الأربعاء 16 تموز , 2025 02:31

جيش الاحتلال في مأزق القوى البشرية: تهديد آخر للأمن القومي

في قلب حرب متعددة الجبهات يخوضها كيان الاحتلال منذ أكتوبر 2023، تبرز أزمة داخلية تطال البنية البشرية للجيش الإسرائيلي. لم تعد المسألة مرتبطة بعدد القتلى أو الجرحى فحسب، بل بتحولات بنيوية تضرب قدرة المؤسسة العسكرية على مواصلة الحرب بالوتيرة نفسها، وبالروح نفسها، وسط استنزاف غير مسبوق في الكوادر القتالية والنخبوية.

الأرقام التي نشرتها الصحف العبرية، نقلا عن مصادر عسكرية وأمنية، تضع الصورة في إطار أكثر وضوحاً: أكثر من 890 قتيلاً في صفوف الجيش، وأكثر من 10 آلاف جريح، إلى جانب نحو 20 ألف حالة إصابة باضطراب ما بعد الصدمة. هذه الأرقام لا تعكس فقط تكلفة بشرية، بل تكشف أيضاً عن اختلال عميق في توازن الموارد، وغياب تصور فعّال لإدارة حرب طويلة متعددة الجبهات.

لجأ المستوى العسكري إلى استخدام وحدات النخبة -التي أنشئت أصلاً لتنفيذ عمليات خاصة مركزة وسريعة- في مهام مشاة تقليدية، في سابقة تعكس عمق النقص في الكوادر المؤهلة. قناة 12 الإسرائيلية وثّقت شهادات لجنود من وحدات خاصة يعملون فترات تتجاوز 12 ساعة يومياً في مناطق القتال، مع مطالبتهم بتمديد الخدمة الإلزامية لعام إضافي. هذا النوع من الاستخدام لا يُعدّ تعديلاً تكتيكياً مؤقتاً، بل إشارة إلى مأزق استراتيجي في إدارة القوة البشرية داخل الجيش.

التقارير الصادرة عن معهد دراسات الأمن القومي (INSS) تؤكد أن الجيش بات يواجه فجوة غير مسبوقة في عدد المقاتلين المؤهلين، وأن هذه الفجوة لا يمكن سدها من خلال نظام التجنيد الحالي، في ظل فشل سياسي في فرض الخدمة العسكرية الإلزامية على كافة شرائح المستوطنين. الإشارة هنا لا تقتصر على الأرقام، بل تمتد إلى المعنويات، حيث تشير استطلاعات الرأي إلى أن 71% من الإسرائيليين يعتبرون إعفاء المتدينين -الحريديم- من الخدمة سبباً مباشراً في تراجع الحافز للتجنيد، بينما يرى 42% أن الإعفاء يؤثر سلباً على قرار عائلاتهم إرسال أبنائهم إلى الجيش.

هذا التفاوت داخل الشارع الإسرائيلي -بين من يتحملون العبء القتالي ومن يُعفون منه بدوافع دينية أو سياسية- يخلق شرخاً آخذاً في الاتساع، ليس فقط على المستوى الأخلاقي، بل في مفهوم "الجيش" والولاء له. وهو ما عبر عنه ضباط احتياط وقيادات سابقة، حذرت من أن "استمرار هذه المعادلة يُضعف شرعية الجيش نفسه، ويُحول التجنيد من التزام جماعي إلى عبء فردي".

الضغوط لا تتوقف عند حدود التجنيد، بل تمتد إلى بنية الاحتياط، التي لطالما شكلت العمود الفقري للعقيدة العسكرية الإسرائيلية. في الحرب الحالية، سُجلت حالات استدعاء للاحتياط تمتد لأكثر من 200 يوم، وسط غياب خطة واضحة لتشمل كل الوحدات، واستنزاف قدرات الجنود النظاميين والاحتياطيين. تقارير وزارة المالية -كما نشرتها Mako- تشير إلى أن استمرار الاعتماد على الاحتياط يُكلف ميزانية الكيان نحو مليار شيكل إضافي شهرياً، مع انخفاض الكفاءة الميدانية مقارنة بالجنود النظاميين المدربين.

يظهر تحول نوعي في العقيدة العسكرية الإسرائيلية. فبدلاً من خوض حروب خاطفة تقوم على عنصر المفاجأة والضربة الاستباقية، تجد تل أبيب نفسها اليوم في مواجهة حرب استنزاف طويلة تتطلب عمقاً بشرياً ومعنوياً لا يبدو متوفراً. استخدام قوات النخبة خارج وظائفها الأصلية، والاعتماد المفرط على وحدات الاحتياط، ليست تدابير تكتيكية، بل أعراض واضحة لفقدان التوازن بين الأهداف السياسية والقدرات الميدانية.

ما يعمّق الأزمة هو التوقيت الإقليمي الحرج، إذ تتزامن هذه الضغوط الداخلية مع تصاعد التهديدات من عدة جبهات في وقت واحد، ما يعني أن الجيش مطالب بالحفاظ على جهوزية عالية ولوقت طويل، بينما هو عملياً يستهلك نخبه القتالية ومصادره البشرية بوتيرة لا يمكن تعويضها. هذا التآكل التدريجي في الموارد النوعية لا يؤثر فقط على العمليات الجارية، بل يهدد قدرة الجيش على الردع في المستقبل القريب.

ما يجري في المؤسسة العسكرية لكيان الاحتلال اليوم لا يُختزل في بند تنظيمي أو خلل في منظومة التجنيد. بل هو تعبير عن أزمة مركبة،  تطال العقيدة القتالية، وتطرح تحدياً وجودياً على مشروع الهيمنة الإسرائيلي نفسه. فحين يفقد الجيش قدرته على حماية نخبه وعلى حفظ ثقة المستوطنين به، فإن الأمن القومي لا يتهدد من الخارج فقط، بل من الداخل أيضاً.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور