في فجر 2 أيار/مايو، دوت الانفجارات في محيط القصر الرئاسي في العاصمة السورية دمشق، إثر غارة جوية نفذها الجيش "الإسرائيلي". لم تُخلّف الغارة ضحايا تذكر، لكنها تركت أثرًا رمزيًا بالغ الخطورة. إنها ليست مجرد ضربة عسكرية؛ إنها رسالة سياسية – استعراضية، يُراد لها أن تؤسس لمعادلة ضغط إقليمي شديدة الحساسية، عنوانها الظاهر: "حماية الدروز"، لكن مضمونها الحقيقي يتجاوز ذلك بكثير: إنها إعادة تشغيل لآلية استعمارية قديمة تتوسل بـ"الأقليات" لتفتيت المجتمعات وتحويلها إلى كانتونات تابعة وظيفيًا للمركز الإمبريالي – أي "إسرائيل" في هذه الحالة.
ليست هذه المرة الأولى التي تُستثمر فيها الأقليات في مشروع التمزيق الشرق أوسطي. التاريخ، كما يعلمنا دومًا، لا يُكرر نفسه إلا على شكل مهزلة دموية. الأكراد في العراق، والأمازيغ في المغرب، والشيعة في الخليج، والقبائل في ليبيا – كلها تُستدعى كلما أرادت قوة خارجية أن تضغط على المركز السياسي لدولة ما، أو أن تفتح ثغرة في جدار السيادة الوطنية. واليوم، الدروز في سوريا، تحديدًا في جبل العرب – وفي بيئة مُحيطة بالعاصمة دمشق – يُراد لهم أن يتحولوا إلى الأداة الجديدة في هذه اللعبة الخطرة.
الضربة الرمزية: رسالة إلى الجولاني
توقيت الضربة وموقعها يُظهران بوضوح أن الهدف ليس عسكريًا، بل سياسي ونفسي بامتياز. القصر الرئاسي هو مركز السلطة الرمزية في الدولة. ضرب محيطه، حتى دون إحداث ضرر مباشر، هو فعل استعراض للهيمنة وللإرادة المطلقة، يشبه إلى حد كبير سياسة "الصدمة والترويع" التي استُخدمت في العراق. الرسالة إلى الجولاني واضحة: لا خطوط حمراء تُقيّدنا، ولا حصانات تحميك، ونحن نملك اليد الطولى – في الجو، وعلى الأرض، ومن خلال اختراق الأقليات.
لكن ما يُخفيه هذا الاستعراض هو في الواقع شعور متصاعد بالقلق الإسرائيلي من التحولات الأخيرة في الداخل السوري، خصوصًا اتفاق الدولة مع وجهاء السويداء، والتقدم الحاصل في ترسيخ سلطة الدولة على مناطق أطراف دمشق، مثل جرمانا وأشرفية صحنايا، رغم وعود إسرائيل بـ”الحماية” لهذه المناطق.
ملف الأقليات: الاستخدام الإمبريالي المتجدد
تستند السياسة "الإسرائيلية" إلى منطق مكيافيلي قديم: "فرّق تَسُد". هذا المنطق هو جوهر الاستراتيجية الغربية منذ أن تقاسم الفرنسيون والبريطانيون المشرق العربي في اتفاقية سايكس-بيكو. كلما برزت دولة مركزية قوية، بدأت القوى الغربية و"إسرائيل" تُلوّح بـ"حقوق الأقليات" و"التمثيل الفدرالي" و"الهويات المهمشة". هذه اللغة المبطّنة بـ"الإنسانية" و”"حقوق الإنسان" تخفي نية واضحة: ضرب فكرة الدولة الموحّدة، وتحويل الهويات إلى أدوات تفاوضية على حساب السيادة.
الاستثمار في الدروز، كما هو حاصل اليوم، يعكس هذا التوجّه بامتياز. "فإسرائيل" لا ترى في الدروز مكوّنًا سوريًا يجب دعمه لأجل اندماجه في مشروع وطني جامع، بل ترى فيه بوابة لاختراق الدولة من الداخل، خصوصًا بعد أن فشلت معظم مشاريعها السابقة في الشمال (عبر المسلحين التابعين لهيئة تحرير الشام)، وفي الشرق (عبر قوات قسد التي اصطدمت بمحدودية الدعم الأميركي).
التحدي الأكبر: الطموح "الإسرائيلي" يصطدم بالواقع الوطني
المفارقة الساخرة، أن التيار الدرزي الأكثر تماهيًا مع المشروع ""الإسرائيلي" – بقيادة حكمت الهجري – بات اليوم في عزلة اجتماعية، بعد الاتفاق الأخير في السويداء، والذي أظهر أن الغالبية الساحقة من الدروز يرفضون أي طرح انفصالي أو صدامي مع الدولة السورية.
هذا الرفض الشعبي يُصيب المشروع "الإسرائيلي" في مقتل. فلا يمكن تسويق مشروع "حماية الأقليات" دون "أقليات" تريد الحماية. ولا يمكن زعزعة الدولة دون قاعدة محلية حاضنة. "إسرائيل"، التي تبرع في صناعة "الواقع الافتراضي" عبر الإعلام والدبلوماسية، تواجه في الداخل السوري واقعًا صلبًا يعجز عن التفاعل مع خيالها السياسي.
الشرع وتركيا: بين الواقعية السياسية والتحدي الإقليمي
التحدي الذي يواجه أبو محمد الجولاني لا يقتصر على الردّ على الغارة، بل في إدارة ملفات أكثر تعقيدًا تتداخل فيها الرهانات الدولية. "إسرائيل" اليوم تُواجه تركيا، وليس دمشق فقط، في مشروع إعادة بناء الدولة السورية. وتركيا، التي تربطها مصالح استراتيجية بأمن الحدود وبمنع تمدد الفدرلة، ترى في استقرار دمشق عنصرًا حاسمًا في معادلتها الأمنية.
من هنا، فإن التنسيق التركي مع الجولاني يُقلق "إسرائيل" بدرجة تفوق قلقها من بقاء الأسد سابقًا. الجولاني ليس شخصية مُستنفذة، بل يُنظر إليه دوليًا كممثل شرعي لمرحلة جديدة، وقد بدأت واشنطن تُعيد ترتيب أوراقها للتفاوض معه. هذا ما يفسر التغيير في الخطاب "الإسرائيلي"، الذي لم يعد يُعامل الحكم الجديد كسُلطة خارجة عن الشرعية، بل كـ"نظام" قائم، يجب الضغط عليه من داخل شروط النظام الدولي الجديد.
رهان خاسر: استراتيجية الأقليات تنقلب على أصحابها
ما تفعله "إسرائيل" في سوريا اليوم، يُذكّرنا بتجاربها الفاشلة في العراق ولبنان. في العراق، فشلت رهاناتها على تقسيم البلاد عبر دعم المكوّن الكردي الذي رفض في النهاية الانفصال الكامل. وفي لبنان، انتهت محاولتها لإقامة "حزام أمني" درزي ومسيحي إلى هزيمة كبرى على يد المقاومة.
وفي سوريا، يُعاد إنتاج هذه التجربة، ولكن بشكل أقل فعالية. ألم يُدرك السوريون، بعد كل ما مرّوا به، أن الخطابات التي تُروّج لحقوق الأقليات ليست بريئة، بل تُخفي وراءها مشروعًا لتفكيك الدولة عبر تضخيم الهويات الصغرى وتحويلها إلى أدوات وظيفية بيد الخارج؟ وأصبح سؤال "مَن المستفيد؟" هو المعيار الأخلاقي والوطني الذي يُحاكم به الخطاب الطائفي أو العرقي، حتى عندما يُلبس لبوس الحقوق.
هل الأقليات في مواجهة الدولة… أم شركاء في المواطنة؟
في نهاية المطاف، فإن "إسرائيل" – ومعها شركاؤها في الداخل – يُراهنون على تفكيك سوريا من خلال الأقليات، لكنها لعبة انتهت صلاحيتها. لا الدروز وقود لمشاريع خارجية، ولا السوريون مستعدون لتكرار سيناريوهات العراق ولبنان. وما لم يدرك الجولاني أن الشرعية لا تُصنع في البيت الأبيض، بل في الميدان السوري، فإن غارات "إسرائيل" ستستمر، ليس لأنها قوية، بل لأن الردّ ضعيف وبالأحرى ليس هناك رد.
أما أولئك الذين باعوا انتماءهم باسم "الحماية"، فعليهم أن يتذكروا أن إسرائيل لم تحمِ أحدًا قط. من أنطوان لحد إلى مسعود برزاني، القائمة طويلة لمن وظّفتهم القوى الاستعمارية ثم تخلّت عنهم حين انتهت الحاجة إليهم. فهل يريد حكمت الهجري والجولاني أن يكونا الاسمَين الجديدين على هذه القائمة المهزومة؟
ولعلّ ما يفوت صُنّاع القرار في تل أبيب، أن اللعب بالنار الطائفية أو العرقية، قد ينتهي إلى إحراق الجميع – بما فيهم الذين ظنوا أنهم يتحكمون في اللهب.
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]