في خطوة لا يمكن فصلها عن المزاج الشعبوي الذي يحكم السياسة الأميركية، قررت إدارة دونالد ترامب إعادة فرض رسوم جمركية على واردات الصلب والألمنيوم من الاتحاد الأوروبي. لم يكن القرار مفاجئاً تماماً، لكنه حمل نبرة استفزازية واضحة لحلفاء الولايات المتحدة في لحظة حرجة من التوازنات العالمية. فبينما تتصاعد التحديات الاقتصادية في القارة العجوز، اختارت واشنطن أن تزيد فجوة الأزمة اتساعاً بدل مد يد المساعدة.
أول سؤال يجب أن يُطرح هو: من المستفيد فعلياً من هذه الرسوم؟ الإدارة الأميركية تروّج لها كدرع لحماية الصناعات المحلية، وتوفير فرص العمل للعمال الأميركيين. لكن الواقع أكثر تعقيداً. معظم الشركات الأميركية المصنعة تعتمد على معادن مُستوردة، سواء من أوروبا أو غيرها، ويعني هذا أن الرسوم سترفع كلفة الإنتاج داخلياً قبل أن تُؤذي أي مصنع أوروبي.
المفارقة أن من يُفترض أن يستفيد -قطاع المعادن الأميركي- سيجد نفسه في مواجهة ارتفاع تكاليف المدخلات، وتباطؤ الطلب الخارجي، وقيود مضادة على صادراته. باختصار، ترامب يبيع وهم الحماية في سوقٍ لا يحتمل إلا الحقائق.
الاقتصاد الأوروبي، المثقل أصلاً بأزمات الطاقة والتضخم وتباطؤ النمو، لا يتحمّل صدمة إضافية بهذا الحجم. الرسوم الأميركية جاءت لتزيد الضغوط على قطاعات استراتيجية، وعلى رأسها الصناعات الثقيلة، التي تشكل ركيزة للاقتصاد الألماني والإيطالي.
ما فعله ترامب هو ببساطة تصدير أزماته إلى الخارج. الولايات المتحدة لا تستطيع حل مشاكلها البنيوية في سوق العمل أو الصناعة عبر رفع الجدران الجمركية، لكنها تصر على معاقبة حلفائها كلما عجزت عن مواجهة تعقيداتها الداخلية. أوروبا ليست خصماً، لكنها تُعامل ككبش فداء.
المثير للقلق أن هذه الإجراءات لم تعد مجرد قرارات اقتصادية ظرفية، بل تعكس نمطاً سياسياً متعمّداً. الرسوم الجمركية أصبحت أداة تفاوض سياسي، يُلوّح بها ترامب كلما أراد فرض أجندته على الشركاء الأوروبيين. نحن أمام رئيس يتعامل مع الاتحاد الأوروبي كخصم تجاري، لا كحليف استراتيجي.
وهذا بحد ذاته يفتح الباب أمام تصدّع طويل الأمد في العلاقات الاقتصادية داخل الحلف الغربي. فكيف يمكن الحديث عن جبهة موحدة في وجه روسيا أو الصين، بينما تُمارَس سياسات تجارية انتقامية بين واشنطن وبروكسل.
الرسوم الحمائية لا تُقوّي الاقتصاد الأميركي، بل تُربكه. فهي تؤدي إلى ارتفاع الأسعار للمستهلك المحلي، وتُضعف القدرة التنافسية للشركات التي تعتمد على الواردات. تجربة 2018 يجب أن تكون كافية لإثبات ذلك، لكن إدارة ترامب لا يبدو أنها تتعلم من التجارب السابقة.
واللافت هو توقيت القرار. في لحظة يبحث فيها العالم عن تنسيق أوسع لمواجهة تباطؤ الاقتصاد العالمي، تضرب الولايات المتحدة عرض الحائط بكل التفاهمات، وتصر على التصرف كقوة منفردة. وتكون النتيجة خسائر متبادلة، وشعور أوروبي متزايد بأن واشنطن لم تعد شريكاً يمكن الوثوق به اقتصادياً.
ما يُنتظر من أوروبا اليوم ليس فقط رداً تجارياً تقنياً، بل موقفاً سياسياً واضحاً. هذا النوع من السياسات الأميركية يجب أن يُواجَه برفض جماعي، وبإعادة التفكير في طبيعة العلاقة مع إدارة تُعيد تعريف الشراكة الاقتصادية بمنطق الابتزاز.
أعلن الاتحاد الأوروبي عن رسوم مضادة، لكنه ما زال يتحرك ببطء، وبنبرة دفاعية. في المقابل، من الضروري تبنّي خطاب أكثر صرامة، يعيد التأكيد على أن العلاقات عبر الأطلسي لا يمكن أن تبقى رهينة نزعات رئيس أميركي يفتقد إلى استقرار الرؤية.
حين يستخدم ترامب الرسوم الجمركية كسلاح سياسي، فإنه لا يدافع عن الاقتصاد الأميركي بقدر ما يُعزز سردية "أميركا في خطر"، وهي السردية التي بنيت عليها حملته الانتخابية. لكنها سردية خاسرة، لأنها تعيد تشكيل الاقتصاد العالمي وفق منطق المواجهة لا التعاون.