الإثنين 29 أيلول , 2025 02:57

الصراع الوجودي بين المقاومة والاحتلال: ملامح حرب الاستنهاض

مظاهرات في الغرب ومجازر في غزة

دخلت المنطقة منذ السابع من تشرين الأول 2023، ومع عملية طوفان الأقصى، مرحلة جديدة من الصراع مع العدو الصهيوني. مثّلت العملية كسرًا لحالة الصمت التي استمرت سنوات طويلة تجاه جرائم الاحتلال، من اعتقالات وانتهاكات للمسجد الأقصى وتعذيب للأسرى. وقد أحدثت الهزّة الأولى شرخًا عميقًا في صورة التفوق الأمني والاستخباري للكيان، لتبدأ سلسلة من التفاعلات الإقليمية شملت فتح جبهات في لبنان واليمن والعراق، إلى جانب دخول إيران علنًا في مواجهة مباشرة عبر عمليتي "الوعد الصادق" عامي 2024. وعلى الرغم من محاولات العدو توجيه ضربات استباقية لإيران وتدمير بنيتها النووية والعسكرية، استطاعت الأخيرة أن تفرض شروطها وتمنع الاحتلال من تحقيق أهدافه الاستراتيجية.

هذه الحرب، التي بدت في بداياتها كصراع عسكري محدود، تحوّلت إلى مواجهة شاملة تستهدف مشروع المقاومة بأكمله. لكن المقاومة، بدمائها وصمودها، رفضت أن تكتفي بالشعارات كما فعلت الأنظمة العربية، فاختارت المواجهة المباشرة، لتتجلى حقيقة الصراع: صراع بين العدالة والظلم، بين الحرية والاستعمار. لقد عرّت الحرب النظام الدولي الذي يقف بلا تردد خلف إسرائيل، مؤكدة أن ما يجري ليس مجرد نزاع محلي، بل حرب صهيو-أميركية أوروبية على القيم الإنسانية. من هنا ولدت تسمية "حرب الاستنهاض"، إذ لم تعد المعركة مقتصرة على الأرض المحتلة، بل استنهضت وجدان شعوب المنطقة والعالم.

مفهوم حرب الاستنهاض يتجاوز البعد العسكري ليطال القيم الإنسانية نفسها. الجرائم في غزة حرّكت الضمائر في الشرق والغرب، وأظهرت أن العالم أمام مفترق: إما الانغماس في الماديات والقوة العمياء، أو العودة إلى مبادئ العدالة والكرامة. وقد أكد السيد علي الخامنئي أن أي إنسان، مسلمًا كان أم غير مسلم، إذا عرف حقيقة ما يجري في فلسطين سيناهض الاحتلال، لتصبح المناهضة فعلًا واعيًا منظمًا يتجاوز التعاطف العاطفي إلى المواجهة السياسية والفكرية والعملية.

أما من ناحية ميزان القوة، فقد كشفت الحرب أن التفوق العسكري والتكنولوجي للعدو لا يلغي عناصر قوة المقاومة. فالإصرار، والاستقلالية، والهوية الجامعة، شكّلت أسسًا للتوازن رغم غياب التكافؤ. المقاومة تقاتل في مواجهة تحالف عالمي يمول ويدعم إسرائيل، ومن دون سند حقيقي من القوى الدولية الصاعدة كالصين وروسيا التي فضّلت الحياد. ومع ذلك، نجحت قوى المقاومة في فرض معادلات ردع جديدة عبر المرونة والصمود، وأدخلت الحرب أبعادًا تكنولوجية غير مسبوقة باستخدام المسيرات والروبوتات والمراكب غير المأهولة، ما جعلها ساحة اختبار لحروب المستقبل.

طبيعة هذه الحرب تتميز بكونها هجومية للمرة الأولى منذ نشأة الكيان، إذ جرى نقل المعركة إلى داخل الأراضي المحتلة وفرض حالة نزوح وهجرة بين المستوطنين. كما أنها حرب طويلة ومكلفة، متعددة الجنسيات، يشترك فيها مقاتلون من فلسطين ولبنان واليمن والعراق وإيران، ما يجعلها حربًا هجينة عابرة للحدود والهويات. وهي أيضًا حرب ضرورة، فرضتها سياسات اليمين الصهيوني المتطرف الذي حوّل عدوانه إلى مشروع إبادة جماعية. والأهم أنها حرب وجودية، إذ لم يعد ممكنًا التعايش بين مشروع استعماري استيطاني ومشروع مقاومة أصيل متجذّر بالأرض والتاريخ.

مرونة المقاومة في هذه المواجهة شكّلت نقطة قوة أساسية، حيث تكيّفت مع اختلال موازين القوى واستفادت من الدروس المتراكمة لتطوير تكتيكاتها ومبادراتها. وهذا التعلّم المستمر عزز قدرتها على مواجهة التفوق الإسرائيلي الأميركي بأساليب غير تقليدية.

وتتميز حرب الاستنهاض بعدة خصائص لافتة. فهي حرب عسكرية وثقافية في آن، تستقطب شعوب العالم لأنها تقوم على أساس إنساني أخلاقي يرفض الظلم. كما أنها حرب يقودها القادة بأرواحهم، حيث يتقدمون الصفوف ويستشهدون مع مقاتليهم، ما يرسخ مصداقيتها. كذلك أظهرت الحرب دور البيئة الشعبية التي شكلت الحاضنة الصلبة للمقاومة، وجعلت من الشعب نفسه خط دفاع أول. في الوقت نفسه، كشفت هذه المواجهة زيف كثير من الحكومات العربية والإسلامية والتيارات السياسية التي لطالما ادعت حمل القضية الفلسطينية بينما هي في الواقع متواطئة أو صامتة.

أما أركان الصراع فتقوم على ثلاثة عناصر أساسية: الشرعية، الكلفة، والزمن. شرعية المقاومة مستمدة من الشعوب حتى لو افتقدت الغطاء السياسي الرسمي. أما الكلفة فهي مرتفعة ماديًا نتيجة اختلال موازين القوى، لكنها مقبولة معنويًا لأنها تعبّر عن دفاع عن الحق والكرامة. ويبقى عامل الزمن حاسمًا: فالمحور الصهيو-أميركي يسعى إلى تحقيق انتصارات سريعة لإرباك المقاومة، بينما الأخيرة تراهن على الصمود الطويل والتراكم المرحلي الذي يحوّل الزمن إلى عنصر قوة.

في المحصلة، حرب الاستنهاض ليست مجرد مواجهة عسكرية بين إسرائيل ومحور المقاومة، بل هي مشروع حضاري إنساني يعيد رسم معادلات المنطقة والعالم. إنها حرب الوعي والإرادة، حرب تضع البشرية أمام سؤال جوهري: أي مستقبل نريد؟ مستقبل يقوم على الاستعمار والوحشية، أم مستقبل يصنعه الرفض والحرية والكرامة؟





روزنامة المحور