في لحظة سياسية بالغة التناقض، وبينما كان دونالد ترامب يعانق الحكام في الرياض متحدثًا عن "السلام" و"صفقات المستقبل"، كانت طائرات "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" تُفرغ حممها على محيط مستشفى غزة الأوروبي في خان يونس، بقنابل خارقة للتحصينات، لا يمكن لأي منطق عسكري أو أخلاقي أن يبرر استخدامها سوى منطق الإبادة الجماعية. جدعون ليفي، أحد الأصوات القليلة المتبقية في "إسرائيل" التي ما زالت تكتب بما يشبه الضمير، أسماها بوضوح: "عربات الإبادة الجماعية"، في إحالة لا تخفى على أحد، ليس فقط إلى اسم العملية العسكرية "عربات الإبادة"، بل إلى المسار التاريخي للإبادة كسياسة مُمنهجة.
لغة الدم والنفاق
هنا يتجلى بوضوح النفاق الأخلاقي والسياسي: من جهة، تجري محاولات أميركية لإنهاء الحرب قبل مغادرة ترامب للمنطقة، ليس انطلاقًا من حرص على الأرواح، بل خشية أن تُشوه مشاهد المجازر جمالية الصور التذكارية التي تجمع ترامب بمحمد بن سلمان أو قادة الإمارات. ومن جهة أخرى، تضرب "إسرائيل" مخيمات اللاجئين في جباليا، وتُهدم المنازل على رؤوس ساكنيها، فيما يُوثق أكثر من مئة شهيد ومفقود في ليلة واحدة، دون أن يهتز جفن رسمي في واشنطن، ولا أن تُعقد جلسة عاجلة في مجلس الأمن قادرة على اتخاذ قرار غير مشلول بالفيتو الأميركي.
إن سياسة "إسرائيل" الحالية، كما يشير ليفي، لا تسعى فقط إلى "الردع" أو حتى إلى "القضاء على حماس" كما تزعم خطاباتها المعلنة، بل هي امتداد واضح لما يمكن وصفه بـ النسخة الصريحة من التطهير العرقي، وهي تعبير مباشر عما ظل، لعقود، محجوبًا تحت طبقات من الدبلوماسية اللغوية: التخلص من الفلسطينيين بالكامل من قطاع غزة.
"السنوار" ليس الهدف… غزة هي الهدف
من المثير للانتباه أن التبرير الإعلامي لقصف مستشفى خان يونس كان اغتيال محمد السنوار، شقيق يحيى السنوار، الذي اغتالته "إسرائيل" سابقًا. لكن ليفي يفكك هذه الرواية كما يفعل باحث نقدي في تفكيك بروباغندا الحرب: حتى لو كان السنوار موجودًا هناك، لا يمكن تبرير قصف محيط مستشفى بـ9 قنابل خارقة. فما بالك إذا لم يكن موجودًا، وكانت الضربات تهدف أساسًا إلى إرضاء شهية صحيفة مثل "يديعوت أحرونوت" لتحتفل بـ"خبر مقتل السنوار الثاني"، في نوع رخيص من التسويق السياسي الدموي؟
الحقيقة أن "السنوار" ليس الهدف. ولا حتى "حماس" بالمعنى الحركي الضيق. غزة نفسها، بسكانها، ومخيماتها، ومستشفياتها، ومدارسها، ومؤسساتها المدنية، هي الهدف. لا لأن "إسرائيل" "تخشى من قوة حماس"، بل لأنها تريد هدم النموذج الفلسطيني برمّته: نموذج البقاء في وجه الحصار، والولادة تحت القصف، والصمود في مخيمات اللاجئين منذ أكثر من ٧٧ عامًا.
الجوع كسلاح: عندما يتحوّل الغذاء إلى أداة في مشروع الإبادة
من يقرأ تقارير "أطباء بلا حدود"، و"اليونيسيف"، وبرنامج الأغذية العالمي، يظن للوهلة الأولى أنه يطالع وثائق تاريخية عن مجاعة بنيت بالحصار في حرب القرن الماضي. لكن الحقيقة أنها وقائع اليوم: أكثر من 65 ألف طفل في غزة مهددون بالموت بسبب سوء التغذية، و57 طفلًا ماتوا جوعًا حتى الآن. الأدوية ممنوعة، المواد الغذائية عالقة على الحدود، المستشفيات تُجبر على تقنين ما تبقى من المعدات، وفرق الإغاثة مُنعت لأكثر من 10 أسابيع من إدخال المساعدات.
لقد تحولت المجاعة من نتيجة غير مقصودة للحصار، إلى استراتيجية متعمّدة لإخضاع السكان. هذه هي الصيغة الحديثة من "التجويع الجماعي"، تمامًا كما حدث في أماكن أخرى من التاريخ، حين استخدم الجوع كسلاح في وجه المدنيين. الفرق أن "إسرائيل" تمارس ذلك بدعم أميركي صريح، وتواطؤ دولي مفضوح، وتغطية إعلامية لا تزال تتحدث عن "الدفاع عن النفس".
المشروع الأكبر: التهجير لا الإبادة فقط
ما يُخفيه الخطاب "الإسرائيلي" - ويكشفه التحليل النقدي - هو أن المجازر ليست فقط فعل إبادة. إنها أداة في مشروع تهجير منظم. عملية "عربات الإبادة"، التي تجري حاليًا تحت مسمى "حرب على الإرهاب"، تهدف في جوهرها إلى إعادة احتلال قطاع غزة، وربما دفع جزء كبير من سكانه إلى سيناء أو المنافي. لقد فشلت "إسرائيل"، ومعها كل حلفائها، في أن تُخضع غزة سياسيًا واقتصاديًا، فاختاروا الطريق الأسهل: الهدم الكامل، والترحيل، ثم إعادة تشكيل القطاع وفق معايير جديدة، خالية من المقاومة، وخالية من الفلسطينيين إن أمكن.
هذه ليست فرضية راديكالية. بل مشروع يطفو على السطح في كل مرة يُعاد فيها طرح "الحلول الإقليمية"، أو "مستقبل غزة بعد حماس". السؤال ليس: كيف نوقف إطلاق النار؟ بل: ما الهدف النهائي من هذه الحرب الطويلة والمستمرة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023؟
التواطؤ الأميركي: ترامب ليس الاستثناء بل القاعدة
وجود دونالد ترامب في الرياض لا ينبغي أن يُنظر إليه كمجرد "حدث دبلوماسي"، بل كتجسيد للعلاقة العضوية بين المشروع الصهيوني والمشروع الأميركي في المنطقة. فترامب لا يختلف كثيرًا عن الإدارات التي سبقته، إلا في أنه أقل خجلًا. في عهد بايدن، قُتلت عشرات الآلاف من المدنيين في غزة. وفي عهد ترامب، يُمهّد المسرح لما يُحتمل أن يكون أكبر عمليات التهجير بعد نكبة 1948.
الفرق الوحيد أن ترامب يعلن ذلك صراحة، بينما يتحدث غيره عن "حل الدولتين"، و"المساعدات الإنسانية"، و"الحقوق الفلسطينية"، بينما يواصلون تمويل آلة القتل، ويؤمّنون الحماية الدبلوماسية للمجرمين.
هل من رادع؟
جدعون ليفي ختم مقاله بمرارة: "ما حدث أول أمس الأربعاء في غزة ليس سوى عرض ترويجي لما سيحدث في الأشهر المقبلة". والمفارقة أن هذا العرض يجري على أنقاض الأمل، وتحت أنظار منظمة الأمم المتحدة، التي تملك خطة جاهزة للإغاثة لكنها تنتظر إذن القاتل كي تنقذ الضحية.
في واقع كهذا، لا يمكن التعويل على المؤسسات الدولية، ولا على الإدانات الغربية، بل فقط على قوة الشعوب، وعلى تحركات الشعوب الحرة في كل مكان، لكشف هذه الجريمة وتفكيك سردياتها، ومحاسبة مرتكبيها، وإعادة الاعتبار إلى الحقيقة: أن ما يجري في غزة هو إبادة جماعية موثقة، لا لبس فيها، لا ينقصها سوى الضمير العالمي الذي مات تحت ركام المستشفيات والمدارس.
"الإبادة لا تتم فقط بالصواريخ، بل أيضًا بالصمت، بالتبرير، وبالإعلام المتواطئ"… هذه هي الحقيقة التي يجب أن تقال قبل فوات الأوان".
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]