتصادية الكبرى لصالح الصين وآسيا عامة في السنوات الأخيرة مقابل تراجع نصيب الولايات المتحدة، وبرزت مهددات هامة للاستقرار الاقتصادي العالمي، كالحرب، والتضخم، وتنامي الديون الحرجة لأغلب دول العالم، وما قد يسفر عنها من اضطرابات، كما حدث في سريلانكا. واختتم الملف باتجاهات النمو الاقتصادي العام المقبل، ومحاولة قراءة مسارات الاقتصاد العالمي على المدى الأبعد.

كذلك طال التقرير الصراع الجوانب الأمنية والعسكرية التي جرت تغطيتها تحت عنوان "التطورات العسكرية العالمية وقضايا الأمن غير التقليدي". ففي ظل الصراع أصبحت التكنولوجيا العسكرية في صدارة الحرب، إذ طغى على الساحة تأثير الطائرات دون طيار والصواريخ فرط الصوتية وتكنولوجيات الفضاء والحروب السيبرانية. ففي خضم الحرب الباردة الجديدة وحرب أوكرانيا المستمرة، جرى إدماج التقنيات المتقدمة في العقائد العسكرية والمسارح الفعلية للحرب بشكل أسرع مما كان يتصور في بداية 2022. ويواجه العالم مزيدًا من التهديد بشأن انتشار الأسلحة النووية، لا سيما من جانب إيران وكوريا الشمالية (مع أن التقرير لم يذكر أي دليل حسي على التهديد الإيراني بالأسلحة النووية). وإضافة إلى ذلك، صعدت إلى صدارة المشهد قضية التغير المناخي باعتبارها أبرز التحديات غير التقليدية التي تهدد حياة البشر، فما كان مجالا للتنبؤ في الماضي أصبح واقعا بالفعل، في ظل تزايد درجة التدهور البيني الناجم عن الإجراءات البشرية والنمو السكاني، ودرجات حرارة الغلاف الجوي آخذة في الازدياد، ما يؤدي إلى ذوبان الجليد المفرط، وارتفاع مستويات سطح البحر. كذلك شهد العالم حرائق غابات غير مسبوقة، وأعاصير وفيضانات، وجفافًا. وبينما الوعي العالمي آخذ في الازدياد فإن العمل المناخي لا يزال ضعيفًا. وقد زاد الأمر سوءا بالتراجع عن سياسات العمل المناخي بسبب المخاوف من نقص إمدادات الطاقة نتيجة الحرب الروسية على أوكرانيا، إذ عادت بعض الدول للاعتماد بشكل كبير على الهيدروكربونات، أو محطات الطاقة النووية.

ومن بين القضايا غير التقليدية على الساحة العالمية، التي تبدو مرتبطة بالصراعات والأزمات قضية الهجرة، فالصراعات في الشرق الأوسط الكبير (من أفغانستان إلى سوريا وليبيا وأوكرانيا)، بالإضافة إلى حالات الجفاف والأمراض في عديد من الدول الإفريقية، وضعت قضية الهجرة في واجهة القضايا الشائكة.

ومن ضمن قضايا الأمن غير التقليدي كذلك صعود ظاهرة المقاتلين العابرين للحدود، التي يقع اللوم فيها إلى حد كبير على إيران وروسيا في توظيفهم في حروب الوكالة، إذ يستخدم "فيلق القدس" ومجموعة "فاغنر" جنبا إلى جنب مع "داعش" أفرادًا ذوي دوافع ايديولوجية أو محرومين ماليا، لتنفيذ عمليات عسكرية (وهذا ما يتقاطع بشكل كبير مع البروباغندا الأمريكية الإسرائيلية ضد حركات المقاومة، مع العلم بأن داعش هو صنيعة النظام الوهابي السعودي لذا يبدو أن بن سلمان قد قرّر التبرؤ من هذا التنظيم إعلامياً). المقاتلون الأجانب بالوكالة هم جزء لا يتجزأ من العالم الخفي للاتجار بالبشر والأسلحة والمخدرات (تجد الإشارة هنا إلى أن السعودية وُصفت في أحد المقالات بعاصمة المخدرات في الشرق الأوسط). مع الغزو الروسي لأوكرانيا والعقوبات الناتجة عنه، ازداد الطلب على المرتزقة وحركتهم (وهنا نسي معدّو هذا التقرير الإشارة الى المرتزقة التابعين للسعودية والإمارات الذين ظهر دورهم بشكل واضح خلال عدوان هذه الدول على اليمن).

وأخيرًا تُعد الأزمة التي تمر بها جماعات العنف وتيارات الإسلام السياسي ضمن التطورات المهمة التي شهدتها البيئة الدولية خلال 2022، والتي جرى تناولها تحت عنوان "أزمة جماعات العنف وحركات الإسلام السياسي". في هذا الجانب جرى التطرق إلى تنظيم القاعدة، الذي يمر بأزمة قيادية عميقة بعد مقتل أيمن الظواهري، وتنظيم الدولة الإسلامية "داعش" يواجه تحديات كبيرة في أفغانستان، بعد أن صار استئصاله وكبحه غاية لـ "طالبان"، التي ترى خطورة التنظيم الإستراتيجية على وجودها، ويواجه افولا وتحديات أعمق في إفريقيا من جراء الضربات المتتالية، وعدم وجود قواعد مركزية ينطلق منها ويجند من خلالها. أما بخصوص تيارات الإسلام السياسي فلا يزال التشظي والانقسام مسيطرا على مفاصل جماعة الإخوان المسلمين في مصر، مع انقسامات وخلافات عميقة في الجزائر والمغرب وتونس، وهو ما لم تبتعد عنه كثيرا تيارات الإسلام السياسي الشيعي، التي تتنازع بسبب اختلاف التوجهات والقراءات والانتماءات. وبالمجمل فإن النتيجة الأساسية هي أن هذه التنظيمات والجماعات تواجه تحديات وأزمات حدت من دورها وتأثيرها، ويُتوقع أن تواجه مزيدا من التحديات في ظل المواجهة الدولية والإقليمية لها، وعدم قدرة بعض هذه التنظيمات على إجراء مراجعات وازنة، يمكن أن تعيد إليها دورها على الساحة السياسية(والدليل على ذلك الإنجازات الكبيرة التي حققتها تيارات الإسلام السياسي في كل من العراق واليمن ولبنان!)..  

أما على مستوى التفاعلات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط، فيمكن القول إن الدائرة الشرق أوسطية باعتبارها إحدى أبرز الدوائر الفرعية للنظام الدولي لم تكن بعيدة عن التحولات الدولية التي شهدها العالم خلال 2022، فقد لحقت بها تحولات وترتيبات على خلفية اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، ووقوف واشنطن وبعض العواصم الأوروبية إلى جانب كييف ضد أوكرانيا، وتصاعد الصراع الأمريكي - الصيني حول جزيرة تايوان في منطقة "الإندو- باسفيك" ، ضمن الصراع الدولي الكبير على مركز وموقع القيادة الدولية وطبيعة النظام الدولي ، إذ تتيح تلك التحولات فرصًا أكبر وها مش مناورة أوسع، تسعى الفواعل الإقليمية نحو استثماره لصالح تعظيم مكانتها الإقليمية والدولية في المعادلة الدولية الجديدة.

أسفرت هذه التحولات عن جدل بين منظري حقل العلاقات الدولية حول مستقبل النظام الدولي: هل يستمر أحادي القطبية؟ أم سيتحول إلى تعددية قطبية؟ على خلفية هذا الجدل غيرت الإدارة الأمريكية إستراتيجيتها تجاه الأقطاب الدولية الساعية إلى إرساء نظام دولي متعدد الأقطاب خلال 2022، بتبنيها سياسات تجاه الخصوم، بقصد ديمومة الهيمنة الأمريكية على القيادة الدولية، بينها العودة إلى الشرق الأوسط باعتباره نطاقا إستراتيجيا حيويًا للمصالح الأمريكية، بهدف الدفاع عن المصالح الحيوية التقليدية، مع عدم السماح بتغييرات في ميزان القوى الإقليمي. وفي هذا السياق جاءت زيارة بايدن للمنطقة ضمن رغبة أمريكية في عدم ترك فراغ يمكن أن تملأه الصين وروسيا، وتأمين تدفقات الطاقة، بجانب دعم الإستراتيجية الأمريكية في مواجهة التحديات الإقليمية.

على صعيد السياسة التركية، شهدت دوائر السياسة الخارجية التركية جهودًا مكثفة لتقوية العلاقات الخارجية التركية في عديد من الدوائر الجغرافية حول العالم بسعي القيادة التركية لاغتنام الفرص والمساحات التي وفرتها التحولات الدولية، خصوصا الحرب في أوكرانيا، في سبيل تعظيم مكانتها الإقليمية والدولية، من خلال فرض نفسها وسيطا هاما بين أطراف الحرب في أوكرانيا، مع العمل على تعزيز علاقاتها الدفاعية والسياسية والاقتصادية مع دول آسيا الوسطى والقوقاز والبلقان، بجانب توجهها نحو المنطقة العربية والخليجية لتسوية الأزمات والتوترات العالقة، وجلب مزيد من الاستثمارات الأجنبية للبلاد، على الرغم من التحديات التي تقف أمام مساعيها لتعظيم مكانتها الإقليمية والدولية.

أما على المستوى الإسرائيلي فقد شهدت تل أبيب عددا من التطورات اللافتة، التي من المتصور أن يكون لها انعكاسات ملموسة على واقعها السياسي خلال المرحلة المقبلة. داخليًا، بعد أن هيمن الجمود على العملية السياسية بسبب تفاقم الصراعات بين التيارات السياسية، تمكن معسكر أقصى اليمين بقيادة بنيامين نتنياهو من الفوز بالأغلبية في انتخابات نوفمبر 2022، بل وتكليفه رسميا لتشكيل الحكومة وخارجيًا، تفاقمت التحديات التي تواجه تل أبيب، نظرًا إلى التوتر المتصاعد بينها والمقاومة الفلسطينية، وتفاقم التوتر مع إيران، بالإضافة إلى تنامي تهديدات حزب الله اللبناني. يأتي ذلك وسط تراجع فرص توسيع اتفاقيات إبراهام، في ظل عدم تحقيق أي تقدم في سبيل التسوية السلمية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والتمسك العربي بحل الدولتين، وتأكيد مركزية القضية الفلسطينية.

ويناقش القسم الأخير من التقرير الحالة الإيرانية عبر تناول 3 محاور رئيسية، هي: ملامح المشهد الداخلي، والوجود الإيراني في الإقليم العربي، والتحركات الإيرانية على الساحة الدولية. فيما يتعلق بملامح المشهد الداخلي، مر عام كامل على رئاسة المحافظ (السيد) إبراهيم رئيسي، ظل خلاله الرئيس ومؤيدوه من «المحافظين» ومن خلفهم المرشد (قائد الثورة الإسلامية السيد) علي خامنئي يؤكدون على الدوام نجاح الحكومة في الوفاء بوعودها التي قطعتها للشعب الإيراني. لكن الغضب الشعبي من استمرار تراجع الوضع الاقتصادي وانتهاك الحريات المدنية، والتخبط في السياسة الخارجية، فضلا عن الاحتجاجات المتعددة التي شهدتها إيران خلال هذا العام، والتي كان آخرها تلك التي أعقبت وفاة الشابة الكردية "مهسا أميني" كانت بمثابة استفتاء شعبي على سوء أداء الحكومة خلال 2022 (ويقصد هنا الحرب التركيبية التي شنّت ضد الجمهورية الإسلامية والتي كان للسعودية دور كبير فيها).

الأوضاع الاقتصادية الإيرانية خلال العام الأول لحكومة رئيسي تُظهر أن عام 2022 حمل مجموعة من التحديات الجدية التي واجهت اقتصاد إيران مثل التضخم المفرط الذي بلغ أكثر من 54% في أحد الشهور، كذلك بطء النمو الاقتصادي والاستثماري وتراجع العملة لمستويات قياسية أمام الدولار، الذي ارتفع منذ بداية العام بأكثر من 40%، على الرغم من تحسن وضع الصادرات النفطية والتجارة الخارجية عامة خلال 2022 مع تراخي تطبيق العقوبات الأمريكية، وتتنامي الديون العامة الداخلية للبلاد، مشكلة 50% من الناتج المحلي الإجمالي، ومع الاستمرار في ضخ السيولة لمواجهة عجز الموازنة. وكانت المحصلة على المستوى الفردي تزايد الضغوط المعيشية على المواطنين، وتآكل القوة الشرائية ومعدلات الواقعين تحت خط الفقر، وارتفاع في وتيرة تكرر الاحتجاجات من وقت لآخر. هذه التحديات الآجلة، بالإضافة إلى تحديات أخرى متوسطة وبعيدة المدى جرى التطرق إليها، تجعل استقرار الاقتصاد الإيراني. تقبلا محفوفا بالمخاطر، يشوبه عدم اليقين، وتضع النظام الإيراني تحت ضغوط مستمرة للموازنة بين الحفاظ على النظام وواقع اقتصادي اجتماعي مضطرب. المنظومة الأمنية الإيرانية تعرضت خلال 2022، لعديد من الاختراقات التي طالت بعض المؤسسات والشخصيات بالنظام الإيراني، كعلماء البرنامج النووي، والقائمين على البرنامج الصاروخي. واتسم التعاطي الرسمي تجاه هذه الاختراقات بحالة من التناقض والضبابية، ما بين توجيه التهم إلى خصوم إيران التقليديين وفي مقدمتهم الولايات المتحدة وإسرائيل، والتكتم عن ملابساتها وأسبابها الحقيقية. وكشفت هذه الاختراقات مواطن ضعف المنظومة الأمنية وهشاشتها، نتيجة للهيكلية الضبابية التي تدير الكيانات الأمنية، وتداخل نطاقات المسؤولية فيما بينها، وعدم الرجوع إلى مظلة تنسيقية واحدة تؤطر عملها وتقيد مهامها.

أيديولوجيا، ظهر تحول في مسألتين مركزيتين في الخطاب الشيعي، الأولى أزمة الحجاب في إيران، لا سيما بعد موت مهسا أميني، ونشوب احتجاجات في كل المحافظات، برز معها عنف السلطة، ورفض أي تنازل بخصوص إلزامية الحجاب وتقنينه، أو حتى التساهل مع ما يسميه النظام بـ "الحجاب السيئ "، إذ ترى السلطة أن أي تنازل بخصوص الحجاب سيكون بمثابة هزيمة للقراءة الرسمية للدين، وقد تعقبه مجموعة من التنازلات الأخرى، إضافة إلى أن السلطة تسيس الحجاب بما يخدم مصالحها ويعزز شرعيتها الدينية، باعتبارها سلطة دينية منافحة عن المذهب وتعاليمه.

المسألة الثانية استقالة آية الله كاظم الحائري من التصدي للمرجعية في العراق، ونصيحته لأتباعه ومقلديه بتقليد وطاعة المرشد الإيراني خامنئي، ما تسبب في حرج بالغ للتيار الصدري الذي يقلده أكثر المنتمين إليه في المسائل المستحدثة. فكانت الاستقالة بمثابة ضربة من الحائري للصدر والصدريين لصالح الإطار التنسيقي والقوى الولائية في الداخل العراقي. وحول سياسات إيران الدفاعية، شكل الغزو الروسي لأوكرانيا صفقة مربحة لإيران، ورفعها لتصبح أهم شريك لروسيا، فقد تمكنت إيران بعد بدء الحرب من إبرام صفقات مقايضة للأسلحة كما تشير بعض التقارير لتلقي إيران لدعم فني روسي في المجال النووي. أما علاقة إيران مع الصين فلا تزال أكثر هدوءًا، وتُعدّ الصين مهمة بالنسبة إلى إيران لعدة أسباب، أهمها أنها مصدر رخيص وسهل للتكنولوجيا والمعدات الجاهزة، مثل الطائرات المدنية والعسكرية. ووقع البلدان مذكرة تفاهم يُتوقع أن تكون بمثابة قاعدة للتعاون الثنائي بينهما لعام 2023. وتدعم الصين موقف إيران في مجلس الأمن الدولي، لكن في ظل التطورات التي يشهدها العالم خصوصًا الأزمة الروسية - الأوكرانية، من غير المرجح أن نشهد فعالية المثلث الصيني - الروسي - الإيراني كما كانت الحال سابقا.

أما المؤشرات الاجتماعية فقد تواصل منحناها التنازلي خلال 2022م مقارنة بالسنة السابقة فقد ترافق تصاعد معدلات الفقر والبطالة نتيجة لتداعيات جائحة كورونا أو العقوبات الدولية مع تصاعد الجريمة وتعاطي المخدرات وأشكال الجريمة المنظمة، وتزايد الاحتجاجات الفئوية التي لم تتوقف كالعمال والمتقاعدين. انتهج النظام الإيراني كما في السابق المقاربة الأمنية في مواجهة هذه الاحتجاجات، التي عرفت أكبر موجة بعد وفاة مهسا أميني داخل أحد مراكز شرطة الأخلاق. وكان البرلمان الإيراني قد سبق له تمرير قانون يتيح للشرطة استعمال الأسلحة في أداء مهامها، لذلك مع ارتفاع وتيرة الاحتجاجات اتجه النظام نحو العنف لمجابهتها، خصوصا في المناطق التي تقطنها أقليات كبلوشستان التي شهدت أكبر عدد من القتلى من المرجح أن يتواصل تأزم الأوضاع الاجتماعية خلال عام 2023، وهو ما ستكون له انعكاسات على النظام السياسي.

على صعيد الوجود الإيراني في الإقليم العربي عرفت العلاقات الخليجية - الإيرانية خلال 202 كثيرًا من بوادر التهدئة، كان أبرزها زيارات الرئيس لبعض دول الخليج، وعودة عدد من السفراء الخليجيين إلى طهران وجولات الحوار السعودي - الإيراني عبر الوساطة العراقية. كل هذه البوادر ليست كافية لانتقال العلاقات بين الطرفين إلى ضفة التعاون والتنسيق في ظل عديد من العوائق، في مقدمتها بنية النظام السياسي الإيراني وتضارب رؤى النخب الحاكمة، وتباين المصالح بشأن القضايا الإقليمية، فضلا المستعصية التي ظهرت جليا خلال الفترة الأخيرة بعد اتهام إيران للسعودية بالتورط في الاحتجاجات التي تشهدها إيران (فيما الوقائع والمداولات تؤكد على أن السعودية هي المعرقلة لهذه اللقاءات، خاصةً بعد ربطها هذا الحوار بالملف اليمني حصراً، وتلكؤها في اتخاذ خطوة إعادة العلاقات الدبلوماسية، وربما يعود ذلك الى انتظار بن سلمان إشارات أخرى على تراجع الدور الأمريكي في المنطقة أو انتظار نتائج المفاوضات النووية).

ارتبط الملف اليمني في 2022 بتطورات وأبعاد التحولات السياسية الدولية المتعلقة بتأمين مصادر الطاقة الدولية بشكل أساسي، الأمر الذي جعل الملف اليمني على سلم أولويات القوى الدولية، وشهد زخما دوليًا ودبلوماسيا غير مسبوق بدعم مباشر من قبل التحالف العربي لدعم الحكومة الشرعية، أدى في نهاية المطاف إلى التوصل إلى الهدنة العسكرية، التي أحيت الأمل في إمكانية التوصل إلى حل سياسي للأزمة، إلا أنه محفوف بعقبات، إذ إنّ الهدنة تتعارض مع توجهات النظام الإيراني، الذي يستثمر الأزمة اليمنية بوصفها ورقة ضغط تخدم مصالحه السياسية، ويظهر ذلك بشكل واضح من خلال ارتباط سلوك الميليشيات في عمليات التهدئة والتصعيد بالأجندة الإيرانية .

وشهدت التطورات على الساحة العراقية احتداما في الصراع بين المكونات الشيعية، بعد بروز الخلافات العميقة بين التيار الصدري وبقية المكونات، على خلفية الفشل في تشكيل الحكومة، الأمر الذي وضع العراق أمام أسئلة جوهرية حول مستقبل الدولة، ووضع حدا لحالة الضعف والهشاشة التي تعاني منها في ظل فساد الطبقة السياسية، وتدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وفشل نموذج المحاصصة الطائفية. ولا شك أن هذه التطورات تلقي بظلالها على النفوذ الإيراني في العراق، إذ إنّ الانقسام الشيعي يؤثر سلبا في ذلك النفوذ، وتدرك إيران أن اندلاع اقتتال شيعي في العراق معناه ضرب نفوذها في أهم ساحاته، لاعتبارات الجغرافيا والسياسة والاقتصاد والأمن لأن من شأن أي صراع أن يغير وجهة بوصلة الأذرع من العمل على تنفيذ الأجندة الإيرانية، إلى السعي لتكريس المكانة والسيطرة على القيادة الشيعية، وتراجع حظوظ المكون الشيعي مقابل تعاظم فرص عودة المكون السني إلى الحكم، وفقدان العوائد المالية التي تجنيها إيران من البوابة العراقية بتصدير نفطها إلى العالم الخارجي. وسارعت إيران من أجل تسوية الخلافات بين المكونات الشيعية والعمل على استيعاب الصراع المتصاعد، ومن المتوقع أن تميل الحكومة العراقية الجديدة بتأييد من إيران إلى التهدئة وطمأنة الداخل والخارج، خشية أن تشهد الساحة العراقية توترات تؤثر في استقرار العراق وفي مصالح إيران ونفوذها في هذا البلد الذي تعتبره بوابة لنفوذها الإقليمي ككل. وفيما يتعلق بالعلاقات الإيرانية السورية مثلت الحرب الروسية - الأوكرانية، بالتوازي مع التعثر في مسار الاتفاق النووي الإيراني، ومعهما التصعيد الغربي ضد روسيا وإيران، دافعا للبلدين لمزيد من التقارب على كل المسارات على الساحة السورية. وقد سعت طهران إلى توظيف هذا الانشغال الروسي بمحاولة استقطاب حكومة الأسد سياسيا واقتصاديا، وكذلك عسكرياً. تعزيز التقارب مع باقي أطراف "أستانة"، روسيا وتركيا، ومحاولة حلحلة نقاط الخلاف بين الأطراف الثلاثة، من أهم التحركات الإيرانية خلال 2022، التي سعى فيها نظام طهران إلى تحقيق أكبر قدر من المكاسب على الساحة السورية، في ضوء الضبابية والسيولة الإقليمية والدولية. ويبرز من ضمن أهم المسارات التي شهدها الدور الإيراني في سوريا أيضًا مسار التصعيد العسكري الإسرائيلي والأمريكي ضد النفوذ الإيراني في سوريا، والحسابات الإسرائيلية والإيرانية، وحدود المواجهة بين هذه الأطراف على الساحة السورية.

أما في لبنان، فقد مرّ الدور الإيراني بعدد من التحديات والمصاعب خلال 2022، فلقي "حزب الله"، الذراع الإقليمية لإيران في لبنان، ضربة في الانتخابات البرلمانية اللبنانية، بعد أن أظهرت نتائجها تعرُّض عدد من أقدم حلفائه لتراجع في حصصه البرلمانية، وظهور قوى جديدة في البرلمان مناوئة له. هذا التباين لعب دورًا في دينامية المشهد السياسي اللبناني، والاستحقاقات الحكومية والرئاسية، التي تلت الانتخابات البرلمانية، وأربك في الجانب الآخر "حزب الله" وحساباته في إدارة مصالحه المتشابكة. في المقابل، أعاد ملف ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل - وهو ملف لم يكن ممكنا إنجازه من دون ضمان الوساطة الأمريكية وتمهيد غير مباشر من "حزب الله"- هيكلة الأولويات لدى مختلف الأطراف السياسية اللبنانية، وفي مقدمتها "حزب الله"، الذي وجد فيه ورقة مناسبة لتوظيف فائض قوته، وفرصة لتعويض التراجع الذي لحق بحلفائه على الساحة السياسية اللبنانية.

أما على صعيد التحركات الإيرانية على الساحة الدولية، فإن العلاقات مع الولايات المتحدة تأتي في المقدمة، لا سيما أن ما يزيد على عام ونصف من المفاوضات لم تسهم في تسوية الخلافات بين إيران والولايات المتحدة بشأن الاتفاق النووي، حتى عندما اقترب الجانبان من الوصول إلى خريطة طريق من أجل العودة إلى خطة العمل المشتركة، فإن عدم الثقة وظلال الماضي أعادا المفاوضات إلى المربع الأول. وبينما تعثرت الدبلوماسية وأخفقت الوساطة الأوروبية في تقريب وجهات النظر بين الولايات المتحدة وإيران، فإن الولايات المتحدة عادت إلى تكثيف ضغوطها التي لم تكن تخلت عنها بالكلية، ومن جانبها وسعت إيران جهودها لحل مشكلاتها بعيدا عن الوصول إلى تفاهمات مع الولايات المتحدة والغرب حول القضية النووية، فبينما اتجهت واشنطن لتكثيف العقوبات وتعزيز التحالفات الإقليمية وخلق إجماع عبر الأطلسي ضد إيران، فإن طهران حاولت الاستفادة من التطورات الدولية لتعزيز شراكتها مع الصين وروسيا، وعززت إجراءاتها للتحايل على العقوبات، وعادت إلى الضغط على الولايات المتحدة وعلى مصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة.

وحول التقارب الروسي - الإيراني، فقد انحازت طهران إلى جانب موسكو بشكل كامل بعد الأزمة الأوكرانية، وقد تجلى ذلك في الدعم السياسي والدبلوماسي الإيراني لروسيا في الحرب، ومساندة الأخيرة لإيران في مفاوضات ملفها النووي، فضلا عن الاتفاقيات التي أبرمها الطرفان في مختلف المجالات العسكرية والاقتصادية. نجم عن هذا التطور تقارب وتنسيق أكثر بين روسيا وإيران حول عديد من الملفات الإقليمية، كالملف السوري، والملف الأرميني - الأذربيجاني. ينسجم هذا المسار مع توجهات السياسية الخارجية الإيرانية في ظل حكومة رئيسي، التي تتبنى في توجهاتها الخارجية سياسة "التوجه شرقا"، وتعزيز العلاقات مع دول الجوار. في ظل استمرار الحرب الروسية - الأوكرانية من ناحية، والاحتجاجات في إيران من ناحية أخرى، فإن العلاقات بين البلدين تتجه إلى التحالف أكثر كلما تعرضت العلاقات الخارجية مع بقية دول العالم للتوتر، خصوصًا إذا توترت العلاقات الروسية مع الغرب.

على مستوى التعاون الإيراني - الصيني، بذلت الأخيرة جهودًا واسعة في 2022، حتى مكنت إيران من الحصول على العضوية الكاملة في "منظمة شنغهاي للتعاون"، ولكلا البلدين دوافع لتعميق الشراكة بينهما في ضوء "بريكس"، ما أكسب التكتل أهمية جيوسياسية في سياق العلاقات الإيرانية - الصينية، إذ يمثل الموقع الجيوسياسي لمنطقتي الشرق الأوسط وآسيا الوسطى أهمية كبيرة للبلدين معًا. لكن تحيط بانضمام إيران إلى "بريكس" تحديات السياسة الخارجية والعلاقات الصينية - الخليجية. ويُتوقع أن يحمل عام 2023 عددًا من التطورات ومستجدات العلاقة بين إيران والصين إذ قد تسهل أحداثه في ظل اجتماع بكين وطهران في «منظمة شنغهاي»، وترقب انضمام طهران إلى تكتل "بريكس"، على إيران جني ثمار تطلعها إلى الصين، خصوصًا مع الحرب الباردة الجديدة بين بكين وواشنطن، والخلافات العميقة بين واشنطن وطهران. كما يُتوقع أن يهيئ عام 2023 لزيادة قوة "بريكس" العالمية، لتأتي لاحقا في المرتبة الأولى بوصفها بديلًا للهياكل الغربية، فيما تحتل "منظمة شنغهاي" المرتبة الثانية.

في ما يتعلق بالوساطة الأوروبية في الملف النووي الإيراني، فقد تمحورت حول القوى الكبرى في هذه القارة (فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة)، وأخذت ثلاثة أبعاد أساسية: سياسية وأمنية، واقتصادية. وعلى الرغم من تجاوز الطرفين الإيراني والأمريكي للدور الأوروبي في محطات مختلفة، فإن طبيعة العلاقات الأمريكية - الإيرانية تبقى معتمدة على أهمية الوساطة الأوروبية. أهم معضلة تواجه الأوروبيين في هذا الملف هي أيديولوجيا النخبة الحاكمة في طهران من جهة، وتباين مقاربات صناع القرار الأمريكي الجمهوريين والديمقراطيين للبرنامج النووي الإيراني من جهة أخرى. يضاف إليها تحديان جديدان هما تأزم العلاقات الأوروبية - الإيرانية بسبب الاحتجاجات، وأيضًا الدور الإيراني في الحرب الروسية على أوكرانيا، لذا فإن

تقبل العلاقة خلال 2023 سيرتبط بشكل خاص بالعاملين الأخيرين، لذلك يرجح أن تشهد هذه السنة جمودًا في ملف الوساطة وتأزما بسبب العقوبات الأوروبية الجديدة على إيران.

وحول تشابك المصالح الإيرانية التركية، تراوح العلاقات بين البلدين في دائرة التعاون والتنسيق والتنافس المضبوط في الملفات الإقليمية خصوصا في دول الجوار، فضلا عن عدم تصعيد التوتر في العلاقات البينية، كما حصل مع العملية الاستخبارية الإيرانية في إسطنبول خلال 2022، ويبقى الخطر الأمني الكردي الثابت المشترك بين الدولتين، إذ يتزايد حجم التنسيق لمجابهته، دون أن يقتضي ذلك التوافق التام في إدارة بقية الملفات الإقليمية التي تتباين فيها المصالح.

وأخيرًا، تأتي علاقات إيران مع دول الجوار الآسيوي (أفغانستان وباكستان، وأذربيجان، وتركمانستان وأرمينيا) في مقدمة أولويات السياسة الخارجية للرئيس رئيسي، الذي جعل من "التوجه شرقا" خيارًا إستراتيجيا، على العكس من سلفه (الشيخ) حسن روحاني الذي كان يضع العلاقة مع الغرب في المقدمة. ضمن هذه الرؤية تتحرك الآلة الدبلوماسية الإيرانية على مختلف مستوياتها، لتعزيز العلاقات مع الدول المجاورة في مختلف المجالات، خصوصا في المجال الاقتصادي لتجاوز العقوبات الغربية ضدها. تواجه الأهداف الإيرانية في هذه المنطقة جملة من التحديات التقليدية، كالمشكلات الأمنية الحدودية مع بعض جيرانها، والعلاقة المتوترة مع أذربيجان وأخرى جديدة على غرار عودة "طالبان" إلى الحكم في أفغانستان، والتنافس التركي الإيراني لتوسيع النفوذ في آسيا الوسطى.

لتحميل الدراسة


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور