الخميس 15 أيلول , 2022 12:03

كيف ساهمت واشنطن في ضرب الاتحاد الأوروبي؟

الاتحاد الأوروبي

تعتمد الولايات المتحدة الأمريكية في سياساتها الخارجية على مبدأين أساسيين لسيطرتها على الدول واضعافها، وترسيخ نفسها كـ "قوة عظمى". المبدأ الأول هو تدمير القوى الدولية البديلة حتى لو كانت هذه القوى هي حليفة لواشنطن، والمبدأ الثاني هو عرقلة نمو الاقتصادات الكبرى. ومن خلال الحرب الروسية الأوكرانية استطاعت الولايات المتحدة تحقيق هدفها بإضعاف الاتحاد الاوروبي وإبقائه تحت سيطرتها. فحققت الحرب لواشنطن، مليارات الدولارات التي لا تزال الدول الأوروبية تدفعها من خزائن الاتحاد الأوروبي بحجة المساعدات العسكرية، وحققت المليارات بسبب استيراد أوروبا للغاز الأميركي الأغلى بأضعاف عن الغاز الروسي، ونسفت فكرة إنشاء "جيش اوروبي" الذي طالب به القادة الأوروبيون إثر الانسحاب الأميركي من أفغانستان وإنشاء قوة عسكرية مستقلّة عن واشنطن. كما استطاعت أن تعيد التوترات والانشقاقات بين دول الاتحاد الذي يؤدي إلى ضعف القرار السياسي الأوروبي بطبيعة الحال، بالإضافة الى بدء توجه الدول الأوروبية الى الانسحاب من الاتحاد وإضعاف العملة الأوروبية اليورو حتى وصلت الى مستويات لم يشهدها منذ 30 عامًا. أدت إلى تهديد الأمن المعيشي الأوروبي وزعزعة اقتصادات دول الاتحاد حتى وصل بعضها الى الانهيار.

وفي هذا السياق، تشرح الورقة التالية السياسات الأمريكية تجاه الاتحاد الأوروبي التي تظهر السيطرة على اوروبا حيث تجد الدول الأوروبية نفسها مضطرة لتنفيذ القرار الأميركي حتى لو أدى ذلك إلى التدمير الذاتي.

السيطرة الأمريكية على أوروبا عام 1947

بدأ النفوذ الامريكي في أوروبا فعليًا بعد الحرب العالمية الثانية، من خلال مشروع مارشال الذي أعلنه وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جورج مارشال من أجل مساعدة البلدان الأوروبية على إعادة إعمار ما دمرته الحرب العالمية الثانية وبناء اقتصاداتها من جديد. وذلك عبر تقديم هبات عينية ونقدية، بالإضافة الى حزمة من القروض الطويلة الأمد. حينها قبلت 17 دولة أوروبية الاستفادة من المشروع. تم إنفاق 13 مليار دولار خلال 4 سنوات استفاد منها بشكل أساسي كل من فرنسا وإيطاليا والمانيا الغربية والنمسا وبلجيكيا وسويسرا والنرويج واليونان وبريطانيا. وبعد عام من بداية المشروع، تم إنشاء حلف شمال الأطلسي عام 1949.  وهكذا أصبحت أوروبا مرتبطة اقتصاديًا بأميركا من خلال مشروع مارشال، ومرتبطة أمنيًا من خلال حلف الناتو الذي تقوده أيضًا أميركا. ومنذ ذلك الوقت لم تستطع أوروبا الهروب من نفوذ وتأثير واشنطن على قرارها.

خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي

دفعت الولايات المتحدة الاميركية بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي من أجل اعطاء نفسها حريّة التصرّف في السياسة الخارجية تجاه الاتحاد الأوروبي، البعد الاميركي البارز في خروج بريطانيا هو خشية المؤسسة الحاكمة من انتعاش خطاب انسحاب اميركا من القضايا العالمية. وعبر عن ذلك بدقة ريتشارد هاس رئيس العلاقات الخارجية بالقول "من المحتمل جدا أن يستخدم الأميركيون الداعون إلى خفض دور الولايات المتحدة في العالم خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي كدليل آخر على أن الحلفاء التقليديين لم يتحملوا نصيبهم من المسؤولية، وأن الولايات المتحدة التي تواجه عجزا متزايدا واحتياجات محلية ضخمة لا ينبغي أن تعوض هذا الفارق". أدى خروجها الى تدهور كبير في اقتصادها، حيث تشهد بريطانيا اليوم أعلى معدّل تضخم منذ أربعين عامًا.  وبحسب جيمس سميث، الخبير الاقتصادي فى بنك ING الهولندي، فإن الاقتصاد البريطاني من المرجح أن ينكمش فى الربع الثاني من العام الجاري، أي أنه سيكون قريبًا جدًا من الركود. حتى لو تم تجنبه، فإننا سنرى فقط أرقام نمو غير مرضية إلى حد ما.

إلى ذلك، أدى خروج بريطانيا الى زعزعة الاتحاد الأوروبي، حيث تسبب بالغموض السياسي الذي عانت منه الدول الهشة وأدى الى مخاطر مالية واقتصادية في دول الاتحاد مثل إسبانيا والبرتغال. وتسبب بزيادة الشك بجدوى البقاء في الاتحاد من قبل الأحزاب المعارضة، مثل الدنمارك، هولندا، بولندا، ألمانيا، النمسا، فرنسا، هنغاريا، إيطاليا واليونان. كما تسبب بمخاطر اقتصادية كبيرة على الدول التي تعتمد على التصدير لبريطانيا جراء الانسحاب من السوق المشترك، مثل هولندا، بلجيكيا، السويد، أيرلندا، بلجيكا، إسبانيا، مالطا، بالإضافة الى الضغوط المالية الكبيرة للدول التي تعاني من عجز مالي وديون ونظم هشة، مثل أيرلندا، لوكسمبورغ، إيطاليا، اليونان، قبرص، مالطا، إسبانيا، البرتغال. وبحسب ستراتفور للتحليل المعلوماتي، فإن الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي أدى الى تشويش المشهد السياسي في أوروبا.

الحرب الأوكرانية وإعادة السيطرة الأميركية على اوروبا

في المشهد الأوروبي اليوم يمكن ملاحظة حرب في الشرق وانهيار في الغرب، وتراجع في قيمة العملة الأوروبية الأوروبية، كما يعاني من الانقسامات والانشقاقات بين الغرب والشرق. مع إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدء العملية العسكرية على أوكرانيا، أرسلت واشنطن تطمينات حول إيجادها لبدائل عن الغاز الروسي، وعبّر الرئيس الأمريكي بايدن عنها في مؤتمر صحفي جمعه بالمستشار الألماني أولف شولتز، حيث قال: "لن يكون هناك خط نورد ستريم بعد ذلك، وسننهي ذلك، أعدك أننا سنكون قادرين على القيام بذلك". وتعهد أن الولايات المتحدة ستدافع عن جميع أراضي حلف الأطلسي. وأمر بإرسال المزيد من القوات الأمريكية إلى الجهة الشرقية للحلف لتهدئة مخاوف الحلفاء وطمأنتهم، ووعدهم بأن اقتصادهم لن يتأثر.  ولكن في الواقع، يشهد العالم اليوم أن أي من هذه الوعود لم تتحقق بعد.

بعد شهرين من الحرب، كانت دول الاتحاد الاوروبي قد دفعت 550 مليون دولار كمساعدات عسكرية لأوكرانيا، وهو رقم لم ترضَ به واشنطن وأوكرانيا حيث صرّح الرئيس الأمريكي جو بايدن في تموز 2022 "على الاتحاد الأوروبي تقديم المزيد من الدعم العسكري لأوكرانيا" وقال الرئيس زيلينسكي "أوكرانيا لا تدافع عن نفسها فقط بل تدافع عن اوروبا كلها لذلك على الاتحاد الأوروبي ارسال المزيد من الدعم العسكري لأوكرانيا". وقامت كل من الولايات المتحدة واوكرانيا بممارسة الضغوط القصوى على دول الاتحاد الأوروبي من أجل رفع الدعم الذي ستستفيد منه واشنطن بالدرجة الأولى. فرفع الاتحاد الدعم العسكري الأوروبي الى 1.1 مليار دولار، وخصصت 550 مليون دولار كمساعدات إنسانية. صرّح رئيس المجلس الأوروبي، شارل ميشيل في 18 تموز 2022 أن المساعدات العسكرية لأوكرانيا وصلت الى 2.5 مليار دولار يورو. واللافت أن واشنطن كانت هي المستفيد الأكبر من التقديمات الأوروبية لأوكرانيا، لأن جميع الأسلحة تم شراؤها منها، حيث سجلت الصادرات العسكرية الأمريكية اعتبارًا من آب/أغسطس ارتفاعًا كبيرًا يبلغ 57 مليار دولار في عام 2022 بينما سجّلت 36 مليار دولار في عام 2021.

 الى ذلك، تورطت بعض الدول الأوروبية في الدعم العسكري المباشر لكييف، بولندا على سبيل المثال تحولت الى الممر الوحيد لعبور الأسلحة، الأمر الذي وضعها في شبه حالة حرب مع موسكو.  

انهيار اليورو

ومع بدء الحرب، تفاقمت أزمة دول الاتحاد الأوروبي التي تعتمد على الطاقة بشكل أساسي على روسيا، وبسبب الإجراءات الاقتصادية أو ما يسمى عقوبات فرضت موسكو دفع ثمن الوقود الاحفوري بالروبل الروسي. وبات التأثير يضرب دول الاتحاد الأوروبي التي أجبرت على تبديل اليورو بالروبل الروسي للدفع لموسكو، وبعد ذلك بدأت وتيرة انهيار اليورو.  بحسب أسوشييتد برس فإن الطلب على الروبل سيرتفع بسبب الحاجة الأوروبية المتزايدة للغاز الروسي مقابل انخفاض الطلب على اليورو، لذلك من المتوقع أن تنخفض قيمة اليورو مقابل ارتفاع قيمة الروبل الروسي. في تموز 2022 تساوى سعر اليورو مع الدولار، الأمر الذي لم يحدث منذ 20 عامًا. وفي ايلول 2022، انخفض اليورو الى ما دون الدولار، وسجل 1 يورو مقابل 1.01 دولار.

أصدر يوروستات للإحصائيات التابع للمفوضية الأوروبية تقريرًا أوضح فيه قصة انهيار اليورو السريع. وكشف أن واشنطن هي اللاعب الأساسي في انهيار العملة الاوروبية. حيث أدّت الحرب الأوكرانية الى ارتفاع أسعار الطاقة والمحروقات بشكل حاد والى ارتفاع التضخم في منطقة اليورو الى أكثر من5%. وهي أعلى نسبة تسجلها الطاقة الاوروبية منذ ثلاثين عامًا. وفي الوقت الذي كان اليورو ينهار، كان الطلب يزداد على الدولار في الأسواق العالمية مما يجعله يقوى ويصعد، ولأن الأسواق الطاقة العالمية بخلاف السوق الروسي مسعّرة بالدولار. ومع ارتفاع اسعار الطاقة، كان الدولار يرتفع هو الآخر معها. وبما ان اليورو هو العملة الرسمية لـ 20 دولة من الاتحاد الأوروبي. فإنّ انهيار العملة الأوروبية يؤثر على أكثر من 340 مليون شخص يستخدم هذه العملة يوميًّا، ناهيك عن التوقعات التي بدأت تتحقق بارتفاع الأسعار ومزيد من التضخم، ومزيد من انهيار العملة في الأشهر القادمة، خصوصًا مع اقتراب فصل الشتاء، الفصل التي تحتاج فيه دول الاتحاد الى مزيد من امدادات الغاز. ويرى الخبراء أن اقتصاد الاتحاد الأوروبي لن يتعافى من دون تدخل البنك المركزي الأوروبي أو بنك الفيدرالي الأمريكي، وبما أن بنك المركزي الأوروبي ينفق المليارات على الحرب الأوكرانية، ويرفع الفائدة من أجل السيطرة على المسار التصاعدي للتضخم ولا يتخذ إجراءات جدية لإنقاذ العملة الأوروبية، يمكن أن يتدخل البنك الفدرالي الأمريكي، مما يعني مزيدًا من السيطرة الأمريكية على أوروبا.  

التباين في مواقف دول الاتحاد الأوروبي

على الرغم من استجابة جميع دول الاتحاد الأوروبي لفرض الإجراءات العدوانية على روسيا، إلا أنّ كل الدول راوغت على طريقتها لإنقاذ اقتصادها. فعندما طلبت روسيا دفع ثمن الوقود الاحفوري بالروبل الروسي، رفضت بعض دول الاتحاد وقطعت عنها روسيا النفط مثل بلغاريا، لافيتا، بولندا هولندا، فنلندا، الدنمارك وفرنسا فيما بعد. وفي ذات الوقت وافقت دول أخرى على الدفع مثل ألمانيا، النمسا وهنغاريا، وذلك عبر شركات النفط الخاصة. وفي تقرير لوكالة بلومبرغ الأمريكية، كشف عن أن هناك 10 دول من الاتحاد الأوروبي فتحوا حسابات خلسةّ في بنك غازبروم لسداد ثمن إمدادات الغاز الروسي بالروبل، لكنهم لا يعلنون عن ذلك.  هذا الأمر جعل دول الاتحاد الأوروبي في حالة تباين وتوتر شديد فيما بينهم.

ومع استمرار الحرب في اوكرانيا، اختلفت مواقف دول الاتحاد على قرار استمرار دعم اوكرانيا ماديًّا وعسكريًّا في ظل الارتفاع المتسارع لحالة التضخم الاقتصادي وتراجع قيمة العملة الأوروبية. صرّحت وزيرة الدفاع الألمانية أن ألمانيا أخبرت أوكرانيا عن محدودية قدرتها العسكرية على تقديم المزيد من الأسلحة، ويبدو أن دول الاتحاد ستحذو حذوها. كما ان بعض دول الاتحاد الأوروبي بدأت تطالب بحل النزاع الروسي الأوكراني بشكل سلمي، وتسعى إلى تدخل في وساطة بين كييف وموسكو، وأصبحت لا ترى روسيا عدوًا لها. كفرنسا على سبيل المثال، حيث صرّح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في جلسة للبرلمان الأوروبي في 8 أيار 2022 بأن السلام في أوروبا لا يمكن أن يبنى من خلال اذلال روسيا، وقال "إننا لسنا بحالة حرب مع روسيا"، مؤكدًا أن واجب أوروبا هو الوقوف مع أوكرانيا لوقف إطلاق النار، وبناء السلام مع روسيا. وكانت فرنسا قد بدأت محاولات لعب دور الوسيط بين كييف وموسكو لوقف الحرب بينهما.

فقد صرّح المستشار الألماني اولاف شولتس، أن الحل الوحيد للخروج من تلك الحرب هو التفاهم الديبلوماسي ولكن بدون أن تضر بالمصالح الأوكرانية. بينما تحاول ايطاليا لعب دور الوسيط لحل النزاع الروسي الأوكراني، حيث قدّم رئيس وزراء الحكومة الإيطالية ماريو دراجي في أيار 2022 خطة مارشال للرئيس الأمريكي جو بايدن لإعادة إعمار أوكرانيا، وهي الخطة ذاتها التي أحكمت السيطرة الأمريكية على دول الاتحاد الأوروبي اقتصاديًا وأمنيًا. هذه التصريحات المتواترة بين أكبر ثلاث دول في الاتحاد الاوروبي فرنسا، ألمانيا، ايطاليا، تؤكد على توافقهم على فكرة التفاهم السياسي مع موسكو ولكن يختلفون على الطريقة والشروط.

انسحاب الدول من الاتحاد الأوروبي

أكد المحلل الاستراتيجي الأمريكي، جورج فريدمان، أن الاتحاد الأوروبي انهار فعلًا بعد خروج بريطانيا منه وليس قيد الانهيار، مشيرًا إلى أن الاتحاد يمكن له أن يستمر في حال امتلاكه سياسة مشتركة.  وفي عام 2021 خرجت أصوات فرنسية تطالب بانسحاب فرنسا من الاتحاد الأوروبي كما فعلت بريطانيا، حيث أطلق مشروع سمي فريكست. واليمين المتطرف والوسط المهيمنان على الحكومة الفرنسية يدعمون فكرة الانسحاب، وخصوصًا بعد التحديات الفرنسية الاقتصادية والاجتماعية على خلفية الحرب الروسية والاوكرانية.

الى ذلك تسعى ألمانيا الى انقاذ اقتصادها وتأسيس جيشها من جديد حيث أعلنت بعد بدء الحرب الاوكرانية تخصيص 112 مليار دولار للجيش الألماني وزيادة الإنفاق العسكري على الدفاع ليشكل 2% من إجمالي الناتج الداخلي. 

على الرغم من التصريحات المتكررة لقادة الاتحاد الأوروبي بأن "الكتلة لا يمكنها الانضمام إلى الولايات المتحدة في مثل هذا القرار بسبب تأثير ذلك في الأسر والشركات"، فإنّ البنوك المركزية الأوروبية ما زالت في حالة انتظار للقرار الأميركي. ورغم إدراك جميع الأطراف للتبعات الكارثية على أوروبا اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً للعقوبات الأميركية على مختلف الصادرات الروسية وحتى تبعات حجر ومصادرة أموال الأوليغارشية الروسية، فإن أوروبا تجد نفسها مضطرة للخضوع وتدمير نفسها ذاتياً لتنفيذ القرارات الأميركية.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور