الإثنين 11 آب , 2025 03:24

الجمهورية الثانية في مصر: تشكُّل السلطة وإعادة تشكيل المجتمع

الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي

يطرح يزيد صايغ، في دراسته المعنونة "الجمهورية الثانية: إعادة تشكيل مصر في عهد عبد الفتاح السيسي"، الصادرة عن مركز مالكوم كير - كارنيغي للشرق الأوسط، أطروحة جديدة لفهم التحولات التي شهدتها الدولة والمجتمع في مصر منذ عام 2013. تتمثل هذه الأطروحة في أن نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي لا يمثل مجرد استمرارية أو نسخة محدّثة من الأنظمة السلطوية التي سبقته منذ ثورة يوليو 1952، بل هو يؤسس لـ "جمهورية جديدة" تمثل قطيعة جذرية ومنهجية مع إرث الجمهورية الأولى. ويرى صايغ أن المقارنات التي تُعقد أحيانًا بين نهج السيسي ونهج جمال عبد الناصر تظل سطحية، مؤكدًا أن طبيعة نظام الحكم الراهن، بنموذج القيادة الكاريزمية المدعومة عسكريًا، "إنما تمثل انقطاعًا عن الإرث السابق أكثر من كونها امتدادًا له".

واستخدام صايغ لمصطلح "الجمهورية الثانية" ليس مجرد توصيف بلاغي، بل هو أداة تحليلية تهدف إلى إعادة تأطير فهمنا للتحولات الجارية في مصر؛ فهذا المصطلح ينقل التحليل من مجرد رصد سياسات منفصلة –كالقمع المتزايد، أو سياسات التقشف الاقتصادي، أو المشاريع الكبرى– إلى فهمها كأجزاء متكاملة من مشروع واعٍ ومتكامل يهدف إلى هدم نظام قديم وبناء نظام جديد بقواعد مختلفة جذريًا؛ ففي حين عملت أنظمة ناصر والسادات ومبارك ضمن إطار "الجمهورية الأولى" التي تأسست عام 1952، والتي كان لها عقد اجتماعي واضح (وإن تآكل مع الزمن) قائم على توفير الرعاية الاجتماعية والتوظيف الحكومي مقابل الولاء السياسي، يرى صايغ أن ثورة 2011 وما تلاها من "ثورة مضادة" بقيادة القوات المسلحة في 2013 لم تكن مجرد تغيير في هرم السلطة، بل كانت حدثًا زلزاليًا حطّم أسس الجمهورية الأولى. وعليه، فإن ما يقوم به السيسي ليس "إصلاحًا" أو "ترميمًا" للنظام القديم، بل هو عملية بناء لـ "جمهورية ثانية" على أنقاض الأولى. هذا الإطار التحليلي يفسر لماذا تبدو سياسات النظام الحالي "متطرفة" أو "غير مسبوقة" في نظر الكثيرين، مثل سرعة وحجم رفع الدعم، لأنها ببساطة لا تخضع لقيود العقد الاجتماعي القديم الذي تم تفكيكه عمدًا.

يستخدم هذا التقرير، المرفق أسفل الخاتمة، دراسة صايغ كعدسة تحليلية مركزية للإجابة على السؤال المحوري: "ماذا فعلت السلطة العسكرية بالمصريين؟". والإجابة التي تقدمها الدراسة تتلخص في أن هذه السلطة قد ألغت من جانب واحد العقد الذي حكم علاقة الدولة بالمصريين لعقود، وفرضت عقدًا جديدًا بالكامل، وأعادت هندسة المجالين السياسي والاجتماعي لخدمة مصالحها الاقتصادية ورؤيتها السلطوية. ويأتي هذا التحليل في سياق نقاش أكاديمي أوسع حول طبيعة نظام السيسي، حيث تتناول دراسات أخرى جوانب مختلفة من إعادة إنتاج السلطوية وتوسع الدور الاقتصادي للجيش، لكن دراسة صايغ تتميز بتقديمها إطارًا متكاملًا يربط بين هذه الجوانب المختلفة تحت مظلة مفهوم "الجمهورية الثانية"، ولتوضيح حجم القطيعة التي يطرحها صايغ، يمكن عرض إطار مقارن بين الجمهوريتين، والذي سيمثل خريطة طريق لفهم تفاصيل التحليل في الفصول اللاحقة.

خاتمة: جمهورية على ساقين نحيلتين: تناقضات النظام ومستقبله

في ختام دراسته، يقدم يزيد صايغ تقييمًا متوازنًا ودقيقًا لطبيعة النظام الذي بناه الرئيس السيسي، مشيرًا إلى أنه بالرغم من قوته وتماسكه الظاهري في قمة الهرم، فإنه يعاني من تناقضات ونقاط ضعف هيكلية تجعل استمراريته على المدى الطويل موضع شك. يلخص صايغ هذا الوضع في تشبيه بليغ، حيث يصف النظام بأنه "أشبه برجل مفتول العضلات من فوق، إلا أنه يقف على ساقين نحيلتين بالكاد تحملانه".

تكمن نقطة الضعف الأساسية الأولى في أن النظام يعمد إلى تعديل وتكييف النظام الزبائني الأبوي الذي ورثه، بدلاً من تحويله، مما يؤدي إلى استمرار هشاشة الدولة وتجويف مؤسساتها؛ فبدلاً من بناء اقتصاد سوق حقيقي يتطلب تحرير القوى الاجتماعية المنتجة، أشرف النظام على نقل ملكية الأصول إلى إدارة هجينة عامة-خاصة تخدم دائرته الضيقة، مع إخضاع طبقة رجال الأعمال أو إقصائها، وهذه البنية، بطبيعة الحال، تعيق النمو المستدام وتجعل الاقتصاد معتمدًا على الريع والمحسوبية بدلاً من الإنتاجية والابتكار.

أما نقطة الضعف الثانية، والأكثر خطورة، فتتمثل في عجز النظام عن فرض هيمنة اجتماعية وسياسية حقيقية؛ فهو يلجأ إلى الهيمنة الإيديولوجية القسرية والسيطرة على الفضاء الإعلامي، لكن هذا لا يمكن أن يستبدل الحاجة إلى تحقيق توافق مجتمعي حول الأهداف والوسائل، أو ما يُعرف بـ"الاقتصاد الأخلاقي" الذي ينظم العلاقة بين الدولة والمجتمع. يتم الحفاظ على الاستقرار السياسي من خلال مزيج من القمع الشديد وإجراءات اقتصادية تخفيفية، مثل برامج الدعم النقدي للفقراء. لكن هذه المساعي، كما يؤكد صايغ، لا تؤدي إلى تحقيق توافق فعلي، خاصة مع التخفيض الحاد في الإنفاق على الخدمات الاجتماعية الأساسية ورفض تطبيق إصلاحات هيكلية حقيقية.

ونتيجة لهاتين النقطتين، يحافظ النظام على تماسكه من خلال الاقتراض المكثف، ويتدبر أموره اقتصاديًا بفضل المساعدات الخارجية المتكررة، لكن استقراره يظل مهددًا بشكل دائم بسبب اعتماده المفرط على القوة القسرية.

يطرح صايغ في النهاية سؤالًا مفتوحًا حول مصير الجمهورية الثانية: هل ستتوطد أركانها، أم ستراوح مكانها، أم ستتداعى؟ الإجابة على هذا السؤال تعتمد على كيفية تفاعل النظام مع التحديات المتعاظمة (المالية، الاجتماعية، البيئية، والأمنية). على المدى القصير، قد ينجح النظام في الحفاظ على تماسكه، لكن على المدى الطويل، من المحتمل أن تكون نفس الوسائل والأساليب التي يستخدمها لضمان بقائه هي السبب في انهياره.

ومع ذلك، يخلص صايغ إلى استنتاج نهائي بالغ الأهمية: حتى لو لم تستمر الجمهورية الثانية بعد رحيل السيسي، فإن "القطيعة بينها وبين جمهورية ما بعد العام 1952" هي قطيعة لا عودة عنها. لقد تم تفكيك العقد الاجتماعي القديم بشكل نهائي؛ أما الإرث الأكثر ديمومة الذي ستتركه هذه الحقبة، فهو "تراكم الثروات الخاصة بأعضاء الدائرة الضيقة للنظام... ما يشير إلى حدوث عملية دمج جديدة بينهم وبين الشريحة العليا من الطبقة الوسطى". هذه الطبقة الجديدة، التي تمزج بين السلطة العسكرية والثروة الرأسمالية، قد تكون هي النتيجة الأكثر رسوخًا للجمهورية الثانية، وهي التي سترسم ملامح مستقبل مصر، سواء كانت تأثيراتها إيجابية أم سلبية.

لتحميل الدراسة من هنا


الكاتب: شادي علي




روزنامة المحور