كان مقدّرا للزيارة التي قام بها الرئيس الأوكراني زيلنسكي إلى البيت الأبيض في اليوم الأخير من شهر شباط/فبراير 2025 أن تكون زيارة عادية جداً، لولا أن الرئيس الأوكراني رفض توقيع الاتفاق الذي كان يُفترض أن يؤدي لما عرف ب "اتفاقية المعادن النادرة" بين البلدين، ولولا حصول جدال كلامي سيّء أمام الصحفيين بين ترامب ونائبه جي دي فانس من جهة، وضيفهما زيلينسكي من جهة ثانية، ولولا لم يُطلب من رئيس أوكرانيا أن يغادر البيت الأبيض مع الوفد المرافق له بلا غداء، ولولا التعليقات والمواقف التي شغلت الرأي العام العالمي كله، تحت سؤال: لماذا جرى ما جرى؟ وبتلك الصورة؟
فيما يلي عرض لبعض النقاط المتعلّقة بالموضوع من منظور التحليل السوسيولجي النفسي وليس السياسي. مع عرضٍ لأبرز الخلاصات التقييمية التي قدمت تقديرات للموقف.
مرت زيارة زيلنسكي إلى البيت الأبيض (الجمعة 28 شباط 2025) بعدة مراحل:
- المرحلة الأولى: استقبال رسمي أمام الباب الرئيسي، مبسّط وضاحك، بدأ بالغمز من مسألة اللباس غير الرسمي.
- المرحلة الثانية: جلسة مع المسؤولين بعيدًا عن الإعلام.
- المرحلة الثالثة: فتح الجلسة أمام وسائل الإعلام: يطرح سؤالًا إن كان كل ما حصل من كلام أمرًا مدروسًا ومخطّطا له؟ ربما.... خصوصًا مع كلام ترامب العفوي في نهاية الجدال: "أظن أننا اكتفينا. لحظة تلفزيونية جيدة. ما رأيك"؟ هنا قرر ترامب أن زيلينسكي "ليس في وضع يسمح له بالتفاوض" وأن تصريحاته تفتقر بشدة إلى الاحترام/ واتّهمه بوضع نفسه في مأزق/ وأنه لا يملك أي أوراق مساومة، ولا يشكر أميركا/ ويقامر باندلاع حرب عالمية ثالثة/ وأنه ضعيف بلا الولايات المتحدة".
- المرحلة الرابعة والأخيرة: بعد المشادة الكلامية غير عادية، اجتمع ترامب مع مستشاريه (نائب الرئيس جيه دي فانس، وزير الخارجية ماركو روبيو وزير الخزانة بيسنت ومستشاريه الكبار الآخرين) ثم أمر بمغادرة الوفد الأوكراني وإلغاء المؤتمر الصحفي له ولضيفه وإلغاء تناول الغداء. في هذه الأثناء كان الأوكرانيون محتجزين في غرفة منفصلة وقريبة وهو أمر غير معتاد عند زيارة أي زعيم أجنبي، إذ يذهبون عادة إلى غرف أخرى، ثم يجتمعون لتناول الغداء. (وهو مالم يحصل مع أن الغذاء كان مجهّزا على عربات في ممر قرب مكتب السكرتير الصحفي، لكن تعليمات صدرت للأوكرانيين بالمغادرة على الرغم من احتجاجهم وطلبهم مواصلة المحادثات. لكن قيل لهم لا).
في الساعات الأولى التي تلت اللقاء، سادت أجواء الدهشة من سلوك ترامب وفريقه، على اعتبار أن الإهانات من قبلهم طالت "حليفًا استراتيجيًا" وشريكًا في حرب أساسية مستمرة منذ ثلاث سنوات. كانت التعليقات تتناول المهانة التي تعرّض لها زيلنسكي، والإذلال الأميركي المتّبع في التعامل مع رؤساء الدول (ولا فرق بين الدول الحليفة والصديقة والعدوّة)، ولكن بعد يوم أو يومين، بدأ المراقبون يتحدّثون عن "الفخ الأميركي" الذي نُصب لزيلنسكي، بدليل فتح اللقاء فجأة أمام الإعلام، لإحراج الضيف أمام الكاميرات والصحافيين (تماما كما حصل مع الملك الأردني عبدالله) وهي حيلة دبلوماسية تسلكها الإدارة الأميركية الجديدة، إذ تجعل الضيف بمواجهة الأمر الواقع، وهو غالباً أمر واقع لا يتفق مع رغبات الضيف ومصالحه، فلا يملك إلّا الإذعان والإحراج.
قابل زيلنسكي المفاجأة بمفاجأة. لم يسكت أمام الإعلام والصحافيين ولم يستحِ. تكلّم بشكل عادي وأعرب عن هواجسه وآرائه، ولو سُمح له بالكلام أكثر لتكلّم أكثر، لكنه قوطع بالاتهامات والعبارات الإذلالية. فوجئ ترامب العجوز ونائبه الشاب بعدم انصياعه وبعدم رضوخه، فكالوا له من الإهانات ما كالوه. لأجل هذا التسلسل، رأى بعض النقاد أن زيلنسكي تحوّل إلى بطل إذا ما قورن موقفه بموقف الملك الأردني، الذي تعرّض لنوبة عالية من التوتر والضغوط النفسية، ظهرت أعراضها الجسدية مباشرة من خلال الحركات اللاإرادية والتقلّصات، التي ضربت أعصاب العين والوجه عنده، وأمام كاميرات الإعلام والصحافيين.
تساؤلات حول دوافع السلوك "الترامبي"
ما صدر عن ترامب ونائبه، جعل الكثيرين يتساءلون عن الدوافع التي جعلت الأمور تصل إلى هذا التعقيد، لماذا عومل الضيف وهو رئيس دولة كبرى بتلك الطريقة المهينة؟ لماذا تهجّم عليه ترامب ونائبه في الوقت الذي تفرض فيه اللياقات الديبلوماسية أن يحاول أحدهما أن يرخي إذا لاحظ أن الآخر يشدّ أكثر من المعتاد؟ لا بدّ من تحليل بعض الدوافع التي تؤدي للفرضيات التالية:
ينظر ترامب والحزب الجمهوري في أميركا إلى بعض المصالح مع روسيا. فعلاقة ترامب والحزب الجمهوري مع روسيا بخلاف علاقة بايدن والحزب الديمقراطي. هذا التباين في المواقف ربما يكون قد دخل كعاملٍ على خط الصراع، لأن أولوية ترامب هي دائما المصالح والمكاسب والأرباح، وليس الأشخاص أو تاريخ العلاقات. لقد صرّح ترامب للصحفيين بعد اللقاء قائلاً إنه لا يعتقد أن زيلينسكي يريد السلام. فهل سيصدّق العالم قوله؟
الضغوط المادية والتحدّيات الاقتصادية
يعتقد ترامب أن إدارته وبلاده تعانيان من ضائقة مادية وتحدّيات اقتصادية، وقد عوّل على اتفاقية المعادن آمالًا كبيرة للتخفيف من الأزمات المادية، لكن رفض زيلنسكي سبّب مفاجأة غير سارّة، لهذا تصرّف ترامب ونائبه بسلوك عدواني كبير على المستوى اللفظي والمعنوي. لقد هدّداه بإيقاف التمويل والمساعدات بشكلٍ كلَي إذا رفض التوقيع على اتفاقية المعادن، وعلى الرغم من التهديد فإنه لم يوقّعْ ولم يرضَ بتنازلات أكثر، وهذا ما أدّى بالفعل إلى إيقاف بعض الأنظمة التمويلية لكثير من المشاريع التي كانت تحظى بالدعم الأميركي المالي.
هل كان توزيع الأدوار الذي بدا كأداءٍ متفق عليه سابقًا بين الرئيس ونائبه، رسالة تحذيرية وتهديدية إلى أوروبا كلها؟ خصوصًا وأن البيت الأبيض لم يوجّه دعوة رسمية للزيارة، وأنّ ترامب كما قيل لم يكن يرغب باستقباله، والرئيس الفرنسي ماكرون أوعز له بالذهاب إلى واشنطن، والأوروبيين عملوا على إقناعه بالزيارة وإتمام صفقة المعادن. حين لم يحصل ترامب ومساعده على قبول زيلنسكي بشروطهما، قال نائب الرئيس فانس محتدّا: "من غير اللائق أن تأتي إلى المكتب الأبيض وتحاول المجادلة أمام وسائل الإعلام.. لديك مشاكل كثيرة. عليك أن تشكر الرئيس. (تُلاحظ هنا صيغة الأمر والنهي والإيعاز) وقد تكون مواقف ترامب ونائبه رسالة أميركية إلى روسيا، مفادها أن العلاقة مع أوروبا لم تعد بالمستوى الذي كانت عليه. وفي الوقت عينه هي رسالة إلى أوروبا، تقول هذا هو حجمكم الجديد.
رأى بعض المحللين أن السلوك الأميركي يحتوي على أكثر من رسالة للقارة الأوروبية كلها. وقد كرر ترامب جملته موبخًا رئيس أو كرانيا "بلادك في مأزق كبير. بلادك في مأزق كبير" هذا يعني وكأنه يقول للأوروبيين: ستحتاجون أنتم إليّ وإلى مساعدتي ودعمي ومشاريعي وخططي ولست أنا من يحتاجكم.
استصغار لشخصية زيلنسكي واحتقار معتقداته
يرى ترامب في شخصية الرئيس الأوكراني زيلنسكي، شابًا صغيراً (على الأقل مقارنة بعمره) قليل الحنكة السياسية والفهم بالمصالح الاستثمارية الكبرى، لذلك هو لا يستطيع أن يعامله بطريقة أخرى. كان سلوكه معه أشبه بتعامل الكبير مع طفل صغير، يحوطه بيديه في الاستقبال، يقول له ملابسك أنيقة وجميلة (بعد أن سخر منها في البداية)، ثم يحرّك يديه عدة مرات بحركات عدائية تجاهه، وفي إحدى المرات بدا وكأنه يوشك أن يدفعه نحو الخلف. ما ظهر هنا هو الاستصغار لصورة رئيس الدولة الكبيرة، الآتي بلا بدلة رسمية أيضًا، وهذا ما يصنّفه الأميركيون في خانة الاستهزاء بأعرافهم وبروتوكولاتهم الديبلوماسية.
إلى أي مدى لعبت المعتقدات الشخصية التي يؤمن بها ترامب دورًا في تحقير زيلنسكي أيضًا؟ من حيث النوع الاجتماعي والانحرافات الجنسية ذات الميول الشاذة للرئيس الأوكراني، وهي معتقدات يحاربها ترامب علنًا، ويحتقر ذويها ويعمل على إقصائهم، فهل تكون النظرة بهذا الخصوص أسهمت في الرغبة بتحقير الرجل أكثر؟
هل يحاول ترامب أن ينتقم في العام 2025 مما حصل له مع زيلنسكي في العام 2019؟ حين طلب ترامب من نظيره الأوكراني فتح تحقيق في أنشطة بايدن وابنه هانتر مهدّدا بحجب المساعدات الأميركية عن كييف من أجل الانصياع لطلبه. يومها لم يكن بايدن رئيسًا، بل مجرد مرشّح محتملٍ للوقوف بوجهه، لكن ترامب لا ينسى أشياء كثيرة، قد يكون هذا التفصيل منها، وحان وقت السداد بالنسبة له. حان وقت السداد أيضًا لموقف زيلنسكي الذي زار أميركا وشارك في حفل انتخابي داعم لكمالا هاريس، بمعنى آخر كانت مواقفه وآراؤه ضد ترامب، وترامب ونائبه على ما يبدو لا يحبان العفو ولا المسامحة ولا النسيان.
الديبلوماسية الأميركية الاستعلائية كما تمظهرت في اللقاء
"تربيح الجميل" والتلويح بالأصابع تقريعًا وتحقيرًا
كلن اللقاء مشبعًا إلى أقصى حد بما يسمّى "تربيح الجميل" الذي يتناقض عادة مع القيم الأخلاقية، لكن بالنسبة للديبلوماسية الأميركية فالأمر سمة وعادة وطبع، لكنه يترك سؤالًا: ترى لماذا لم يُستعمل الخطاب نفسه مع نتنياهو؟ والقيادات الإسرائيلية؟ وهو خطاب ينطبق على الكيان الصهيوني بكل تفاصيله، من قبيل:
- لم تكن وحيدًا، لقد وفرنا لك العتاد العسكري. استخدمت معداتنا العسكرية في هذه الحرب
- رجالك شجعان لكنهم كانوا يحظون بجيشنا.
- لو لم تحصل على عتادنا العسكري لانتهت الحرب في غضون أسبوعين. يومين.
- شعبك يموت لديك نقص في أمور عديدة.
الخطاب الذي وجّه للرئيس الأوكراني جاء محمّلا بنوع من التأنيب والتحقير، يخيّل للباحث أن ترامب ونائبه جلسا لوقت طويل مع خبراء نفسانيين للاستعداد لهذه المواجهة الساخنة، كأنّ الثلاثة لاعبون على حلبة مصارعة والجمهور ينتظر من سيفوز بالضربة القاضية. تناوب الشريكان الأميركيان توزيع الدوار الكلامية المهينة.
- أنت تغامر بحياة الملايين
- أنت تقامر بحرب عالمية ثالثة.
- اصغ إليّ
- أعرب عن بعض الامتنان للولايات المتحدة الأميركية
- ليس مسموحا لك أن تتكلم
الفوقية والصلف والتكبر والاستعلاء
مع إصبع التقريع الذي لا يتوقف قال ترامب عن زيلنسكي بنوع من الاحتقار أو اللامبالاة "قال إنه سيأتي ولا مانع لديّ أن يأتي إذا كنا سنوقع على اتفاق/ ليس مسموحا لك أن تتكلم/ استخدمتَ معداتنا العسكرية في هذه الحرب/ لولا معداتنا لانتهت الحرب/ كيف تقول تُركتم لوحدكم؟ أتحدث عن الدبلوماسية التي ستنهي الدمار اللاحق ببلدك...
إذلال الآخر جزء من سلوك طبيعي لدى الديبلوماسية الأميركية: نلاحظ تكرار صيغة فعل الأمر في كلام فانس (قل شكرا) وزيلينسكي يرد: قلتها مرات عدة. يعاود المضيف التكلم بازدراء وغضب: هل تقدمت بالشكر ولو لمرة؟ أعرب عن بعض الامتنان للولايات المتحدة الأميركية وللرئيس الذي يحاول إنقاذ بلدك...
في تعبير ترامب حول موضوع البدلة الرسمية، سأل ضيفه في البداية وهو يستقبله أمام المدخل الرئيسي ساخرًا ومستهزئًا: ألا تملك بدلة رسمية؟ انظروا، انظروا إليه... ولكن في الجزء الثاني من حديث البدلة أمام الصحافيين، تكلم ترامب بلغة أبوية وتدخّل كداعمٍ معنوي، كمن يدافع عن طفلٍ يتعرض للتنمر، هذا ما بدت عليه الصورة وهو يقول: "أنا أحب ملابسك، أعتقد أن ملابسه جميلة وهي ملابس أنيقة (كرّرها مرتين) وكأن ترامب يتمنى أن يرتدي ملابس مشابهة خالية من الرسميات. يقع هذا التفصيل في دائرة التنافر المعرفي الواضح، بحيث لم يستطع ترامب تحديد موقفه الذي راوح بين متناقضين.
مستقبل العلاقة مع أوروبا
العقلية الأمريكية تريد الآخر على مقاسها هي، وكما تريد هي، وكما ترغب بحسب معاييرها الخاصة، لم تعتد أميركا كثيرًا في تاريخها الحديث على من يتحدّاها أو يرفض إملاءاتها، والرئيس الأوكراني لم يبدِ تحدّيًا بقدر ما أبدى نوعّا من التملّص من اتفاقيات جائرة، لكنه تسبّب بإلغاء صفقة المعادن على أية حال، وتسبّب بنقمة أوروبية كبيرة تجاه إدارة ترامب، وهي نقمة آيلة إلى التصاعد، ولربما أدّت إلى قرارات مفاجئة على صعيد التعاون بين القارّتين، والتعاون لم يعد كما كان بعد الإجراءات الجمركية الجديدة وقرارات إقفال المصانع خارج الجغرافية الأميركية، ولذلك كله فإنّ هذا اللقاء يعدّ نقطة تحوّل مهمة، قد ينتج عنه قرارات مصيرية في أمكنة أخرى. (مثلما حصل مع السياسة الإيرانية، التي أكدّت على العواقب السيئة للمفاوضات مع الجانب الأميركي، وما يُنتظر من ردّات فعل عربية في الفترة القادمة).